جسد اللغة هو ذاكرة القصيدة
للكاتب / إبراهيم أبو عواد
............................
إن الحفريات في جسد اللغة هي الإشارة الواضحة في طريق النص الشعري الذي ينقلب على ذاته لكي يجد ذاته . وهذا الانقلاب الداخلي في اللغة الشعرية نتيجة طبيعية للقصيدة التي تولد من موت الشاعر فيصير موتُه أحدَ أشكال الحياة . وبالانطلاق إلى سياسات الأبنية الشِّعرية نكتشف أسلوباً مُقارَناً يحقق معادلة الأبعاد الرمزية للتجمع الكلامي في المجتمع البشري المتدفق خارج زنازين الوهم . فالقصيدة هي المجتمع الوحيد الذي لا يخضع لسُلطة المكياج الاجتماعي وارتداءِ الأقنعة .
إن الثقافة المعرفية في التكوين الأدبي تتصل بعملية عسكرة الكلام ، مُولِّدة عناصر جديدة ترفض قوالب الصور الفنية المستهلَكة التي يبست من كثرة التكرار. فالبنية الأدبية تركض باتجاه طرح أسئلة وجودية لازمة ، وهذه الأسئلة تتكاثر ليصبح لدينا مجتمع كلماتي واع لمصيره ومساره. فالشك المنهجي في الأساليب الشِّعرية هو عملية تحليلية غير عدمية . ويجب أن تكون أدوات التحليل نابعة من الشكل العام للسُّمو الأخلاقي . أما هيمنة الصور الفنية التقليدية على امتدادات المشروع الأدبي فهي شكل يُنْبِئ عن وجود لغة شِعرية خاضعة للاضطهاد . وهذه عملية شديدة الخطورة لأن اضطهاد الشَّاعر لقصيدته من شأنه أن يقهر القصيدة ويغرقها في استياء متآكل ، وهكذا تفقد الصورة مفرداتها الواعية وصولاً إلى هالة منتفخة تصير ورماً سرطانياً في جسد الكلمة، ومن هنا يسيل موت القصيدة الذي قد يأخذ شكلاً حياتياً مُقَنَّعاً ، لا ينمو إلا في ظل سُلطة معرفية وهمية .
وتبرز نمذجة المشروع الشِّعري القصائدي كحالة نفسية تحليلية مستندة إلى تنويعات سياسية جمعية . وبالمقابل فإن تداول القيم الاجتماعية في مخرجات النظام الأدبي بكفاءة عالية يقودنا إلى اجتماعية التوازن الخلاق بين الثقافة الشعبية والثقافة النخبوية . وفضلاً عن ذلك فإن تحميل الدلالات طاقة عاطفية متراصة يُبنى على أساسات الحفريات الدائمة في جسد اللغة الحرة غير القابلة للتدجين .
وتنبع أهمية التوظيف التنويري لسياسة التحليل النَّصي داخل الجسم الأدبي من حرارة التجربة . فكلما ارتفعت حرارة التعبير ذابت الفروقات بين النثر والشِّعر. فالحلم الشِّعري الذي يتحد فيه الشِّعرُ والنثر في جسد واحد هو نتاج حرارة التعبير الصاعق مثلما يتحد الأكسجين والهيدروجين في الماء. ومن غير المقبول أن تكون الأوزان الشِّعرية هي الحكم الذي يقرر الشِّعري من النثري. فمن غير اللائق أن ندفن الصور الفنية المبتكَرة الخارجة عن الوزن ، فقط لأنها غير موزونة . فالوزن الحقيقي هو وزن الصورة الخلاقة غير التقليدية ، لا سيما وأن القصيدة تصنع علمَ عَروض خصوصياً قائماً على المزاوَجة بين المتخيَّل التجريدي للتعبيرات المبتكَرة ، وبين الدلالة اللغوية التي تعيد اكتشافَ اللغة .
والقصيدة يجب أن تتحلى بصور فنية مدهشة وعنيفة ، وهذه الصور تعطي القصيدةَ وزنها الخاص والموسيقى الذاتية الهائلة وجرعة الثورة المتدفقة . فالصورة هي من تعطي الوزنَ وجوده وشرعيته ، أما الوزن فلا يعطي الصور الناقصة أية وجود أو مشروعية .
ولقد أعطت الحفريات الشاملة في منجم اللغة كاملَ امتدادها على شكل أعاصير أبجدية متشبثة في أطراف المشروع الوجداني الكلامي . وإذا أردنا أن نتجاوز الواقع الخيالي إلى مناطق الإحساس المتدفق ، فيلزمنا طرح أسئلة إضافية على اتجاه البصيرة العاطفية الكامنة في لهب الشِّعر.وللإجابة على التساؤلات الوجودية التي تحفر في عنفوان المدى الجماعي علينا صناعة مجتمع جديد ينتسب إلى جِدال منطقي بَنَّاء .
والشِّعر يفقد معناه إذا خرج من القيمة الإنسانية للإنسان، وصار يحفر في محيطات الزَّبد والعَدمية ؟! . ومن هنا نستنتج أن الحل الأكثر نجاعةً لإعادة الشِّعر إلى حياة العامة وليس النخبة فقط هو تسييس القيم الجمالية في النَّص ، وتحويل الكلمات إلى جيوش جرارة تدافع عن إنسانية الإنسان من منظور كَوْني شامل ، وتوجيه دفة الكلمة ، أية كلمة ، باتجاه مناقشة قضايا الإنسان التي تمس وجوده . وبالتالي نحصل على سبيكة لغوية متينة تلمس جروح الكائنات الحية عموماً ، والإنسان خصوصاً . وإذا لم نفعل ذلك فسوف يظل الشِّعر خاصة والأدب عموماً في واد، والإنسان في واد .
التعليقات (0)