نصر أكتوبر العظيم باعتباره يلامس حروف الإعجاز بكل المقاييس ..تبدو روعته.. وقيمته .. ورونقه ..وعظمته أنه انطلق من رحم الهزيمة.. و خرج من سراديب العجز والانكسار .. وأشرقت من قلب لياليه المعتمة شمس الانتصار..
فأضاءت الدنيا نوراً عربياً مبيناً قهر الظلمة و بدد ليل المجرمين ...
ولقد أراد المجرمون بهزيمة يونيو 1967 أن يعلنوا وفاة مصر خاصة والأمة العربية عامة ..وطفقوا يعربدون في سماواتنا .. ويهتكون حرمة مدننا.. ويدمرون مدارس أطفالنا وينشرون الدعايات التي تروج لأسطورة جيشهم الذي لا يقهر ..
ولم يكن في حياتهم لحظات أسعد من تلك التي أعلن فيها الرئيس جمال عبد الناصر في خطابه للشعب المصري الهزيمة ومسئوليته الكاملة عنها .. كانت أسود لحظة في عمر الشعوب العربية جميعاً ..
كانت بمثابة إعلان وفاة الحلم.. بل وفاة العرب كما روج لذلك المجرمون ..
ولكن لأن الهزيمة لم تكن هزيمة لعبد الناصر في شخصه بل هزيمة لوطن عربي كامل .. وحلم عربي كامن .. ومصير عربي مشترك .. لذا رفضت الشعوب الهزيمة ونزلت الملايين إلى الشوارع تعلن أن الموت أهون عليها من الهزيمة ..
وساندت الشعوب عبد الناصر وطالبته بعدم الاستسلام .. ووقفت الأمة جميعها وراءه في مشهد أدهش العالم والمجرمين أنفسهم والذين توقعوا ان هزيمة يونيو كانت كافية لشنق عبد الناصر بأكف الشعوب ..
أدرك عبد الناصر مدى أخطاء ارتقت لمرتبة الخطايا ارتكبها أو ساهم في استمرارها أو تغاضى عنها وعن مرتكبيها .. خطايا من النوع الذي لا يغفره التاريخ لأحد .. ولكن تجاوزت عن كل ذلك الشعوب العربية .. وتوحدت خلف عبد الناصر باعتباره رمزاً لها ولحلمها ولحياتها ترفض أن ينهزم.. أو أن يطاله الذل وعار الانكسار.. ولقد فهم ناصر الرسالة واستوعبها جيداً .. إرادة الشعوب تفعل المستحيل وكان لها مفعول السحر ..
عمل عبد الناصر بمقولته الشهيرة .. أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة .. وهو إعلان صريح على النية للثأر والانتقام ..
لذلك لم ينم عبد الناصر منذ الهزيمة ليلة هنيئة حتى مات في أغسطس 1970 .. ثلاث سنوات أنجز فيها عبد الناصر مرحلتين من مراحل أربعة صنعت أسطورة الأساطير .. صنعت معجزة المعجزات .. صنعت نصر أكتوبر المجيد ..
أما المرحلتان الباقيتان فقد تولاهما العبقري الداهية الفذ الزعيم أنور السادات صاحب النصر وعريس الفرح بلا منازع ...
وهنا نستعصم بلقطة ساخنة التقطتها عين خبير أمين لمسرح أحداث أكتوبر هو العلامة الأشهر الدكتور جمال حمدان في كتابه الثمين
6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية .. حيث قال ما نصه:
"" فالواقع أن فترة ما بين الحربين (يونيو67-أكتوبر73) . والتي استمرت نحو ست سنوات ونصف السنة .
كانت فترة "كمون " و"إعداد" ثم "اختمار" و"انطلاق" نحو القفزة الكبرى..
ونحن نستطيع أن نقدر هذه الفترة حق قدرها في سياق الصراع العام إذا نحن حللنها إلى مراحلها التطورية . فهناك أربع مراحل أساسية .. -(الصمود) -(الردع)-(الاستنزاف) -( وقف النار) .. فالصمود من " يونيو67حتى أغسطس 68" مدة سنة وشهران ..
هي أساساً مرحلة "الدفاع الحذر" تخللتها معارك رأس العش والمدمرة إيلات وبعض معارك جوية متحدية .. والردع من " سبتمبر68حتى فبراير 69" مدة ستة شهور ..
هي أساساً مرحلة " الدفاع النشط " تلخصها معارك المدفعية التي اتصل فيها التراشق بالنيران عبر القناة .. وكان من نتائجها بناء العدو لخط بارليف الأول ..
