جفاء
1
حالما عبرت بوابة فونتانا هيسا.. تعلقت بي الشابة روبيكا موريسن :
ــ هسن، هسن.. لقد اكتشفت مسكن والدتي!
كنت أحاول التقاط أنفاسي حين استمرّت تبلّغني:
ــ انها تسكن في " تاين"..
ــ ...
ــ في الطابق الأرضيّ للعمارة المجاورة لك.
رغم معرفتي بمقرّ سكنى العجوز كاري موريسن، فقد تصنّعت الدّهشة:
ـــ حقّا!!
ــ أجل هسن
ـــ...
ــ من كان يتصوّر ذلك؟
ـــ ...
ـــ اكتشفت ذلك منذ خمسة ايام فقط، فيما كنت أبحث عن شقتك.
ـــ ...
ـــ تصور هسن.. لقد استقبلتني هذه المرّة .
ـــ جميل !
ـــ حتى انني بتّ عندها.
ـــ تهانيّ روبيكا الجميلة.
ـــ ليس هذا فقط.. لقد وعدتني بالمبيت عندها مرّة كلّ أسبوع ...
وهي ترجّني من جديد:
ـــ هل يمكنك تصديق ذلك؟
ـــ ...
ـــ لكنني أرغب في أكثر من مبيت ليلة واحدة.
ـــ ...
ـــ هسن هسن لا بدّ أن تساعدني... أرجوك.. لا بدّ أن تكلمها.. أعلم جيّدا أنها تكنّ لك بعض الودّ.. فأنا اكثر حاجة إلى كتفين ابكي عليهما، و الى صدر أسند عليه رأسي.
كنت مضطرا لمغادرة روبيكا موريسن، بعد أن وعدت الشّابّة النرويجيّة خيرا.
ــــــــــ 2 ـــــــــــ
يا لروبيكا المسكينة..أعرفها منذ كانت قطعة لحم لا تزن أكثر من سبعة أرطال.. لأكثر من ثلاثين سنة، ظللت أعمل سائقا عند والدها تومي موريسن.
لأكثر من تسع سنوات، ظللت أواسي الطفلة الصغيرة روبيكا كلما عاينت غلظة والدتها، أو شكت لي قسوتها.
عند بلوغها الخامسة عشر هجرت روبيكا بيت أبويها لتعيش رفقة حبيبها سفاين.. كنت أعلم بأنها كانت تقيم في الدنمارك كما لم أكن أجهل أن جميع محاولات والدها للتقرّب منها قد باءت بالفشل الذّريع.
بعد سنتين من إنتحار أبيها الذي أعقب إفلاس شركته، التقيت روبيكا موريسن.. كان ذلك في "أوسلو ستيشن" أو محطة قطار الضواحي..كانت هي المبادرة بالتسليم عليّ..لم أتعرّف عليها لأوّل وهلة بسبب زيادة وزنها بشكل ملفت للنظر.. بعد تعبيرها عن فرحها برؤيتي، روت لي كيف قتل حبيبها سفاين بدم بارد بعد رفض والده دفع فدية فرضها خاطفوه" لقد كان مبلغا شديد التفاهة، بالقياس الى ثروته الخياليّة".
أضافت وهي تمسح دمعة:
"منذ ذلك الحين، دخلت في دوّامة حزن أسلمتني إلى اكتئاب حادّ دفعني في مناستين الى محاولة الإنتحار". حين سألت روبيكا
موريسن عن والدتها كاري موريسن، أعلمتني بكثير من الحسرة بأنها تقيم في "غرينلاند" إحدى ضواحي أوسلو، و قد رفضت إيوائها رغم حاجتها الشديدة إلى العيش معها، و الأنس برفقتها.
بعد سنة واحدة من لقاء "أوسلو ستيشن، صادفت روبيكا موريسن أمام سينما "ألدورادو" الكائنة في ناصية شارع ستور غاتا، كانت قد استعادت بعض رشاقتها كما عاودها حبّ الحياة كأشدّ ما يكون.. بعد تبادل كلمات الترحاب المألوفة، أخبرتني جذلة بأنها تعرّفت على شابّ تونسيّ شديد الوسامة، و أنهما يعيشان معا تحت سقف واحد.
بعد رجوعي من السويد، إثر إقامة دامت خمس سنوات، عثرت ثالثة على روبيكا موريسن، حدث ذلك في مدخل مطعم باكستاني يقع على يسار الدّاخل الى المجمع التجاري "بي برتن" بأوسلو. كانت شديدة الشحوب، بعد سؤالها عن سرّ تغيّبي أخبرتني بكثير من اليأس و الأسى، بأن زوجها التونسيّ قد غادرها فور حصوله على الوثائق الضروريّة لإقامته بالنرويج، وبأن اكتئابها قد عادوها، و بأنها لا تدري كيف تصنع بحياتها بعد أن جبنت عن الإنتحار.
