أدبيات الإنفصــال
حلقة (13)
جميعنا فرحين بقرب موعد انفصال الجنوب
ساعة رقمية علقها الجنوبيون في وسط الميدان الرئيسي بعاصمتهم "جوبا" تحسب الوقت المتبقي لإعلان إنفصال الجنوب وإنشائه لدولته الخاصة به
من أطرف أشكال العدائيات الإجتماعية اليومية التي يمارسها الطرفان الشمالي والجنوبي تجاه بعضهما البعض في كل متر مربع من أنحاء السودان أن الشمالي لا يألو جهدا في تطنيش الجنوبي واللامبالاة به . في حين لا يدخر الجنوبي وسعا في مكايدة الشمالي وإغاظته ومعارضته وإلتعبير عن حقده تجاهه وعدم رضاه عنه في كل مناسبة أو بدون مناسبة....... إذا قال الشمالي "بسم الله" حرص الجنوبي على ترديد "بسم الشيطان" .... وإذا صلى الشمالي تجاه الكعبة حرص الجنوبي عن إقتناع أو بدونه للصلاة تجاه الفاتيكان. وإذا قال الشمالي "نعم" سارع الجنوبي بقولة "لا" حتى قبل أن يفهم لماذا قال الشمالي نعم ... ثم إذا عاد الشمالي فقال "نعم" إنقلب الجنوبي على عقبيه وقال "لا" لوجه الله ..... وبإختصار فإن الشمالي إذا إختار إتجاها فإن الجنوبي يختار الإتجاه المعاكس لمجرد إشباع الغرور والإحساس بأنه "إبن آدم" في مواجهة الشمالي والعربي بوجه خاص ..... بل وأكاد أجزم ووفقا لهذا المنطلق أنه إذا خير الشمالي فإختار جنة الفردوس لسارع الجنوبي إلى ولوج سـقـــر.
وعلى الرغم من أن الشمالي والجنوبي يقاسمان بعضهما الحياة في وطن واحد إلا أنه ومع مضي مئات السنوات لم يكن هناك أي تمازج عرقي (زواج شرعي) يعتد به بين الطرفين . وكل ما تم من زيجات محدودة العدد ومؤقتة المدة إنما كانت كبدل فاقد بين رجال شماليين وفتيات جنوبيات لأسباب تتعلق بإقامة الشمالي في أراضي جنوب السودان لغرض ممارسة التجارة أو تردده جيئة وذهابا على مدن وقرى الجنوب خلال ممارسته لتجارة الشنطة ، أو أن يكون قد عمل جنديا محاربا في صفوف الجيش السوداني خلال الحرب الأهلية التي دارت رحاها داخل أرض الجنوب منذ عام 1955م ... والملاحظ أن هذه الزيجات عادة ما يكون مصيرها الفشل الذريع ويتم الطلاق حالما تنتهي مسببات تواجد الشمالي في أرض الجنوب....... وبوجه عام فإن المؤكد أن الجنوبي لا يثق بالشمالي وأن معــدة الشمالي لا تطيق ولن تستطيع هضم الجنوبي ولو بعد 1000 عام.
الآن وفي عاصمة دولة جنوب السودان (حيث يبدو أنهم يرغبون في الاحتفاظ بإسم السودان ضمن مسمى دولتهم الجديدة) علق الجنوبيون ساعة رقمية متواضعة في الميدان الترابي الرئيسي لعاصمة بلادهم "جوبـا" تعبيرا عن فرحتهم بقرب موعد إجراء إستفتاء تقرير المصير. وحرصوا على تسريب صورها إلى الصحف والمجلات في الخرطوم إمعانا منهم في إغاظة الشماليين حسب إعتقادهم في كافة تصرفاتهم أمامه ، ويبدو أنهم لا يدرون أن الشمالي أكثر فرحا منهم ويكاد يطير بهذا الإنفصال المرتقب. ومثلما يعد ويحسب الجنوبيون الساعات والدقائق والثواني الباقية على موعد الإستفتاء والإنفصال لا محالة ؛ فإن الشماليين يحلمون بقدوم يوم الإنفصال هذا (9 يناير 2010م) ويترقبوه على أحر من الجمر حتى يتفرغوا لبناء بلادهم وفق ما يرتجون من قناعات وقيم وعادات وتقاليد خاصة بهم تختلف إختلافا جذريا عن مثيلاتها في الجنوب.
