جنازة قلم
دعوه يموت فلا داعي لبقاءه ... و لا داعي هناك لفضح المزيد من الهواجس ... فما لم يحتفظ به من اسراري كان كافيا . و ما نشر لم يكن قليلا . طلبت منك ان تصمت في اوقاتك الاخيرة .. فليس كل ما يعرف يقال .. و ليس الافشاء من اخلاق الاصدقاء ... و انت لم تعد من الاصدقاء ... فأحييك اليوم على ما قدمته لي .. و ها انا اعلن استقالتك ايها القلم.. فلتمت ايها الصديق الخائن لانني اريد ان اعيش بغموض ..
كانت هذه اخر العبارات التي كتبها صديقي الكاتب و هو يرثي قلمه , وجدتها على قصاصة ورق حزينة .. تندب حض اخواتها من الصفحات و ترثي السطور الفارغة , التي ستبقى فارغة .
اسئالها عن احوال الصديق فلم تكن تجيب . فلا قرطاس هناك ينطق بالاجابة ... و لا حبر يزين سطورها بعد اليوم ... يجلس قرب نافذته المطلة على الواقع و هو يهرب من ماضيه محاولا ايجاد نفسه .. لم يعد في يديه القلم كما كان يحمله دائما .. و لا يغوص في خياله كالسابق .. فعندما كنت اناديه لم يكن يسمع . و اليوم يشعر بخطواتي قبل دخولي حجرته .. كان ينصت إلى بوحي و نحن نحتسي الشاي . ليضيف ذلك إلى البوم مخيلته التي تحول الصور إلى سطور ..
يسألني كما كان يفعل .. و ارى الشحوب قد اخذ من وجهه ملاذا .. يحاول ان يبدوا طبيعيا .. و يعد الشاي كما كان دائما . و يبتسم كما كان .. و يمشي كما كان ... لكنني لا اراه كما كان .. لانه يحاول ان يرفع حاجبيه بقوة و يفرج عن شفاه , ليبدوا انه يبتسم . ابتسامة حزينة . فطالما جعله القلم يبتسم .. حين يسرق كل همومه ليسكبها على السطور الفارغة .. و اليوم لا حبر يمتص آلامه .
نهض كي يزيل اثار جريمته ... و يمسح الحبر المتناثر في اركان الحجرة .. و يلملم اشلاء القلم المتحطم ... علمت انه قد قتل قلمه في الصباح ... لان الحبر لا زال رطبا .. لم اشا سؤاله عن دوافع جريمته .. لانه كان مستاء جدا ... و حزين لفراق صديقه الاقرب و هو يجمع اشلائه و يرميها في نفايات الذاكرة .. امسك ما تبقى له من بوح قلمه و احرقها كلها ... فلم يبقي لنفسه صفحة واحدة تدل على براعته في الكتابة . اراد ان يتخلص من ماضيه الذي يؤلمه و لم يبق دليلا على ما فاته سوى ذاكرته .. و ملامحه صارت حزينة .. يكلمني و يضحك . لكنه حزين .. اكملت شرب الشاي الذي اصبح باردا .. و لم يشرب هو شايه و اخرج حقيبته الرثة و حاول ان يخفي ملابسه و اغراضه داخلها و اراد توديعي و اثار الذنب تلطخ يديه فما زال بعض الحبر يغطيها ... سالته عن الحقيبة .. فقال انه سوف يرحل ؟..
-إلى اين ؟
بعيدا عن بيته و عن مدينته .. و عن ماضيه و ذكرياته .. بعيدا عن مسرح الجريمة التي اقترفها بحق القلم ومع علمه ان جريمته لا يحاسب عليها أي قانون ... يرحل لارض لا يعرفه فيها احد لكنه لم يدرك ان ماضيه ليس بالورق الذي احرقه .. بل هو موجود داخل حجرة من ثنايا ذاكرته .. فمهما رحل او احرق او قتل .. فذات يوم سيعلم انه لا مفر من الماضي ... فالنسيان لا يلتهم اللحظات التعيسة .. و لا يطول سوى اوقاتنا الجميلة ... لانه لا يملك العقار الذي يضمد الجراح ... لا مفر من الذاكرة التي ستقتله أينما كان ... حتى في الارض البعيدة , و لن تدعه يواجه الواقع مالم يواجهها .. عندها سينتقم منه لقلم .. لانه مات مخلصا و هو يدافع عن حقيقة صاحبه ...
2010/12/24
القاص : علي عبد الكريم التميمي
التعليقات (0)