عبد الهادي فنجان الساعدي
إن قصيدة النثر هي وليدة الشعر الحر. فقد ولدت بعد مخاضات كثيرة وتجارب مرّه استمرت عشرات السنوات حيث وضع الشعراء في العراق اسس الشعر الحر ضمن سياقاته العالمية واضافوا له الكثير من رموز المنطقة ومن تجارب فاقت الوصف. فلقد تعرض شعراء الشعر الحر الاوائل الى آلآم كثيرة ولكنها كانت طبيعية لكل عمل ثوري يخرج على الانماط القديمة الاصلية والتقليدية.
وقصيدة النثر "مستعارة من النثر العادي الذي يخلو من البهرج او الزخرفة ولكن كلماته مشحونة بقوة خفية يسري عبرها التيار الشعري كما يسري التيار الكهربائي عبر سلك غليظ يغرقنا بالنور فجأة"( ).
لقد اصبح البون شاسعا بين القصيدة الكلاسيكية وقصيدة النثر لكأن الجيل الجديد قد انقطع عن كل تلك العصور الجاهلية والاموية والعباسية القديمة بعد إن كان يغرف من تلك التجارب الثرة وتلك الثروة العظيمة التي كانت بمثابة الخزين الحضاري الهائل الذي كان يمون كل الاجيال في التاريخ الحديث بما يحتاجونه من مفردات وتجارب وبحور وصور وكل ما يمت الى الحياة الثقافية بصلة. وبدأ يسبر غور التجارب الغربية يدفعه الى ذلك تصور عقيم بأن تلك التجارب سهلة وفي متناول يد الشاعر المبتدئ وكأن الطرق ممهدة وميسرة وبذلك يسلكها دون عائق وكانت انتقالة الشعراء سريعة مما ترك اثارا سلبية على مجمل حركة الشعر في العراق.
نعود الى مقدمة الكتاب حيث "اننا بازاء ميدان غامض الحدود والمعالم يثير عندنا احيانا الحنين والشوق للشعر الكلاسيكي الذي يناقضه تماما. كان العصر الكلاسيكي يمقت قصيدة النثر ويرى فيها نوعا هجينا ووحشا لا يطاق. بيد إن نهاية القرن الثامن عشر والعصر الرومانسي ثارا على الفصل القاسي بين النثر والشعر وسلما بان الشعر لا يكمن في أي شكل محدد "مسبقا" كما لاحظ البعض إن "فن النظم الشعري" لا يكفي لصنع الشعراء. وان النثر على العكس، قابل للشعر.
يقول دي بوس "هناك الكثير من القصائد الجميلة بلا ابيات شعرية. كما إن هناك الكثير من الابيات الشعرية التي تخلو من الشعر"( ).
اننا هنا بازاء مفاهيم ثقافية غربية وتجارب قاسية ومتميزة حيث الصراع ما زال قائما بين الثقافة الكلاسيكية وبين المدارس المستحدثة وخصوصا الرومانسية التي استطاعت إن تشق طريقها عبر جبال من الاثار الكلاسيكية التي خلفتها اجيال من الشعراء حيث كانت الانتقالة قاسية ولكنها ضرورة تحتمها التحولات الصناعية والاجتماعية التي طرأت على اوربا في ذلك الوقت.
"وهكذا إنصَّب جهد الشعر الفرنسي كله منذ الرومانسية على تحطيم اطر التقاليد القديمة والمبادئ التي كانت تختنق فيها الروح الشعرية: القافية، الوزن، البحر والقواعد الصارمة للشعر الكلاسيكي. وادى التمرد على سلطان الاشكال الجامدة التي تحول دون إن يخلق الشاعر لذاته لغة فردية، وتضطره الى إن يصب مادته اللدنة في قوالب جاهزة، الى ثورة الرومانسية على الكلاسيكية، ثم ظهور الشعر الحر عند الرمزيين فميلاد قصيدة النثر وكثيرا ما تم الخلط بين قصيدة النثر والنثر الشعري"( ).
اننا ندين بهذه التوضيحات والمقدمة المفعمة بالروح الشعرية – عدا دقة الترجمة – الى الدكتور زهير مغامس الذي اثرانا بهذه المقدمة القصيرة، بالكثير مما نعرفه ومما لا نعرفه عن قصيدة النثر وعن تاريخ الشعر الاوربي ولو بشكل مختصر ولكنه غزير ولغرض اتمام الفائدة فقد اوجز لنا في اخر مقدمته كل ما تمتاز به قصيدة النثر من وجهة نظره.
