قامت شرذمة من غوغاء المتطرفين الإسلامويين بتحطيم النصب التذكاري للقائد الخالد جمال عبد الناصر بمدينة بنغازي، شرارة الثورة الليبية المظفرة . ولعله من غريب الصدف ، أن يتزامن هذا الفعل الحقير مع يقظة بعض الأقلام من غفوتها ، لتشتم جمال عبد الناصر، لتردد جهلا أو سذاجة أو عمالة أنه الوجه الآخر للقذافي وبشار وصالح ... وغيرهم من سفاحي الأمة ! وهنا السؤال : ماهي الخلفيات الكامنة خلف هذه الحملة المسعورة ضد أحد أشرف الرموز في تاريخنا وذاكرتنا ؟
السبب يكمن في هذه الحقيقة الدامغة، حقيقة أن جمال عبد الناصر يعود لساحة التحرير. بل لكل ساحات التحرير العربية، يعود ليذكرنا بضرورة أن نرفع رؤوسنا عاليا..
لكن كيف نقول عبد الناصر يعود؟ فمتى كان غائبا ؟ ماذا لو كنا نحن العائدون ؟ نحن الذين استسلمنا لأناشيد الزيف. نحن الذين انطلت علينا البهرجات البهلوانية ؟ نحن الذين صدقنا مزامير الغرب ومهرجيه .
نحن الذين صدقنا دعايات الأنانيات الصغيرة المتبجحة , كلا عبد الناصر لا يعود، إنه جزء من روح الانتفاضة الساكنة فينا .. إنه لم يضرب موعدا حتى يعود ! فكيف ؟ وهو نفسه الوعد والموعد.. !؟
دلوني على أحد جلادي الأمة لم يمت يوم موته ! دلوني على قائد عانق أحلام أمته فلم يمت إلا لكي تكتب له حياة أخرى: ذكرى خلود وأنشودة إلهام ؟
طوال أربعين عاما والآلية الإعلامية الساداتية والمباركية تحاول دفن عبد الناصر وإسدال ستار من النسيان عليه، لأن إسمه حاضر بقوة كرمز للعزة الوطنية. لأنه يذكر بأن مصر أم الدنيا، وحكام مصر يريدون لمصر أن تكون خادمة في القصر الأمريكي الإسرائيلي. لأنه يذكر بأن الاستقلال الوطني يمر عبر العدالة الاجتماعية, وهؤلاء الحكام يرون في الفساد ضمانة خلود في السلطة, وتوريث للسلطة, ومع هذا تكديس الملايير في صناديقهم .
لذلك أجهزوا على كل شيء في إنجازات القائد، فإذا كان بقامته الفارعة يتماهى مع السد العالي، فإن هذا الإنجاز الذي حفظ ثروة مصر، لم يصبح في دعايتهم وتدليسهم إلا نكبة اقتصادية دمرت الاقتصاد الوطني.
لكن المستحيل قتل روح الأمة، والإجهاز على ذاكرة الأمة. لذلك فروح الأمة كما ذاكرة الأمة ضلت بلسان أشراف الأمة تصرخ : " أتحداكم أن تجدوا قائدا كما عبد الناصر، ذاب في وجدان أمته ، حتى يلهم أمته ، أتحداكم أن تجدوا قائدا كما عبد الناصر نذر نفسه عنفوانا وتوقا لتحرير أمته، أتحداكم أن تجدوا قائدا كما عبد الناصر عفيفا نزيها لم تغوه ثروة ، ولم يمد يده لمال بل نظر لكل ذلك نظرة ازدراء
المال...! هذا هو الامتحان العسير، هذا هو القشة التي قصمت ظهور الأبعرة . الحاكم المتعفف، الحاكم النزيه، الحاكم النظيف يدا، هذا الحاكم وحده يستحق أن ننحني إجلالا لهيبته، عكس الحاكم الذي يمد يده لقوت أمته، حتى يسطو عليه جواهرا وأرصدة يضعها تحت جنح الظلام في صناديقه وفى خزائن أعداء أمته.
نعم عبد الناصر كان أكبر وأنبل من هذا المسخ. لذلك فإن منتقديه يتعرضون لموضوع آخر مذكرين : "عبد الناصر أرتكب أخطاء هائلة" هذا صحيح , لكن شتان بين الخطأ نرتكبه عن حسن نية، والخطأ نرتكبه في خدمة أنانية صغيرة وجريا وراء مجد شخصي .!