أما مرحلة الاستنزاف من " مارس 69 حتى أغسطس 70" مدة سنة ونصف السنة ..
فتعد أساساً مرحلة " الهجوم الحذر" ففيها تم تدمير خط بارليف ألأول بالمدفعية المكثفة المستمرة طوال شهرين .. مارس وأبريل 1969.. ثم توالى عبور الكوماندوز ليلاً ونهارا بقوات متزايدة ثم بلا انقطاع , كما تكررت غارات الضفادع البشرية على موانئ العدو تحرقها وتغرق سفنه فيها , هذا فضلاً عن الغارات والمعارك الجوية المتصاعدة , وذلك كله في وجه غارات العدو المضادة على الجزر المنعزلة والعمق المدني إلى جانب جبهة القناة .
أما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي مرحلة وقف إطلاق النار من أغسطس 70 حتى أكتوبر73" مدة ثلاث سنوات وشهران ..
وهي أساساً فترة اللاحرب واللاسلم ..
من هذا التصنيف نرى أن فترة ما بين الحربين تكاد أولاً تنتصف ما بين مراحل الدفاع بأشكاله ودرجاته المختلفة ومابين مرحلة اللاحرب واللاسلم "ثلاث سنوات وشهران لكل منهما" ..
والمراحل الدفاعية الأولى تكاد بدورها تنتصف بين الصمود والردع السلبي في جانب وبين الاستنزاف الإيجابي في الجانب الآخر.. "حوالي سنة ونصف السنة لكل منهما" ..
وإذا كان العدو قد تفرغ في مرحلة وقف النار لبناء خط بارليف الثاني وتدعيم وجود في سيناء.. فقد تفرغت القوات المصرية للتدريب الداخلي النهائي والحاسم وإعادة بنائها وتطويرها للمعركة الكبرى ..
وهكذا ترسم المراحل مجتمعة عملية متنامية متصاعدة تتعاقب وتتكامل في زحف صاعد منتظم من البناء العسكري والاختبار الحربي وكانت كلها بخبراتها وتجاربها ونتائجها مدرسة عملية أخرى بالفعل وتدريبات جزئية مجزأة على معركة التحرير الكبرى في أكتوبر...
من هنا ثبت أن سنوات ما قبل المعركة .. تلك السنوات " الست" القاسية والصبور .. لم تكن سدى ..ففي هذه الفترة أتيح لقواتنا وقياداتها المجال لنوعين أساسيين من التدريب والتجريب : تدريب نموذجي معملي .. وتدريب ميداني واقعي
فبالتخطيط الثاقب الواعي والإرادة المصرة , جرى التدريب الشاق المثابر العنيد " قيل 300تجربة" ! على " ماكيت" إقليمي من الحجم الطبيعي وفي لاندسكيب طبيعي اختير بعناية وعن عمد من ليكون أقرب ما يمكن شبهاً ببيئة القناة ومسرح القتال سواء تضاريس أرض أو عمق مجرى أو سرعة تيارات .. وقد كانت منطقة على قطاع من ترعة الإسماعيلية .. حيث أقيم سد ترابي مشابه تماما لسد العدو.. هي هذا المسرح التدريبي والتجريبي على العبور والاختراق .. كذلك فلقد أجريت عملية التدريب أحيانا على قناة السويس نفسها في قطاع يزدوج فيه عملية التدريب أحياناً على قناة السويس نفسها في قطاع يزدوج فيه مجراها .. حيث تتوسط المجرى جزيرة البلاح- الغربي بينما كانت تسيطر عليه قواتنا سيطرة كاملة وفي مأمن تام من أنظار العدو وأخطاره ..
ولا يظن أحد أن هذه التجارب والتدريبات .. حتى كتجارب وتدريبات . كانت بالمهمة السهلة .ففضلاً عن صعوبات توفير المسرح الملائم بالمواصفات المحددة .. كانت هناك اعتبارات إمكان استخدام الذخيرة الحية .. وبإحداث خسائر في الأرواح والممتلكات والمزروعات بل والأرض الزراعية نفسها .. كذلك ضرورة إقامة ثم هدم الساتر الترابي الصناعي عدة مرات في كل تجربة واحدة .. ثم تكريك وتطهير المجرى المائي من رديمها بعد تلك المرات وإعادته إلى مكانه على ألأرض من جديد ..