"وتمتاز قصيدة النثر بالايجاز والوحدة العضوية والاستقلالية في تكوين عالم قائم بنفسه. وقد صارت بهذه الصفات نوعا ادبيا متميزا اسمه قصيدة النثر.
وزادت في مطامحها إن تمضي وراء اللغة وان تحطم الشكل وان تهرب من الادب. ولكنها اذا بعدت في هذه المطامح من المثال عجزت لدى الواقع والتغيير مما اوقعها في اللغة والشكل المحدد والبقاء ضمن الاشكال الادبية"( ).
إن شعراء قصيدة النثر يبحثون في المطلق ضمن امكانيات محدودة. إن لقصيدة النثر افاقا واسعة ولكنها صعبة المنال ضمن تلك الامكانيات المحدودة.
وقد علق على ذلك الناقد خضير ميري حيث قال "تعاني قصيدة النثر من التدهور والانحلال والتفكك وذلك ناتج عن ضعف اطلاع جيل الشباب على تجربة كتابة قصيدة النثر في ثقافتنا العراقية. هذا من جانب ومن جانب اخر فان معظم الذين يكتبون قصيدة النثر اليوم هم ناسخون مقلدون لتجارب العرب والعالم. إن شعراء قصيدة النثر يعانون من ضعف الاسلوب مستسهلين الانماط السائدة في قصيدة النثر، وهي تلك الانماط التي حاولت استثمار ازمة الواقع العراقي في زمن الحصار والكتابة عن ذلك بفجاجة الى درجة الهبوط الى اليومية العادية او التخريفية الملغزة واستخدام سردية نثرية اكثر منها شعرية"( ).
نستخلص مما سبق إن التجربة الشعرية تحتاج الى مخاضات عديدة وتجارب عميقة لا يمكن إن تكون سهلة بالمعنى الدارج انماهي تراكمات حضارية يحصل عليها الشاعر من خلال القراءة المستمرة والمغنية اضافة الى موهبته الشعرية. ففي عصرنا الحاضر الموهبة وحدها لا تصنع شاعرا والقراءة وحدها لا تصنع شاعرا انما الموهبة تغذى بالقراءات المستمرة التي تنضج موهبة الانسان وتهيء له سبل الانتاج الشعري الذي ما إن يمتزج بالتجربة الانسانية حتى نرى إن ذلك النور العظيم يشع من خلال قصائد تحتوي على جمال الصورة اضافة الى احتوائها على الرنين الذي يجد صداه في داخل نفس المتلقي. والتعبير هنا قد يكون بقصيدة النثر وما اسلفناه من الشروط يصبح واجبا ايضا فقصيدة النثر ليست سهلة المنال كما يبدو لأول وهلة وانما هي من الخصوصية ما يجعل الدخول في عالمها كالدخول في متاهة لا يسبر اغوارها الا الشاعر المتحصن بالثقافة الثرة والتجربة الشعرية والانسانية العميقة.
"قصيدة النثر اتحاد غريب يتضمن جميع المتناقضات، افليس المنثور هو نقيض الشعري في اللغة الدارجة؟... وقصيدة النثر في الواقع مبنية على المتناقضات ليس في شكلها فحسب انما في جوهرها ايضا. نثر وشعر، حرية وصراحة، فوضوية مدمرة وفن منظم انما في جوهرها ومن هنا يبرز تباينها الداخلي وتنبع تناقضاتها العميقة الخطيرة – والغنية و من هنا ينجم توترها الدائم وحيويتها"( ).
هنا يتبين لنا التناقض الغريب في تكوين قصيدة النثر وفي تكون نظرية "تلاقي الاضداد" وحدوث ذلك التلاقي نادرا في الحياة العامة احد سمات هذه القصيدة فلا نملك هنا سوى إن نسير مع هذا الحدث المثير وتأثيره على الساحة الادبية.
ومن خلال الدراسة – مادة البحث – نجد أن هناك مبدءآن لقصيدة النثر وينتج عنهما عنصر ثالث هو صيغتا قصيدة النثر".
1- المبدأ المزدوج لقصيدة النثر.
2- قطبا قصيدة النثر: التنظيم الفني والفوضى المدمرة.
3- صيغتا قصيدة النثر.
"ولدت قصيدة النثر من رغبة في التحرر والانعتاق من تمرد على التقاليد المسماة شعرية وعروضية وعلى تقاليد اللغة"( ).
لقد حاول المهتمون بهذا النشاط النثري والشعري المزدوج اخراج القصيدة من مبدأ "النظام الشعري" الى عالم النثر الفني بايجاد صياغات واساليب فنية نثرية، وعلى اثر ذلك ولد "اسلوب نثري" و"ايقاع شعري" اصبح من الواجب على القصيدة إن تستخلص من نتائج شعرية ذات اسلوب جديد تماما.
والنثر هو نقيض الشعر حيث انه يمقت القوالب الجاهزة وسوف تهرب قصيدة النثر بكل ما استلبته من الشعر مبتعدة عن كل قوالب والفاظ شعرية مفخمة سالكة طريقا خاصا بها من خلال حفرها سبلا في الصخر حينا وفي الوادي حينا آخر لتأخذ خصوصيتها من خلال "الحدث" و"الحداثة".
"إن شعر القرن العشرين هذا لا يستطيع إن يجد شكله الا في الشعر الحر او في قصيدة النثر. وهما وحدهما يستطيعان استقبال مفردات حديثة وواقعية"( ).
مهما تكن صحة وجهة النظر هذه الا انها تمثل الفكر الاوربي الحديث ونحن في حالة انسياقنا وراء هذه النظرة نجد انها لا بد إن تكون صحيحة، ولكن في حالة عدم الانحياز نجد إن وجهة النظر بحاجة الى اعوام قادمة اخرى لتثبت صحتها وتثبت انها وجهة نظر سليمة من حيث الفعل ورد الفعل.
"وكرد فعل مناوئ للمفردات "السامية" للشعر الكلاسيكي فقد اصبح شاعريا في هذه الايام إن نقول "حصان" بدل إن نقول " جواد" و"بحر" بدل إن نقول "اليم"( ).
"وكذلك يدخل ما هو خيالي في نطاق قصيدة النثر اكثر مما لو كان ذلك في نطاق القصيدة الشعرية نظرا لما ينطوي عليه من عناصر فوضوية متمردة على قوانين الطبيعة"( ).
إن لكل مدرسة فنية او شعرية اصولها ومتطلباتها وحتى كلماتها التي تستعملها – اما من ناحية الخيال فحتى المدرسة الواقعية قد تستعمل الصور الفنية المتخيلة بدلا من الصورة الواقعية لان تلك الصورة تمثل عين الفنان والاختلاف هنا هو في مدى استعمال الخيال في قصيدة النثر عن القصائد الشعرية وهي مسألة نسبية في رأينا وقد تكثر هنا وتقل هناك او العكس.
"كلية التأثير والمجانية والكثافة هي المصطلحات التي تؤكد لنا إن القصيدة هي عالم مسور مغلق على نفسه ويكتفي بذاته. انها في الوقت نفسه كتلة مشعة مشحونة بحجم صغير بلا نهاية من الايحاءات وقادرة على إن تهز كياننا من اعماقه"( ).
انها صورة موجزة وحقيقية عن قصيدة النثر التي تمتلك كل تلك الصفات الموزونة والمليئة بالشحنات الانسانية التي باستطاعتها إن تقدم لنا صورة شفافة ومليئة بالحيوية نستطيع في ذلك الوقت إن نقول انها "شيء" وشيء ضروري دخل حياتنا الثقافية واعطى وسيلة اخرى اضافية من وسائل التعبير الانساني.
كتب ج. ريفييرا يقول " في قصيدة جميلة لا يوجد تقدم ابدا فالنهاية هي بنفس مستوى البداية واننا نصل بها مباشرة وكل شيء على مستوى واحد وبالتقارب نفسه. والابيات الشعرية تشكل دائرة وهي تدور باتجاه بعضها بعضا كما يحاور بعضها بعضا فتسجننا في دائرتها وهي تعمل على إن تبقينا في مكاننا.
انها تحاول إن توحي لنا بنسيان الزمن وابعاده إن الانفعال الشعري هو نوع من الدوران يتكون فينا عن طريق بركة ازلية وسط هرب الاشياء نفسه"( ).
ها هم يكتبون عن بضاعتهم بنفس الطريقة الشعرية وانت تقرأ ما يكتبون عن قصيدة النثر تحس بأنهم يكتبون القصيدة نفسها. إن ما نريد التعبير عنه في قصيدة النثر يمكن إن يحس بدل إن يقرأ ونص ريفييرا خير مثال على ذلك.
وعندما نعرج على تعريف قصيدة النثر نجد إن معظم النقاد قد اتفقوا على "انها قطعة موجزة، موحدة، ومكثفة ككتلة من البلور"( ).
ونستطيع إن نوجز كل ما قلناه وما استقيناه من خلال المقطع التالي الذي يصف قصيدة النثر والقصائد الاخرى بأنه "ليس تناقضا بين مدرستين" شعريتين ولكن بين عائلتين ذهنيتين يظهر في كل ميادين تطور الخلق ويجعل من قصيدة النثر حقيقة معقدة لا يمكن ردها الى شكل تنظيم شعري "واحد" الى مسعى خلاق "واحد" لا يتغير على الدوام. إن الشاعر يصوغها على الصورة التي يجب ويطبعها بطابعه الخاص فاما انه يحصرها في اشكال محددة او انه يثير "طغمة المفردات" وهو يرمي الى كمال جامد، الى حالة من النظام والاستقرار – او الى تنظيم فوضوي للكون يستطيع إن يستنبط عالما اخر من وسطه".
إن هذا الكم الهائل من وجهات النظر يكاد إن يصل بنا الى مرحلة النظرية الشعرية حيث تأخذ قصيدة النثر مداها النظري الذي يستطيع من خلاله القارئ إن يستجلي القصيدة المستقبلية.
"وربما بعد مدة طالت او قصرت سيأتي من يدرس هذه التجربة بعمق وتستبعد الطارئين عليها ليضع ملامح واشتراطات وربما أوزان خاصة"( ).
2- قطبا قصيدة النثر: التنظيم الفني والفوضى المدمرة.
"مما لا شك فيه انه يوجد في قصيدة النثر – في إن واحد قوة فوضوية مدمرة تحيل الى رفض الاشكال الموجودة وقوة منظمة تميل الى بناء وحدة شاعرية: ومصطلح "قصيدة النثر" نفسه يميل الى هذه الثنائية. اذ إن من يكتب بالنثر يتمرد على التقاليد العروضية والاسلوبية. ومن يكتب قصيدة يرمي الى خلق شكل منظم مغلق على نفسه ومنفصل عن الزمان، يوجد تمرد في نقطة بداية قصائد النثر كما إن هناك شكلا فنيا في نهاية "الاشراقات"( ).
لقد ولدت قصيدة النثر خلال فترة تمرد ثقافي اتاح للشاعر فضاءات لا محدودة كالسجين الذي يهرب من زنزانته الى عالم فسيح ووديان لا حصر لها مما يشكل له تمردا فوضويا بدل إن تكون حرية بحدود معينة ولكنه عندما وصل الى التيه في تلك الفلاة الموحشة استذكر كل ما كان مخزونا في ذاكرته فحاول إن يستفيد منه في تجربته المجنونة لذلك اضاف بعض الملامح او الصيغ الفنية التي حاول من خلالها إن يكبح جماح قصيدة النثر لتأخذ شكلا تنظيميا اضافة الى روحها المتمردة فاصبحت بهذه الخصوصية. هذا على العموم اما على الخصوص فهناك ميزة اللغة الخاصة بها والمجاهل التي تغور فيها عوالم خاصة بها تكون اكثر بهاءً واشراقا.
"وفي صلب مفهوم قصيدة النثر نفسه يتاصل الاتجاهان المتناقضان اللذان سيوجهان ويقيمان المادة الشفاهية التي تولد صيغتين فنيتين متناقضتين: هما " القصيدة الشكلية" الى "قصيدة الاشراق" وسوف نرى نتاجات الشعراء النثريين تتأرجح تبعا للأفراد والعصور"( ).
لقد بدأت قصيدة النثر تأخذ اشكالها وابعادها الحسية واخذت تتشكل وتأخذ اطرا حتى لو كانت هذه الاطر تمردية او فوضوية او حتى اطرأ تعتمد في تشكيلها على الازمنة القديمة.
ومن خلال الفصل السابق نستنتج صيغتين لقصيدة النثر وهما القصيدة الشكلية والقصيدة الاشراق.
1 – القصيدة الشكلية: هي التي تفرض على الوقت بنية او اشكالا ايقاعية منتظمة.
2- القصيدة – الاشراق: هي التي تمحو حدود المكان والزمان.
لقد كتب الشاعر الفرنسي المبدع اراغون "في عصر السريالية الاكثر طموحا إن الحرية تبدأ هناك حيث يولد المدهش".
إن هذه القصيدة تحاول إجتثاث القارئ وتخليصه في إن واحد من الحمل المضني للزمن ومن العادات المنطقية وانتزاعه من قيود هذا الكون لاعطائه انطباعا بعالم اخر غريب، مدهش حيث الانسان الموهوب بطاقات جديدة قد يسيطر على المادة اللدنة بدلا من إن يخضع لقوانينها"( ).
اننا نحاول إن نقترب اكثر فأكثر من روح هذه القصيدة التي ولدت في عصر جنوني اغرقها في الكثير من العوالم الغيبية حتى لقد اصبح الغموض يلازم الكثير من نتاجات الشعراء المحدثين بالرغم من انها لا تبنى على الغموض انما تبنى على القدرات التي تنقل الانسان من عالم صغير الى عالم اوسع بموجب مفردات عادية ولكن بطرق وصيغ تبعث على الادهاش والغرابة. انها تسبر اغوار المجهول باشكال وانماط جديدة وقد تستعمل الفضاءات والفراغات وباساليب لا تخضع لعادات الفكر المنطقي ولا تخضع لعادات اللغة.
"وفي المقام الاول نرى تشكل " ثريات من الكلمات، عناقيد من الكلمات تسهم واحدة منها اما في تقوية الانطباع نفسه وخلق "جو" خاص او في تفجير غير متوقع باصطدام الايحاءات المتناقضة "الجمر والزبد" في قصيدة "متوحش" لرامبو وفي المقام الثاني تنظيم هذه الثريات، وتدخل في علاقات بموجب قوانين علم الفلك الخاص بكل قصيدة. إن كل قصيدة مهما كانت متحررة من الفكر العقلاني لها منطقها الداخلي ويمكن إن يتحدد المنطق باكثر الجنون غرابة – وهذا الاقتران يولد اعمالا عبقرية"( ).
انه عصر مجنون ولدت فيه اكثر الاعمال الفنية غرابة وفي كثير من الاحيان نرى هذه الاعمال تسبر غور العبقرية الفذة وفي احيان اخرى نرى بساطة حد السطحية وفي الحالتين هناك اما شكل متوهج او اشراق يصل بنا الى حد الادهاش.
ولكننا في اغلب الاحيان نحس عمقاً في تلك القصيدة "العابثة" و "المفككة" بموجب الاحكام الكلاسيكية، بانتظام صلات وعلائق دقيقة بين الكلمات والصور التي تنتظم عبرها الفكرة الشعرية بحيث إن النتاج المكتمل يبدو وحدة واحدة كاملة وتركيبا تجمع في "ايحاء آني" كل انواع العناصر التي لا يحصل عليها التحليل العقلاني المنطقي الا بشكل مجزأ ومن فكرة التأليف والاتحاد تلك سوف ننقل الى فكرة الرمز لنلاحظ إن قصائد النثر الجميلة لها على الدوام تقريبا طابع رمزي:
شريطة إن تأخذ كلمة "رمز" لا بالمعنى الضيق للترجمة المجازية لفكرة ولكن بمعناها الاوسع للتعبير المجازي بلا شك"( ).
بوصولنا الى مرحلة الموازنة تلك نكون قد قطعنا شوطا طويلا مع قصيدة النثر اذ اخذت شكلا جديدا في مجال الشعر وبدأت تعبر عن مرحلة تتسم بالعبثية والخروج عن كل ما هو مألوف وقد اتسمت هذه القصيدة ايضا باستعمالها للرمز. ذلك الرمز الذي انبثق مع الشعر الحر وكان احد مرتكزاته الاساسية الا إن الرمز هنا يأخذ مناحي اخرى، فهو يخرج مع الشاعر الى الفلاة يمارس حريته المنغلقة ضمن سياقات القصيدة الجديدة. لقد اتخذ التعبير صورا اخرى للقصيدة فليس المهم إن تكتب القصيدة بطريقة الشعر او النثر انما المهم إن تحتفظ بذلك "النغم الجوهري" الذي يمنحها اصالتها.
"ولا ننسى فضلا عن ذلك انه في اصل اية محاولات لقصيدة النثر هناك ارادة في تحويل شكل جديد، فردي في آن واحد فوضوي فيما يتعلق بالاشكال الموجودة وفني في تنظيمه للنثر في قصيدة"( ).
إن قصيدة النثر لم تأت اعتباطا انما كانت نتيجة مخاضات في مجال الفن والادب والسياسة والاجتماع وقد ولدت بغرابة مشابهة تماما لغرابة الفترة الزمنية التي ولدت فيها. إن لشعرائها دورٌ كبيرٌ في صياغة النظرية التي اصبحت بموجبها قصيدة النثر موجودة ولا اقول مقبولة في عالم يرفض كل ما هو عقلاني.
"وباختصار اقول لكم إن بؤس الكتابة الشعرية ناتج عن ضحالة القراءة"( ).
واذا عدنا الى واقعنا الثقافي في العراق فاننا سنرى هناك تجارب كثيرة لشعراء شباب مجيدين الا ان الزمن هنا زمن قتل وهناك حيث ولدت قصيدة النثر كان زمن جنون وهناك فرق شاسع بين القتل والجنون.
التعليقات (0)