حين قصّت عليّ روبيكا موريسن آخر حلقة من مسلسلها البائس، كنت حينئذ قد التحقت حديثا بالعمل في "فونتانا هيسا" أو دار المنبع، وهي مؤسسة إنسانية تقع في منطقة "بيشلات" من ضواحي أوسلو و يديرها فريق رائع من رجال و نساء جعلوا هدفهم الأول و الأخير، التخفيف عن المكتئبين بتوفير مناخ إنسانيّ افتقدوه في محيطهم العائليّ و الإجتماعيّ. لأجل ذلك نصحت روبيكا موريسن بالإلتحاق بالمؤسسة المذكورة، لشدّة يقيني بما ستحظى به هناك من رفقة أناس إحتفاليّين و شديديّ الحدب و الطيبة.
حين سألت روبيكا عن آخر أخبار والدتها، أعلمتني بأنها انتقلت الى وجهة أصرّت على أن تكون مجهولة لديها.. كانت روبيكا موريسن منهارة و يائسة إلى حدّ دفعني، رغم مشاغلي
العديدة الى منحها أمسية كاملة سعيت فيها إلى التخفيف عنها بقدر المستطاع.. كانت معظم شكاواها من والدتها التي لم تكن تدع أي فرصة تمرّ، دون تذكيرها بأنها لم ترغب قط في إنجابها، لإعتقادها بأن الأطفال عبء لا ربح من ورائه.
لما كنت جدّ متأكد من قسوة كاري موريسن والدة روبيكا، و من نضوب معين الرحمة من فؤادها، فقد أخفيت عن الشابّة المسكينة اكتشافي منزل والدتها قبل شهر واحد، أي بمجرّد انتقالي الى "تاين".. أردت تجنيب البنت آلاما إضافيّة هي أغنى ما تكون عنها.. لكنني كيف أصنع اليوم، وقد تعرّفت روبيكا المسكينة على مكان والدتها حين كانت تبحث عن شقتي التي خلت مني لأسبوع كامل.
ــــــــ 3 ــــــــ
احتجت الى إعادة الضغط على الجرس حتى كلّت أناملي قبل أن تفتح لي كاري موريسن باب شقتها المعتمة.. كنت أخطّط لزيارة العجوز حتى قبل ان تكلفني روبيكا اندرسن بلقائها، لا لشيء الا رغبة مني في سبر فعل الزمن في عقلها بعد أن عاينت فعله المدمّر في بنيانها النرويجيّ المربك.
ـــ حسن.. هل يعقل هذا؟!
كاري موريسن هي النرويجية الوحيدة التي تحسن نطق اسمي كما يجب..
ـــ مرحبا... حسن.. تفضّل بالدخول .
كنت اتحسّس مواقع قدميّ، حين راعني تعلّق كائن غريب برجلي، لم أميزه للوهلة الأولى الا حين سارعت كاري موريسن موضّحة:
ـــ إنه كلبي "مارش".
كنت أسعى لتجّنب وقع لعاب مارش على بنطلوني حين أضافت العجوز بفخر لا يخفى :
ـــ هل تعلم، انه من سلالة نادرة؟
أضافت وهي تزيح ستائر نافذتها:
ـــ وانه ليس في مملكة النرويج أكثر من أربعة من صنفه.
كان مارش كلبا بالغ القبح، شديد الضآلة، وخاليا من الشعر و لا يزيد عن حجم هرّة.. باختصار شديد، كان المسكين أقرب ما يكون الى أرنب مسلوخة.
فور جلوسي على اريكة يعلوها غبار شهرين، شرعت اخبر السيدة المسنة:
ــ لقد قابلت ابنتك.
ــ ...
ــ كانت جد مسرورة بقضاء ليلة معك.
عبست المرأة للحظة، ثم استمرت تفيدني وقد استقرت بجواري واضعة المسخ مارش في حجرها:
ـــ أصله من جنوب المكسيك.. عمره ثلاث سنوات...
حين فرغت كاري موريسن من تعريفي بسلالة "مارش" و أهمّ خصائصه التي تميّزه عن غيره من أبناء فصيلته..حدثتها بدوري عن روبيكا، حرصت على اقناعها بأن ابنتها الشابّة شديدة التعلّق بها و بانها سعدت كثيرا بالمبيت معها آخر مرّة.
ـــ لا انكر انها تحبّني و تتوق الى مساكنتي، لكنّ إنزال مارش الى القبو كان ليلتها حلاّ ظالما و بالغ السخافة.
ـــ ...
ـــ فمارش، خصوصا بعد اصابته بتيبّس المفاصل، أصبح يحتاج الى مساحة واسعة تضمن له التريّض و مزيدا من حريّة الحركة.
ـــ لم لا تبقين مارش معكما، ففي الشقة سعة فيما أرى.
ـــ لقد جربنا ذلك، لكن مارش المسكين لم يطق مجرّد رؤية جوزيفين.
ـــ جوزيفين؟
ــ أعني قطة روبيكا.
