جلسات رمضانية
حلقة (2)
اللوح المحفوظ
اللوح المحفوظ:
اللوح المحفوظ هو الكتاب الذي كتب فيه الله المقادير قبل الخلق إلى قيام الساعة . وهو مستودعٌ مشيئة الله عز وجل لكل ما هو كائن.
ورد النص على اللوح المحفوظ في سورة البروج : [بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ (22)] ..
ومحفوظ هنا بمعنى الحفظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل .
وعن مكان االلوح المحفوظ فقد قيل أنه يقع عن يمين عرش الرحمن . وعن إبن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، لله في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ، يخلق ويرزق ويميت ويحي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء))
كما ورد في مواقع أخرى بلفظ ((الكتاب)) من الآية 70 سورة الحج عند قوله عز وجل: ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)).
وفي ذلك يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)) ......
وقال عليه الصلاة والسلام: ((أول ما خلق الله القلم قال له أكتب . قال وما أكتب؟ قال الله : أكتب ماهو كائن فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)).
وكذلك من الآية رقم 22 في سورة الحديد. ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) ..... فالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ . ومعنى قوله (نبرأها) هو : قبل أن نخلق الخليقة.
وهذه الآية الكريمة تتوافق مع قوله في الآية رقم (23) من نفس السورة ((لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) .... وتأسوا بمعنى تحزنوا ... وتفرحوا هنا معناها البطر والغرور .... وتفسير هذه الآية هو أن الله أعلم خلقه بتقدم علمه وسبق كتابته للأشياء قبل كونها . وكذلك تقديره للكائنات قبل وجودها لنعلم أن ما اصابنا لم يكن لبخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا فلا نحزن ونتحسر على شيء فاتنا تحصيله لأنه لو كان الله قدره لكان ، أو نشعر بالفخر ونتبطر ظنا مننا أننا حصلنا المنافع بإرادتنا الذاتية كما زعم قارون حين إدعى أن أمواله وثروته من علمه الذاتي دون أن يرد ذلك إلى مشيئة الله تعالى . .... وبالجملة ينبغي الفهم أن الله يسبب الأسباب وعلى العبد أن يسعى ويسأل الله الرحمة والتوفيق والمغفرة.
كما ورد في الحديث النبوي الشريف بلفظ ((الذِكْر)) . فقد جاء في صحيح البخاري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذِكْر كل شيء، وخلق السموات والأرض)).
وعدا ذلك فكل الأحاديث التي وردت في وصف اللوح جرى تصنيفها على أنها ضعيفة ومنكرة ومن ثم لا يعتد بها .....
كذلك كانت كل اجتهادات السلف السابقين نابعة في هذا الجانب من طبيعة تكنولوجيا ذلك العصر في التدوين وعمل الكَتَبَة (جمع كاتب) في الدواوين ، ولهم العذر في ذلك فإلى يومنا الحاضر لا يعرف العديد من خريجي الجامعات التعامل مع جهاز الكمبيوتر.
ومن ثم فربما كان السبب في اكتفاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالإشارة إلى اللوح المحفوظ على أنه ((الذِّكْر)) مَرَدّهُ إلى أن الصحابة في ذلك الزمان وما بعده . ثم والعقل البشري عامة وحتى تاريخ قريب جدا . لم يكن ليستوعب على سبيل المثال ميكانيزم الكمبيوتر وحقيقة القدرات التخزينية الهائلة للمعلومات والكلمات والصور، والمعالجات الأخرى المتعددة التي يتيحها الكمبيوتر في زماننا الحالي.
والكمبيوتر هو بلاشك علم من علوم الله عز وجل، وإلا ما كان للإنسان وللعقل البشري أن يتوصل إليه ..
ولا شك أنه ستكون في المستقبل القريب والبعيد أدوات أكثر تطورا لحفظ المعرفة وتحزين المعلومات مما هو عليه الآن .. لكننا على الأقل وفي زماننا الحاضر نستطيع إستيعاب وتقدير إمكانية ذلك.
وبالطبع فليس المقصود هنا التخريج بأن اللوح المحفوظ (فيزيائيا) هو جهاز كمبيوتر غير محدود القدرات . ولكن المقصود هو الفكرة وميكانيزم العمل.
نعم هناك إشارة واضحة إلى الملائكة الكتبة الحافظين . ولكن وظيفة هؤلاء تختلف (وسيجري التطرق إليها بالتفصيل عند الحديث عن الملائكة) .... ثم أن في الظن بأن الملائكة يكتبون في اللوح المحفوظ على عِلاّت ذلك فيه نظر .... لماذا؟
لأن هناك حقيقة إيمانية تتعلق بأن ((الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل)) .... وبالتالي فإن الغيب هو معلومة مكنونة ، لا يدركها الملائكة الكتبة الحافظين ، ولا غيرهم من الملائكة المقربين عليهم السلام ..