كل أولئك مع ما يعني من مضاعفة أحجام مكعبات والردم والتكويم والتكريك عدة أضعاف الحجم الكلي للعملية الحقيقية الواحدة نفسها في ميدان القتال الفعلي . وكما يذكر كتاب حرب رمضان فإن تدريب وحدة هندسية واحدة " من 80 وحدة مطلوبة" كان يستدعي تحريك حجم من الأتربة والوحل يعادل 12 مرة مثل ما ستقوم بإزاحته فعلاً أثناء المعركة , في حين ترتفع هذه النسبة إلى 15 ضعفاً بالنسبة لمجمل العملية كلها تجريباً وتدريباً..
بهذا كله وبمثله وبغيره كانت العملية قد أصبحت بمثابة "الأمر اليومي" أو حتى الخبز اليومي بالنسبة للمهاجم المصري المقتحم .. كل المعدات والأسلحة جاهزة "مشونة" في أماكنها بالضبط لساعة الصفر .. وكل فرد يعرف دوره ومكانه ولحظته المحددة ,
مما حقق ساعة التطبيق نتائج قياسية مذهلة من الكفاءة والاقتدار والنجاح فاقت أعرض أحلام التخطيط نفسه وأشد توقعاته تفاؤلاً .. وقد أورد "إبراهيم خليل إبراهيم" في كتابه وطني حبيبي عن حرب أكتوبر وعن دور عبدالناصر ..
"" رفض الشعب والجيش مرارة الهزيمة ،
وبعد اقل من شهر بعد نكسة 1967 م تمكن عدد محدود من جنود الصاعقة صد هجوم بعض الدبابات الإسرائيلية.. وانتهى القتال الذي دام أياما بايقاف تقدم القوات الإسرائيلية نحو جنوب بورسعيد ، ولم تعاود القوات الإسرائيلية الهجوم عليها أبدا ، وظلت رأس العش المنطقة الوحيدة التي لم تدنس بالاحتلال والقوات الإسرائيلية ،
وفي يومي الرابع عشر والخامس عشر من شهر يوليو عام 1967 م قامت القوات الجوية المصرية بطائراتها المتبقية بغارة ضد المواقع الإسرائيلية قرب القنطرة وفجرت ودمرت تشوينات الأسلحة والذخيرة التي جمعتها إسرائيل من سيناء ،
ولاحت بوادر استرداد الثقة حينما تمكنت لنشات الصواريخ المصرية قرب بورسعيد في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر عام 1967 م من إغراق المدمرة الإسرائيلية ـ إيلات ـ والتي كانت تعادل ثلث المدمرات الإسرائيلية الموجودة بالبحر .وتوالت قصفات المدفعية المصرية علي طول مواجهة قناة السويس حتي عشرين كيلو مترا داخل سيناء .
وفي عام 1968 م أصدر الرئيس جمال عبد الناصر القانون رقم 4 الذي نظم وضع القوات المسلحة ضمن الإطار العام لأجهزة الدولة وحدد بمقتضاه سلطات فعالة لرئيس الجمهورية بوصفه القائد الأعلى ، واختصاصات وزير الحربية ورئيس الأركان ،
وتم إعادة تنظيم المناطق العسكرية لتغطي ارض مصر كلها ، وتم علي أساس هذا التنظيم تحويل تنظيم قيادة المنطقة العسكرية الشرقية التي كانت تخضع لها من قبل وحتي عام 1967 م القوات الموجودة في سيناء ، ومنطقة القناة بقيادتين ميدانيتين اقتسمتا الجبهة بالتساوي وهما : الجيش الثاني الذي كلف بالقطاع الشمالي من الجبهة ، والجيش الثالث الذي كلف بالقطاع الجنوبي ،
وأنشئت أيضا قيادة قوات الدفاع الجوي وأصبحت مع أوائل عام 1968 م بمثابة القوة الرئيسية الرابعة في القوات المسلحة .
وقد شهدت القوات الجوية عملية بناء غير مسبوقة شملت تخرج 12 دفعة من الطيارين ، 10 دفعات من الملاحين ، وتجهيز هندسي لمختلف المطارات والقواعد الجوية وإنشاء مطارات جديدة في كل أنحاء مصر ، وتعددت صور الإنشاءات بين دشم محصنة ، ودشم ذخيرة ، ومراكز قيادة ، وبلغ حجم الإنشاءات في القوات الجوية ثمانية أضعاف الهرم الأكبر ،
وتضاعفت ساعات الطيران للطيارين مرتين ونصف ، وتضاعفت طلعات رمي الطيارين بالقنابل والصواريخ مابين 18 الي 20 مرة .