وإنه إذا كان الجنوبي يؤمن بأن الشمالي يظل عائقا وسدا منيعا أمام إحساسه بقيمته كإنسان ؛ فإن الشمالي يظل على قناعة بأن الجنوبي يعرقل إتساع خطواته وسلاسة مسيرته نحو الرقي والرفاهية...... وأنه إذا كان البعض في الشمال يرى في بترول الجنوب مسوغا للوحدة وضرورة للتمسك بها وتقديم القرابين من زهرة شباب الشمال ضحايا من أجلها . فإن على هؤلاء البعض أن يدرك أن حقول بترول الجنوب ستنفذ مخزوناتها بعد عشرين عام أو أقل من تاريخه . وهي سنوات تعد كالدقائق في حسابات الجدوى الإقتصادية لمثل هذه الثروة الناضبة بطبيعتها.
لقد بدأ السودان في تصدير البترول منذ سبتمبر عام 1999 ، فماذا كانت النتيجة ؟ نصف عائدات البترول تذهب إلى جيوب وخزائن الجنوبيين من القادة والقطط السمان في الحركة الشعبية لتحرير السودان ..... وأما النصف الآخر فلم نرى منه طحنا ولا خبزا ولا بقلاوة في الشمال . ولا تزال جيوش العاطلين من شباب الشمال تجوب شوارع الخرطوم على غير هدى .... ولا تزال طوابير المرضى تنتظر العلاج المجاني دون جدوى أمام بوابات المستشفيات الحكومية المتهالكة ... ولا تزال العملية التعليمية بلا إصلاح وقد تكدس الطلاب في داخل الفصول الطينية كالساردين في العلب المعدنية ...... وبإختصار ولأسباب تتعلق في الجملة بالمحاصصة الجهوية والقبلية والفساد بمختلف أشكاله وإنعدام الشفافية وإنعدام التخطيط والجرأة العجيبة على سرقة المال العام ؛ لم تقدم ثروة البترول الجنوبي شيئا أو ثماراً ملموسة سواء للشمال أو الجنوب وهو ما يؤدي إلى أن يصبح فيه الشمالي من كبار الزاهدين فيه ...
نقول مبروووووووك الإنفصال للجنوب وللشمال في آن واحد ..... سيشعر الجنوبي بعد الإنفصال وإنشاء دولته الخاصة به أنه لأول مرة مواطن من الدرجة الأولى وليس من الدرجة الرابعة ومنهك وملفوظ إجتماعيا داخل مساحة المليون ميل مربع مثل ما هو عليه الحال قبل الإنفصال....... وبالمقابل سيشعر الشمالي أن عبئا ثقيلا غريب الرائحة والوجه واليد واللسان كاتما للأنفاس كغازات زحل قد زال عن كاهله وابتعد عن عينيه ولسانه وأنفه ؛ ولم يعد ضمن مسئولياته أو همومه اليومية.
ساعة بيغ بن الأفريقية
تظهر الساعة الزمن المتبقي بالأيام والساعات والدقائق كدليل على تحرق الجنوبيين ولهفتهم للإنفصال
على العرب أن لا يوجهوا اللوم للشماليين وحدهم فالجنوبيون هم من إختاروا الإنفصال بمحض إرادتهم وفقا لإتفاق نيفاشا الذي تراضوا عليه مع حكومة الشمال . وأهل السودان جميعهم في نهاية المطاف أدرى من غيرهم في الخارج بسلبيات وإستحالة تعايش الشمالي والجنوبي معا داخل وطن واحد ... وعلى رأي المثل الشعبي .. "شيل ده عن ده يرتاح ده من ده"
التعليقات (0)