لست هنا أتحدث عن شخص من قريب أو من بعيد ، بل أتحدث عن حدث شغل الكثيرين حول العالم ويحتاج إلى بعض التأمل بما ينفع رؤيانا وتقييمنا لما يدور فى العالم من أحداث والخروج من واقعنا الجغرافى والفكرى المحدود .
رأينا على شاشات تلفزيون العالم جنازة البابا الكاثوليكى الراحل من آلاف بل ملايين الزائرين ولا أقول المؤمنين ، لأن هؤلاء الزائرين أو السائحين فى حقيقة الأمر الواقع هم مجرد مسيحيين أسمياً لا يعرفون شيئاً عن إيمانهم أو مسيحيتهم أكثر مما يفعلونه فى ساحة القديس بطرس بالفاتيكان أى إلقاء نظرة على جثمان البابا الراحل وترديد بعض الهتافات والترانيم التى فى أيديهم نسخة منها وأن يمسكوا أيديهم بأيدى بعضهم الآخر ولحظات من التصفيق يشترك فيها الحضور من بقية الأديان سواء كانوا مسلمين أو بوذيين أو يهود أو ملحدين ، وسط مشاعر إنسانية طبيعية فى ظروف كهذه .
الوجه الآخر الذى لا يراه الإنسان ذو العقلية العربية ولا يريد أن يراه للإنسان ذو العقلية الأوربية بمبادئه وقيمه وأخلاقه بإيجابياته وسلبياته ، ذلك الوجه الذى يرفضه الكثيرين من العرب الذين يقيسون إنسانية وأخلاق الشعوب حسب العقيدة الدينية وما يسمونه بالإنحلال الجنسى وأعتباره إنحلال أخلاقى والسبب يرجع إلى قصور تصوراتنا الأخلاقية عند الحيز الجنسى الذى شغل أحلام أجيال وأجيال بذلك الجسد الذى أنحصرت فيه كل الملذات والشهوات والنجاسات والمحرمات الذى سيكون هدية الإله لمؤمنيه فى يومٍ ما أو قد لا يكون .
الوجه الآخر للأخلاق الأوربية لآلاف الشباب الذين حضروا من مدن إيطالية وأوربية وناموا فى شوارع روما ليحظوا بشرف الأشتراك وإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان البابا الكاثوليكى والكثير منهم لا يؤمنون بالمسيحية مثل ذلك الشاب وبصحبته فتاته الذين أستيقظوا من النوم بعد أن أفترشوا الأرض وقال لمذيعة قناة تلفزيونية إيطالية أنهم ليسوا كاثوليك وغير مؤمنين لكنهم يحترمون شخصية هذا الرجل وما قام به وما أظهره من محبة تجاه الشباب لذلك جاءوا تقديراً له .
وسط كل هذا قلت فى نفسى ماذا لو تنازل كل فرد " مسلمين ومسيحيين وغيرهم " عن مفاهيمهم القديمة ضد الآخر أياً كان ذلك الآخر لعدة أيام ليختبروا نموذج الإنسان الأوربى ولا أقول المسيحى بل يجب أن ينسى المواطن العربى أن ينظر إلى عقيدة من أمامه مثل الأوربى الذى يعمل ويفكر ويتعايش معك بأعتبارك إنسان ، وأن يحاول الإنسان العربى فهم تلك الأخلاق والقيم الإنسانية ويطبقها على أرض الواقع حباً للآخر ونسيان الكراهية المدمرة لأفكار الحياة وحباً للوطن وشركائه فى الوطن وألتزاماً بالمواعيد وجدية فى العمل .. .. ، ويمكننى تصور أن سلوكياتنا وأفعالنا ستتغير تماماً نحو الأفضل لعدة أيام .
إن الإنسان الأوربى لا يشغل تفكيره ولو بصفر فى المائة بموضوع العقيدة أو الدين ، لذلك لا نجده يضيع وقته فى مجادلات لا طائل منها أو النظر إلى الآخرين وتصنيفهم هذا كافر وهذا هرطوقى وهذا ملحد ، حتى القلة القليلة من الأوربيين الذين يمارسون حياتهم الدينية بصورة تلقائية عفوية لا يوجد فى عقولهم أو قلوبهم أدنى أهتمام تجاه العقائد الأخرى لأنهم إصلاً لا يفهمون شيئاً فيها لذلك يمارسون طقوس روتينية بعيدة وعلى النقيض من المشاعر السلبية التى يشعر بها الإنسان العربى والتى يخلقها رجال الدين وما ينشرونه من تعاليم يومية تضعنا جميعاً مؤمنين وملحدين على جبهة قتال فى حرب دينية باردة أسلحتها فاسدة ، لذلك يجب علينا جميعاً الخروج من دائرة الحرب الباردة التى تدور فى الخفاء فى عقولنا وقلوبنا بأسم الدين وننظر إلى إنسانية الآخر لا إلى دينه .
تلك الآلاف من البشر هى أكبر مظاهرة يمكن للإنسان العربى أن يدرس مدلولاتها الواقعية بعيداً عن المدلول الضيق للدين ، فلو نظرنا إلى الهتافات واللافتات التى رفعوها مثل " البابا قديس سريعاً " وهو شعار لا يجب أن نفهمه دينياً بل هو شعار عادى من شباب عاديين لا يفهمون القداسة لا بالمعنى الكنسى ولا بالمعنى الكتابى ، إنهم يريدون التأكيد لأنفسهم وللآخرين على وجود شئ يربطهم بهذا البابا ويشعروا بأن علاقتهم مع البابا مستمرة من خلال إعلانه قديس ، ولا يهمهم الناحية الدينية بل كل إهتمامهم بالناحية الإنسانية التى ربطتهم بهذا الرجل أى هناك قيمة كبرى فى عقلية الأوربى للحوار والأتصال .
لكن لماذا كتبت عنوان المقال جنازة البابوية وليس جنازة البابا ؟ الأسباب ستكون موضوع حديثنا القادم .
2005 / 4 / 10
التعليقات (0)