وربما يجادل البعض بالقول أن الشياطين ومردة الجن حين كانوا يسترقون السمع كانوا (ولا يزالون) يحصلون أحيانا على بعض المعلومات عن المقادير . وذلك وفق قوله عز وجل في محكم تنزيله من سورة الجن : [وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا(8) وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (9)]..
وهؤلاء أرد عليهم بأن السماء المشار إليها هنا هي السماء الأولى .. وأن حصول هؤلاء على جزء من معلومة قدرية مََّا ؛ إنما يجري في مرحلة ((التنزيل)) و ((التصريف)) . وليس من رحم مكنون الغيب الذي يعمله وحده الله عز وجل... تعالى الله عَلاّم الغيوب.
الذِّكْرُ في اللغة العربية:
والذِّكْرُ (بالكسر وتسكين الكاف)في اللغة العربية هو حفظ الشئ وتـَذَكّره (أي إستدعائه) . وهو نقيض النسيان .. إذن الكلمة لها وجهان .. الوجه الأول هو الحفظ .... والوجه الثاني هو الإستدعاء.
ولفظ الذَِّكْـرُ يعتبر في حقيقة الأمر الوعاء الأشمل والأوسع. والقاعدة المبسطة لأبجديات عمل الكمبيوتر. فكل شيء فيه يعتمد على (الذاكرة memory) حتى (السرعة (speed تعتمد على حجم الذاكرة ولافائدة من التغذية دون حفظها في الذاكرة memorization وبالتالي إمكانية إعادة إستدعائها.
إذن جاء لفظ ((الذكر)) في الحديث النبوي الشريف هنا ليصف (ميكانيزم) اللوح المحفوظ وليس فيزيائيته ....
وقد اجتهد فقهاء كُـثُـرْ من السلف الصالح في التعرض لميكانيزم اللوح المحفوظ ، وفق ما توفر لهم وقتها من معلومات وخبرات وقدرة على التخيل والاستيعاب . فظنوا أنه لوح يكتب فيه ملائكة ((كتبة)) . بأقلام وحبر ذلك الزمان ، مثل ما جرت عليه العادة والروتين في كتابة الرسائل والأوامر وأرشفتها وتصريف أمور الدولة في ((عصر الدواوين)) الذي نشأ أولا على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم تطور على النحو المعروف في العهد الأموي على يد عبد الملك بن مروان ، ثم العباسي على يد هارون الرشيد وإبنه المامون ... وحيث لا يزال منظر وروتين الكاتب الحكومي خلال العصر الحديث ولا يزال وجبروت الباشكاتب وأقلامهم ((الكُوبْيـََا)) ماثلة أمام العيان أو متعلقة في الأذهان .......
أما الفقيه وترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما؛ فقد اكتفى ((مجتهدا)) بوصف فيزيائية اللوح المحفوظ دون التعرض للميكانيزم. ومن ثم فلا ضرر هنا من الإشارة إلى وصف لإبن عباس رضي الله عنهما أورده إسحاق بن بشر قال: أخبرني مقاتل وإبن جريج عن مجاهد عن إبن عباس قال: "واللوح المحفوظ لوح من درة بيضاء . طوله ما بين السماوات والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، حافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه باقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه معقود بالعرش ، وأصله في حِجْرِ مَلَكْ ".
اللوح في اللغة العربية:
جاء في لسان العرب أن اللوح هو كلُّ صفيحة عريضة من صفائح الخشب ، وعظم الكتف ..... وكل عظم عريض إذا كتب عليها سميت لوحا ... وأما قوله عز وجل: ((في لوح محفوظ)) فإنما هو على سبيل المَـثَـلِ.
ونحن في السودان نستخدم مسمى اللوح على الصحيفة من الخشب حتى تاريخه . وهي تلك الصحيفة الخشبية المستخدمة في خلاوي تعليم القرآن الكريم واللغة العربية ..
تلميذ في إحدى الخلاوي القرآنية يكتب آيات من الذكر الحكيم في لوح خشبي
كذلك جاء ذكر الألواح أيضا على هذا النحو المشار إليه الشائع الإستخدام في السودان في قوله عز وجل عن موسى عليه السلام: ((وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء)) ... قيل وكانت مادة هذه الألواح من جوهر نفيس . وقد حمل موسى عليه السلام هذه الألواح في يده (قيل لوحان) وعاد بهما إلى بني إسرائيل . فوجدهم قد عبدوا عجل السامري . فألقى الألواح أو كما جرى تفصيله في سورة الأعراف.
((والله أعلم))
يتبع الحلقة القادمة (الملائكة) إنشاء الله
التعليقات (0)