نعم هذا صحيح . أكبر أخطاء عبد الناصر أنه لم يؤسس لدولة بمؤسسات ديمقراطية تعددية, نعم ذاك كان الخطأ القاتل, لكن نزاهة هل كنا فى الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي نرفع شعارا آخر غير شعار الإشتراكية والحزب الواحد؟ ألم يكن أشراف الأمة وأنبل الرجال ، بدءا من المهدئ بن بركة فى المغرب، وانتهاء بشي غيفارا في كوبا، يرون فى الديمقراطية التعددية شيئا آخر غير ملهاة، غرضها إعادة فلول الإقطاع والبورجوازية المتفسخة إلى السلطة، للإجهاز على مكتسبات الثورة المنتصرة ؟ هل معارضوا عبد الناصر ساعتها كانوا يطمحون لشيء آخر غير نظام استئصالي راديكالي ؟ بمعنى دولة الخلافة، تحت حكم السيف والشريعة، كما يريدها ساعتها السيد قطب.! وإن لا فنظام بروليتاري ستالينى كما يريدها ساعتها الشيوعيون المصريون !؟
نعم عبد الناصر، وفى عز انتصارات حركات التحرر، لم يأخذ المسافة الكافية حتى يكتشف أن كل هذا هراء , وأن الحزب الواحد هو الشر الواحد, وأن هذا التوجه التوتالتارى هو الذي قاد للهزيمة , لكن ألم يتحمل القائد كل المسؤولية حد تقديم استقالته؟ ألم يتبع ذلك بإصلاح ونقد ذاتي عاصف, موازاة مع حرب الاستنزاف التي أفقدت العدو أعصابه؟ ألم يكن كل ذلك تمهيدا مشرقا لحرب أكتوبر المجيدة, التي غسلت وجه مصر عسكريا ؟ حتى وإن تلطخ ذلك الوجه الكريم سياسيا بانبطاح ساداتي, سيفقد مصر كل أوراقها واضعا إياها بمجملها فى اليد الأمريكية الإسرائيلية
لكن الهزيمة كانت الجرح الناصري الأكبر, لأنه كان الجرح المصري بامتياز, فلم يكن هناك ناصر ومصر!
هنا البعد التراجيدي العميق. ذكروني رجاء بتلك ألأسطورة الإغريقية: أسطورة " إيكار" ذلك الفتى المشتعل طموحا وتوقا للطيران إنه يصنع لنفسه جناحان ويلصقهما على كتفيه بواسطة الشمع, تم ينطلق عبر السموات محاولا اكتشاف أسرارها, لكنه لا يكتفي بهذا, إنه يريد الوصول للشمس غير عابئ بالأخطار, وبالطبع تحت وهج شمس الحقيقة يذوب الشمع ويهوى البطل متلاشيا فى المحيط !
هنا البعد الدرامي فى شخصية البطل .. هل كان عبد الناصر يفعل شيئا آخر غير تحطيم "قوانين الحتمية التاريخية "؟ ألم يكن يفتح كل الأبواب أمام مصر حتى أصبحت بحق وصدق كما هي أم الدنيا وقبلة التحرر؟ ألم يصبح الإنسان المصري مرفوع الرأس فخورا مهابا؟ فكيف السماح بكل هذا؟
هل كان عبد الناصر يتجاوز المحظور؟ هل كان يقترب من الشمس الحلم أكتر مما كان يجب ؟ هل كان يحطم كل الأغلال رغما عن" الآلهة " المتحكمة فى المصائر؟ هل كان بالضبط كما إيكار يحطم قوانين الجاذبية ارتقاء نحو مجد الأمة وتحرير الأمة ؟! فكيف ذلك فى محيط من العداء وسيل جارف من المؤامرات؟!
عبد الناصر لم يسقط , لم يبتلعه اليم , لم يتلاشى فى المحيط ,عبد الناصر واجه الهزيمة بروح الصدق, بوضع الأصبع على مكامن الجرح, وكان يعلمنا هذا الدرس العميق: " الأمم العظيمة لا تنهزم وهى تدافع عن حقها فى الارتقاء والتحرر" .
وكنا نكتشف بدورنا، أن الرجال العظام لا يموتون، كذلك عبد الناصر لم يمت, إنه المقيم بقوة في ديمقراطيتنا المحلوم بها في إشكالية تحررنا، حاضر لأنه الرمز الإنساني النبيل، الذي ارتقي بمصر وبالعرب إلى تلك اللحظة الخالدة، لحظة التفاعل العميق مع التاريخ النابض، هذه اللحظة التى تشتعل حنينا في وجداننا، والتي يسميها أشقاؤنا المصريون " الزمن الجميل " كأنما مقارنة مع الزمن القبيح، أي هذا المسخ الذي يتجند الشباب المصري والعربي لمحوه وتشييعه .. لا لمثواه ولكن لمحاكمته.
التعليقات (0)