مواضيع اليوم

جسر نعبره.. ..جسر نحرقه!

ممدوح الشيخ

2009-11-30 19:35:08

0



بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com

 

العالم يتغير ما في ذلك شك والتغير لا يأخذ وتيرة ثابتة ولا اتجاها واحدا، فهناك اتجاه قوي لمزيد من العولمة والاعتماد المتبادل والتحول في دور الدولة نحو مزيد من تقليص السيادة الطوعي، وهناك في الوقت نفسه تحول باتجاه المزيد من تأكيد الهوية الوطنية والعودة للسياسات الحمائية والدولة التدخلية التي تملك أدوات إنتاج وتسيطر على تداول السلع والخدمات والأفكار. وهذان التوجهان المتعارضان مفترق طريق مهم معروض على كل الدول. فما زال هناك من يرى عودة الدور الاقتصادي الاجتماعي للدولة حلما ومنهم من يراه كابوسا، ومنهم من يزاوج بين الهوية والمنفعة، ومنهم لا يرى السياسة إلا من خلال الإرادة.. .. .. والسياسة هي في عبارة رشيقة: "أن تعرف أي الجسور تعبر وأيها تحرق"!
والأمم حين تمر بمثل هذا الخيار فليس من الصائب أن تغلب ما تألفه ولا ما تحبه على ما تشير تجارب الأمم الأخرى في النهوض، وكثير من دول العالم يقف الآن في مفترق الطريق بين خياري "العولمة" و"السيادة الوطنية" تلجم الحيرة قدرتهم على اختيار الجسر الذي يجب إحراقه والجسر الذي يجب عبوره. وفيما يحفل الإعلام العربي بـ "شهادات" يسارية غربية تمثل النهج الانتقائي الذي يحكم ما نعرفه عن الغرب، تغيب أصوات ينبغي الاستماع إليها لأهمية تجربتها.
ومؤخرا أطلق البروفيسور الإيطالي أنطونيو كاسيسي الفائز بجائزة إراسموس الهولندية المرموقة التي تمنح لمن يقدمون مساهمة كبيرة للثقافة أو العلوم الاجتماعية في أوروبا تحذيرا مهما، إذ قال إن قلقه الأكبر هو نزوع الدول إلى أن تصبح وطنية أكثر وأكثر، وتضع متطلبات السيادة فوق القيم العالمية.
صاحب الشهادة البروفيسور كاسيسي متخصص في القانون الدولي بجامعة فلورنسا وتم تعيينه عام 1993 أول رئيس لمحكمة الأمم المتحدة ليوغسلافيا السابقة في لاهاي. وبعد مغادرته المحكمة عام 1997 ترأس لجنة تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور قبل تعيينه رئيساً لمحكمة لبنان التابعة للأمم المتحدة.
البرفيسور كاسيسي يشعر بالارتياح تجاه الاحترام المتزايد الذي يحظى به القانون الدولي في أجزاء كبيرة من العالم. ورغم ذلك، فإنه يرى أيضاً تنامياً مقلقاً للوطنية؛ وهو لا يذكر أسماء، لكنه يقول إن بعض الدول وضعت قوانين تضع مصالحها الوطنية فوق كل شيء آخر.
والحكم القاطع الذي يعد أهم ما في شهادته هو قوله: "ما يقلقني أن الدول تركز بشكل متزايد على الجانب الوطني من السيادة. وأعتقد أن السيادة هي العائق الحقيقي لتقدم المجتمع الدولية .. .. .. وأخشى من احتمال أن تقود الفردية والتركيز الأكثر من اللازم على المصالح السيادية للدول وحماية المصالح الوطنية إلى تهديد انتشار القيم العالمية في المجتمع الدولي".
والمشكلة ليست في الوطنية التي هي من لوازم السياسة ولا في السيادة التي لا غنى عنها طالما كان هناك كيان سياسي اسمه "الدولة"، بل هي في "هوس الوطنية" الذي يجعل الدولة تتحول من "حصن" إلى "سجن"، ومن كيان تنظيمي لخدمة الإنسان إلى "أيقونة مقدسة" تستبيح كل المحرمات وأولها الإنسان.
ومن ينظرون إلى الدولة بهذه النظرة التقديسية يكون لديهم بالضرورة موقف "مبدئي" معادٍٍ لأفكار من نوع "المجتمع الدولي" و"المعايير العالمية" و"الاعتماد المتبادل".
ووراء هذا الخيار تأتي أجندة متكاملة تعطي الأولوية للموارد التقليدية (الطبيعية) على حساب الابتكار والموارد البشرية والاقتصاد الجديد، وتأسيسا على هذا الاختيار تحتل فكرة "إحلال الواردات" مكانة مركزية في التفكير الاقتصادي، لتحل محل الإنتاج لأجل التصدير والمنافسة في الأسواق العالمية. فسياسات إحلال الواردات التي أضاعت على تجارب التنمية الاقتصادية المخططة من أعلى في العالم العربي عقودا، هي محاولة لجعل التفاعل مع الخارج في حده الأدنى حيث "قليل منه يصلح المعدة"!
ورفض فكرة التنازل الطوعي عن السيادة لأجل مشتركات عالمية تغذيه مصادر كثيرة سياسية وثقافية واقتصادية، منها القناعة بأن هذا التوجه هو مصيدة غربية هدفها تمكين الغرب من السيطرة والهيمنة على مقدراتنا، وهذه الفكرة صياغة مراوغة لفكرة أخرى مضمرة هي أننا "سادة" ومهما كانت أوضاعنا الاقتصادية والسياسية متردية فيجب أن تقوم علاقتنا بالغرب عل الندية التامة، وهذا الوهم يتأسس على فكرة فرنكفونية بينة البطلان هي أن العلاقات الدولية يجب أن تكون ديموقراطية، وهو ما لم يحدث أبدا، فالعلاقات الدولية كانت دائما – في جانب كبير منها – تقوم على الواقعية لا على المبادئ. بل إن فرنسا نفسها التي تستخدم الفكرة بشكل واسع في عالم الجنوب لاستهداف النفوذ الأميركي لم تعمل وفقا لها أبدا!
من ناحية أخرى يتوهم البعض أن الدولة يجب أن تستمر في القيام بدور الأب النسبة – وهو وهم تؤكده أنظمة شمولية عديدة – لشعبها وبالتالي فإن كفالتها لمواطنها سابق على احترامها لحقوقه، فضلا عن أنها هي من يحدد هذه الحقوق لا المعايير الدولية ولا إعلانات حقوق الإنسان، ويخلق هذا الانحياز ميلا للاقتناع بأن الخصوصيات الحضارية يمكن أن تحل ما هو محل إجماع ديني أو أخلاقي أو إنساني أو عقلاني، وعليه فإن الشعب هو "صفحة بيضاء" تكتب فيها الدولة ما تشاء!!
والمسافة بين قدرات الضعفاء وقناعاتهم – غالبا – تملأها الهجائيات والتفسيرات التآمرية والرؤى الثورية، فيصبح عالم الرموز غنيا مكتظا صاخبا فيما الجيوب والخزائن – وأحيانا الأمعاء – خاوية. والمفاضلة ليست نقيضين لا يجتمعان بل بين متكاملين لا يصلح أي منهما للقيام بدور الآخر، والجسر الذي يجب عبوره في هذا المفترق، هو جسر التوفيق بين ما هو وطني وما هو عالمي، لا جسر الانحياز الأحادي نحو أحدهما.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !