أخشي أن جمعة التحرير الأخيرة بالصورة التي سادتها تزور معني ميدان الثورة، وتدعم بالقصد أو بدونه تجمعات أرامل مبارك في ميدان روكسي وميدان مصطفي محمود.. بل تدعم وتحمي مبارك نفسه.. وتتواطأ مع ما تبقي من جنرالاته
بدا المشهد مخيفا بحق، جلاليب.. جلاليب علي مدد الشوف، وكأنك انتقلت فجأة إلي قندهار عاصمة طالبان أفغانستان، أو إلي بيشاور عاصمة طالبان باكستان، وجوه لبشر لم ترهم عين في مظاهرات الثورة المصرية، وهتافات لا تردد مطلبا واحداً للثورة، لا تستعجل محاكمات جدية، ولا تطلب العزل السياسي للفاسدين، ولا تطالب بحد أدني ولا حد أقصي للأجور، ولا بوقف تصدير الغاز لإسرائيل، ولا بالحرية ولا العدالة ولا الكرامة، فقط هتاف واحد يلف ويدور، وهو «إسلامية.. إسلامية»، وكأن غزوة الكفار علي حدود ميدان التحرير!
بدا الحشد سلفيا صرفا، وإلي حد أن الحشد الإخواني ضاع في الزحام، ووجوه البشر ناطقة بالطيبة، وإن كانت مغلفة بذقون ثقيلة، جلبتهم أوتوبيسات مكيفة من محافظات بعيدة وقريبة، وجري شحن النفوس بخوف مفتعل، وبمشاعر الذهاب للحرب، وبقراءات محرفة لقصة المبادئ الحاكمة للدستور، وبافتراضات عبثية لم ينطق بها أحد ذو شأن، فكل تصورات المبادئ الدستورية، وسواء كانت حاكمة أو محكومة، وسواء صدرت عن جماعة المجلس الوطني، أو عن تحالف الإخوان مع الأحزاب الديمقراطية، أو عن المرشح المحتمل للرئاسة محمد البرادعي، أو عن المرشح المحتمل للرئاسة هشام البسطويسي، أو عن أي جماعة مصرية وطنية، قومية كانت أو يسارية أو ليبرالية، الكل ـ بلا استثناء ذو قيمة ـ يجعلون مادة الشريعة الإسلامية في أول قائمة المبادئ الدستورية التي يفترض أن تكون حاكمة، وهذا أمر طبيعي جداً، وقد سبق لكاتب السطور أن قالها شفاهة وتحريراً، وهي أنه لاتوجد قوة علي ظهر الأرض قادرة علي إلغاء مادة الشريعة في أي دستور مصري قائم أو متخيل، والمادة المتفق عليها ترد بذات النص المذكور في الدستور السابق، وفي الإعلان الدستوري الحالي، وتؤكد علي أن «الإسلام دين الدولة،واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع»، والإضافة المقترحة موضع إجماع وطني هي الأخري، ومن الفئات الإسلامية ذاتها، ونصها بالحرف «ولطوائف المسيحيين المصريين الحق في الاحتكام لشرائعهم فيما يخص أحوالهم الشخصية»، وليس فيها جديد هي الأخري، فهي مطبقة قانوناً منذ عقود طويلة، ثم إنها متطابقة تمام التطابق مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وبقية المبادئ الحاكمة المقترحة لا يتصور أحد أن تكون موضع جدال، ولا يتصور أن يخلو منها دستور، ولو في بلاد واق الوق، ومن نوع تأكيد حقيقة أن «الشعب المصري جزء من الأمة العربية يسعي إلي تحقيق وحدتها الشاملة»، أو من نوع التأكيد علي الطابع المدني للدولة، كذا حقوق المواطنة والمساواة والحريات الأساسية، وسواء وضعت هذه المبادئ قبل إنجاز الدستور، أو وضعت مع بقية مواد الدستور في الوقت نفسه، وأيا ما كانت الجهة التي تكتب الدستور، فكلها تفاصيل قد تستحق النقاش، أو حتي الخلاف في الجدوي العملية المباشرة، وفي نسبة ضمان التوافق الوطني العام، لكنه خلاف لا يستحق إعلان الحرب علي الطريقة التي بدا عليها ميدان التحرير في جمعة 29 يوليو 2011 .
وكاتب السطور ليس علمانياً، وهذه حقيقة معروفة من زمن طويل، وقد أنفقت شطرا هائلا مما كتبت علي مدي ربع قرن في محاولات جسر الهوة بين الإسلاميين وغيرهم، وانتصرت لحق الإسلاميين كغيرهم في حرية الحركة والتنظيم، ودون افتئات علي الإسلام الذي لا يجيز إقامة دولة دينية، فليس في الإسلام رجال دين، بل علماء ومتفقهون، ليس لهم حق الكهانة ولا الوساطة بين العبد والرب، فليس في صحيح الإسلام سلطة دينية من أي نوع، وهذا ما تقوله لفظا كل كتابات التيارات الإسلامية، لكن ما رأيته في «جمعة الجلاليب» كان شيئا مختلفا وصادما، فقد سيطرت جماعات سلفية لم يلحظ أحد دورا لها في الكفاح الطويل ضّد نظام مبارك، بل كان بعضها يؤدي «خدمته الدينية» في معية جهاز مباحث أمن الدولة، وتحرص الآن علي افتعال معارك في غير موضع، وعلي طريقة حرب طواحين الهواء، فليس من أحد يعارض شرع الله، ولا التأكيد علي هوية مصر الجديدة العربية الديمقراطية الإسلامية، وبلا تناقض ولاتنافر، وقد سيطرت هذه المعاني العامة، وبهتافات زعيق حربي، وكأننا في ترف من أمرنا، وليس في معركة الدفاع عن مطالب الثورة العاجلة، ومقاومة مؤامرات إجهاضها، والضغط علي المجلس العسكري الحاكم لإنهاءالتباطؤ والتواطؤ، وليس التفرغ لنفاق أي سلطة مهما كان اسمها ورسمها، وكأن النفاق ـ لا سمح الله ـ من شرائع الإسلام، وعلي طريقة نفاق سلفيين لحكم خادم الحرمين الذي هو خادم العدوين، وكأن المقصود هو قول أي كلام يلفت النظر عن الثورة ومطالبها وأهدافها العاجلة، وهو ما لايجيزه شرع الله عز وجل، ويدخل في باب الخدمة غير المباشرة لمبارك وعصابته ونظامه، وإثارة غبار كثيف تتخفي تحته قوات الثورة المضادة، وتنعم بنشر الفرقة بين أبناء الشعب المصري، وتسمح بتمرير جرائم يعد لها، ومن نوع تحصين مبارك ضد المحاكمة الفعلية، والضحك علي ذقون الناس بدعوي أحواله الصحية المتدهورة، فبينما لا يسمح القانون ـ ولا الشرع ـ بغياب مبارك عن المحاكمة، تريد السياسة الحاكمة أن تتخفي بمبارك، وتنشر الأكاذيب بتقارير صحية مزيفة، ومن نوع تقرير الطبيب الألماني «بوشلر» الذي لم يذهب أصلاً إلي مستشفي شرم الشيخ، وجاءت التقارير الرسمية لوزارة الصحة المصرية لتكذب ما نسب إليه زوراً، فلم يدخل مبارك في غيبوبة، وكل ما يعانيه من عوارض صحية مألوف في سن الشيخوخة، ومن نوع الدوار الخفيف، أو تقلبات ضغط الدم، ولا يوجد مانع صحي إطلاقا من نقله إلي قاعة المحاكمة، كما قال لي مسئول حكومي، كما أنه لم يكن يوجد أي مانع صحي من نقله إلي مستشفي سجن طرة، وقد مضت شهور طويلة كانت كافية وتزيد لإعداده وتجهيزه بما يلزم، وهو ما لم تفعله سلطة المجلس العسكري، بل تعمدت علي ما يبدو ألا تفعل، وضربت بدواعي القانون عرض الحائط، وأوفت بتعهداتها لجهات دولية وإقليمية تسعي لاحتواء الثورة المصرية، بل أوفت بوعودها للديكتاتور المخلوع نفسه، وتركته في محبس الخمس نجوم بمستشفي شرم الشيخ، وهي تعوق الآن عملية نقله إلي جلسة المحاكمة، وتضغط لتأجيل المحاكمة نفسها، أو ترحيل الجلسات التالية إلي مدي طويل، ربما انتظارا لنجدة «عزرائيل»، وطلباً لأمر العناية الإلهية، وبينما تبدو محاكمة مبارك من عدمها هي معركة اللحظة، وبينما يبدو تخاذل المجلس العسكري في محاكمة المخلوع هو سؤال اللحظة ـ فقد قررت جماعات سلفية ـــــ باتفاق مسبق ـــــ أن تفعل شيئا آخر، وأن تؤجل مواعيده إلي مقربة أيام من المحاكمة الموعودة والملتبسة، وأن تفتعل معركة السيوف الخشبية مع جماعات وطنية وثورية، وفي موضوعات الهوية التي لا خلاف فيها، وكأنها لا تريد القصاص لحق شهداء الشعب المصري، وتذر الرماد في العيون بحروب القصاص المفتعل مع من تسميهم بالعلمانيين(!).
نعم، الخطر جدي، ولا مجال للتخفي من وراء الذقون، والانقسام ظاهر بين الثورة والثورة المضادة، والذين يفتعلون معارك زائفة يهينون الإسلام، ويتخذونه مطية في صفقات سياسية مريبة، ليس لها من هدف سوي خدمة جنرالات التباطؤ والتواطؤ، والحيلولة دون بلوغ الثورة أهدافها، وإنفاذ المطلب الأمريكي الإسرائيلي السعودي بعدم محاكمة مبارك فعليا.
وأخشي أن جمعة التحرير الأخيرة ــــــ بالصورة التي سادتها ــــــ تزور معني ميدان الثورة، وتدعم ـــــــ بالقصد أو بدونه ـــــ تجمعات أرامل مبارك
عبد الحليم قنديل كاتب صحفى من مصر
التعليقات (0)