ـــ ...!
ــ المضحكة جدّا.
تذكرت ان لروبيكا قطة هرمة قدّمتها لي ذات مرّة.
ــ لم تكفّ جوزيفين عن مطاردة عزيزي مارش حتى أرهقته.
ـــ...
ـــ هذا بالإضافة الى إصابته بذعر شديد.
ـــ ...
زفرت كاري موريسن بشدّة قبل أن تضيف مشمئزّة:
ــ لقد نصحتها بالتخلّص من تلك القطة الكريهة. لكن الغبيّة أصرّت على التمسّك بها حتى كأنها من سلالة نادرة.
أجبت مدافعا:
ـــ صحيح ان جوزيفين مجرّد قطة عادية ـ لنقل ليست من سلالة نادرة ، و لكن لا تنسي أنها آخر ما بقي من آثار حبيبها سفاين.
ـــ مالي و لسفاين؟
ـــ على كل ستكون روبيكا جدّ سعيدة باستقبالك لها أكثر من مرّة في الأسبوع.
صاحت كاري موريسن كمن لدغتها عقرب:
ــ أكثر من مرّة في الأسبوع؟
ــ أجل..
انخرطت العجوز في ضحكة هستيرية قبل ان تضيف معتذرة:
ــ هيهات هيهات، فحتى إمكانيّة مبيتها مرّة واحدة في السنة لم تعد متاحة بعد الآن!
سكتت قليلا ثم أضافت سائلة :
ــ ألم أخبرك منذ قليل بأنني احتجت الى معاقبة مارش في تلك الليلة التي قضتها روبيكا عندي؟
سألتها متجاهلا:
ــ لم أفهم.
ــ لقد عاقبت مارشي المسكين
(ثم وهي تقرب رأسه الصغير الي شفتها المجعدتين لتوسعه تقبيلا)
ـــ بإنزاله الى القبو.
ـــ ...
ـــ ما غاب عني ليلتها، أن بالقبو فتحة كان يحلو لمارش الدنوّ منها و دسّ أنفه فيها.
ـــ ...
ـــ النتيجة ان المسكين أصيب بالتهاب رئويّ كلفني علاجه، و الى حد الساعة ـ أكثر من ألفي كرونة.
قلت مهوّنا الأمر:
ــ سأتولى بنفسي سدّ تلك الفتحة اللعينة.
حين ضحكت كاري موريسن من اقتراحي سارعت مضيفا:
ـــ سأتولّى أيضا و بصفة مجانيّة تزويد القبو بسخّان كهربائيّ يجنب عزيزنا مارش نزلات برد آتية.
ـــ لو فعلت ذلك فستحرم سامبو من جولته الليلية.
اضافت كاري موريسن موضّحة وقد عاينت حيرتي:
ـــ عفوا أنا لم أحدثك عن سامبو.
ـــ..
ـــ هو بن عرس يعيش في القبو .
ـــ ...!
ـــ هو أيضا من سلالة نادرة.
اضافت كاري موريسن و قد تهلّلت اساريرها:
ـــ سيزول عنك العجب من تآلف مارش و سامبو حين تعلم بأنهما قد رضعا كلبة واحدة!
ـــ ...!
ـــ و الا كيف يمكن الجمع بين كائنين متنافرين مثلهما ؟
هممت بالإشارة على كاري موريسن بترك القطة جوزيفين رفقة بن عرس، غير انني ألغيت الفكرة السخيفة لعلمي بعداوة ما بين حيوانين متنافرين لم يرضعا معا!
ــــــــــ 4 ــــــــــ
كنت أهم بالإخلاد الى النوم حين تلفنت لي روبيكا موريسن سائلة بحماس آلمني:
ــ أخبرني هسن..ماذا صنعت مع أمي؟
ــ آسف روبيكا العزيزة.
ـــ يعني؟
ــ أعني أن المسألة أعقد بكثير ممّا تصوّرت.
أطالت روبيكا السّكوت قبل أن تسألني بإحباط واضح:
ــ لا أمل إذا في اكثر من ليلة واحدة؟
هممت بإفادة الشابة المسكينة بكل ما حصل، غير انني وعدتها غرورا:
ــ قد نحقّق غدا ما عجزنا اليوم عن تحقيقه.
ثم سائلا:
ــ هل بالإمكان رؤيتك غدا في فنتانا هيسا؟
ـــــــــــ 5 ـــــ
و أنا أتمنى لروبيكا موريسن ليلة سعيدة، طفقت أبحث عن خطبة عزاء مناسبة لن تتضمن ما يأتي:" روبيكتي العزيزة.. أنا جدّ آسف لأنّ والدتك آثرت رفقة مارش وسامبو على الإنس بك. كما انني أشدّ أسفا لأنّ الوالدة قد غدت تنتمي الى سلالة نرويجية، و إن كانت عجيبة ــ فانها ليست نادرة!
أوسلو 27 ديسمبر 2010
التعليقات (0)