وكانت عملية إعادة بناء قوات الدفاع الجوي تمثل في حد ذاتها قصة بطولة بمفردها حيث كان لدينا فقط بضعة مدافع ورشاشات مضادة للطائرات ، وعدد ضئيل من بطاريات الصواريخ ، وقليل من أجهزة الرادار .
وقد حاولت إسرائيل تدمير إرادة مصر فقامت بغارات جوية وصل عددها من يوليو حتي سبتمبر عام 1969 حوالي 1000 غارة في العمق ضد بعض الأهداف المدنية لتوسيع رقعة القتال. و اتخذ الرئيس جمال عبد الناصر قرارا ببناء مواقع محصنة لصواريخ الدفاع الجوي ..
ثم اتخذ قرارا بإقامة حائط الصواريخ علي امتداد الجبهة الغربية لقناة السويس ،
ووصل حجم الأعمال الهندسية في حائط الصواريخ 12 مليون متر مكعب أعمال ترابية ، و مليون و نصف مليون متر مكعب من الخرسانة العادية ، ومليونين خرسانة مسلحة ، 800 كيلو متر طرق أسفلت ، 3000 كيلو متر طرق ترابية ،
و قدرت تكاليف حائط الصواريخ بحوالي 76 مليون جنية ، وبعد عملية إعادة البناء تم تنفيذ العديد من العمليات القتالية كبروفة طبق الأصل لعملية العبور ففي سبتمبر عام 1968 قامت المدفعية المصرية بتدمير بطاريات الصواريخ ارض / ارض قصيرة المدى التي إقامتها إسرائيل في مواجهة مدينتي الإسماعيلية و السويس و بقية القرى بمنطقة القناة ،
ورغم محاولات إسرائيل التدخل بقواتها الجوية ضد المدفعية المصرية فان عمليات القصف المدفعي تواصل جنبا الي جنب مع عمليات العبور و التي تزايدت بشكل كبير منذ يونيو 1969
وفي يوليو 1969 قامت قوة مصرية بعملية عبور من منطقة بور توفيق و اقتحمت موقعا إسرائيليا و قتلت و جرحت نحو 40 جندي و استمرت في الموقع لمدة ساعة بعد ان دمرت 5 دبابات إسرائيلية و مركز مراقبة و عادت بأول أسير إسرائيلي ،
و في التاسع من ديسمبر عام 1969 قامت طارة ميج 21 مصرية بإسقاط أول طائرة فانتوم إسرائيلية .
و في يوليو 1970 تمكنت صواريخ الدفاع الجوي في أسبوع واحد من إسقاط 17 طائرة إسرائيلية فيما عرف بأسبوع تساقط الطائرات الفانتوم الإسرائيلية .
و خلال معارك الاستنزاف خسرت إسرائيل ثلاثة أمثال ما لحقها من خسائر بشرية خلال حرب 1967 ،و فقدت خلالها 40 طيارا ، 27 طائرة قتال ، و مدمرة ، و 7 زوارق و سفن إنزال ، و119 مجنزرة ، 72 دبابة ، 81 مدفع ميدان و هاون ، و مقتل 827 جنديا و ضابطا و إصابة 2141 فردا .
من هنا يثبت لنا أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بدأ مشوار الانتقام والثأر لهزيمة يونيو1967 الذي يتحمل "وحده" مسئوليتها وقطع نصف الشوط بينما أكمل النصف الثاني ببراعة وعبقرية "شيطانية" الزعيم أنور السادات صاحب النصر وعريس الفرح بلا منازع .. تحية للزعيم عبد الناصر في ثراه .. وتحية لعريس النصر الرئيس أنور السادات .. وتحية لقادة القوات المسلحة المصرية عباقرة الإعجاز ومخططي الإنجاز .. وتحية لجنود مصر الأبطال البواسل من شهداء وجرحى رووا بدمائهم رمال سيناء ثمناً للنصر .. وتحية لشعب مصر الجميل وتحية للشعب العربي الأصيل من المحيط إلى الخليج والذين لم يتوانوا لحظة عن بذل دمائهم قبل أموالهم دعماً لمصر وسوريا ووقوفاً خلفهما وإلى جانبهما دون أدنى تقصير على كافة الجبهات القتالية والسياسية والإعلامية ..
ولنا لقاءات مسلسلة عن أصحاب النصر في يوم عيدهم .. يوم مجدهم .. يوم انتصارهم وانتقامهم من المجرمين المعتدين ..
التعليقات (0)