(جـــزع أيـــــوب)
دراسة لديوان (نبوءات مبكرة) للشاعر عبد الهادي فنجان الساعدي
أعداد /كرم الله شغيت
يذهب البعض إلى أن الشعر هو نتاج إنساني لا يتحدد بزمن، بينما يذهب البعض الآخر إلى أن الشعر ينبغي أن يدرس بدلالة الفترة التي كتب فيها، فهو ابن مرحلته يتأثر بها ويفيض عنها، ويستنار به لتحديد ملامحها. وبالرغم من أن النبوءات المبكرة قد صدرت متأخرة فأنها جاءت ولا شك شاهدة عصرها الذي كتبت فيه، ولقولي هذا أسانيد كثيرة يمكن أن نستشفها من المواضيع التي دارت حولها النبوءات ، وكذلك من بعض التواريخ التي حرص الشاعر على أن يذيل بها أكثر من اثنتي عشرة قصيدة من أصل تسع وعشرين ضمها الديوان،والتي تشير إلى أن سنوات الكتابة كانت في فترة السبعينات من القرن الماضي، وقد كانت تلك المرحلة حبلى بالأحداث التي شكلت خلفية اغتنت بها قصائد النبوءات. ولكون تلك النبوءات قد صدرت متأخرة كما قلت فأن تسمية الشاعر لها بالمبكرة جاءت لتدفع عنها تلك التهمة عند قرائها المتأخرين.
إن قراءة أولى للديوان قد تعطيك انطباعا عن الحالة النفسية التي كتبت بها قصائده والتأثر الشديد الذي انعكس على الأساليب التي اتبعها الشاعر في تقديم أفكاره ، غير إن قراءة ثانية لها تؤكد لك وبلا شك أن هذا الأمر قد ترسخ في القصائد حتى شكل ظاهرة جديرة بالدراسة،وأني إذ أركز على هذه الناحية بمعزل عن الظواهر الفنية الأخرى التي حفل بها الديوان ، لا يدفعني في ذلك إلا ثقلُ هذه الظاهرة في النبوءات وتشكيلها لعلامة بارزة من علامات الأداء الفني فيها.
عندما يطالعك الديوان في أول قصائده بكلمة (وانتظرت) يتبادر إلى ذهنك أن الشاعر هو أيوب عصره، لكنك ما إن تدخل في أروقة القصائد حتى تفاجأ بكم هائل من مفردات ألتذمر والانتفاض ، وقرارات اللا عودة ، وتحس في طياتها توقاً دائماً للإشباع ، وعدم القناعة في الوصول إلى مرحلة معينة حتى يبلغ مرحلتها النهائية ، وقد أظهرت القصائد الأولى في الديوان عدم الاكتفاء هذا منذ البداية فهو يقول في قصيدة قهــوة ص/7 ):أشرب حتى بقايا الدلال/فأشرب عينيك ضمن الدلال) .وواضح جداً أنه يريد أن يستنفذ الأشياء التي يتحسسها أو يعصرها عصراً ، حتى يصل النهاية القصوى للإشباع .
وقد وجدت أن القصائد قد أخذت هذا الأمر منهجاً يمكن أن نعتبره سمة فنية من سمات التعبير لدى الشاعر والذي عالجه بعدة طرق ،مستعملاً مفردات ذات دلالات غنية في هذا الموضوع، وهي ما يمكن أن نسميه مفردات النهايات القصوى،والتي يمكن أن نصنفها كما يلي:
1.استخدام مفردات الشمول الدالة على النهايات القصوى في تعميم الأحكام على الأشياء: وقد خص في هذه الطريقة مفردة من مفردات الشمول وهي (كل)، حتى إن قصيدة(خبر)ص13 لا يخلو بيت فيها من تلك المفردة.
ص4/مات مني كل ما حولي.....ص48/كل تلك الأماني انتهت....ص49/كل الكلمات ضيقة كالحزن ....ص51/موصدة كل الأبواب.....ص59/كل الكلمات مريضة....ص66/بكل الدخان الذي في عروقي/ بكل اللهاث الذي...../بكل العذاب الذي......ص71/كل مواكب ذاك الأمس الفاجر زيف/ كل عذابات اليوم الكابوسية غيلة/كل أماني اليوم القادم دفلى......ص79/كل الوجوه الحبيبة اختفت/كل الملامح الطيبة أمّحت......وهكذا في أكثر من خمسين موضع في الديوان كان الشاعر يعمم أحكامه ويشمل بها موصوفاته.
2.استخدام الأرقام الكبيرة للدلالة على النهايات القصوى للقيمة العددية : ومعلوم أن التمثيل بالأرقام يشير إلى التكثير كما في دلالة قوله تعالى(سبعين مرة).وقد أفاد الشاعر من هذا التمثيل في تكثير الوصف الذي يقدمه من خلال ربطه بالأرقام(صفر،ألف،آلاف،مليون،ملايين ) .
ص4/ألف عنوان مضى من ذكرياتي/ألف اسم صار لي لما صحوت....ص15/أريامو غدت صفراً...ص30/حبيباتي المليون ونصف المليون...ص37/صوت الدم يعطي ألف غيلان...ص38/ألاف الحصى صلت بقعر الماء....ص45/صفعتك المليون أثارت في الحزن....الموت.....ص88/ملايين الكلمات المجنونة رابضة في القلب...ص91/كيف يحيا ألف حياة...ص110/اللون المليون _أسود.
3.استخدام مفردات لها دلالة على النهاية القصوى مثل:
أ. الأعماق:كما في ص11/أنا الميت في عمق قرارك...ص85/أصرخ من الأعماق...ص57/لقد علق الغبار في أعمق أعماق الدم.
ب.البعد: كما في ص57/بعيداً سأذهب...ص70/بعيداً..بعيداً إلى الأبدية.
ج.الأبدية: كما في ص76/أيها اللعنة الأبدية...ص87/يتحول حزني الأبدي إلى ثيل...ص89/آهٍ لو أدري كيف أعالج خوفي الأبدي.... ص95/الصوت الأبدي...ص93/العصر الأبدي....ص97/حباً أبديا...ص99/أبدي الحزن...ص72/الحزن الأبدي...ص101/اللعنات الأبدية...ص3/ليل أبدي....ص99تلاواتي الأبدية...ص108/بطل أسطوري/بطل الأبدية.
د.الحد:كما في ص78/حد الغثيان...ص79/حد القيء...ص117/وليل لا حد له...ص118/كأنه ليل لا حد له....ص51/لحد العهر/ لحد الكفر...ص61/77/79/81/121/حد اللعنة....ص96/حد الرغبة...ص82/88/89/121/حد الموت....ص81/حد النخاع.
هـ.التشبيه بالنهاية القصوى للوصف المعين: فعندما يقول( حاد) يستعمل مفردة للتشبيه بأقصى الحدية وهي الشفرة ، وفي الوداعة ( الحمل)، وفي الابتذال(المومس/العاهر)،وفي الحرق( التيزاب ، وللطيبة (النبي) ولجمال الوجه( القديس) وللنقاء (البلور).
ص77/ألم تري مشرداً أبيض/حاد كالشفرة /ووديع كالحمل/ونقي كالبلور/وحارق كالتيزاب ....ص108/تبقى أنت كحد السيف...ص88/89الكلمات المومس..ص103/اللحظات المومس..ص104/العشق المومس...ص/109الليلة حبلى والأخرى مومس...ص111 /كل الأرصفة المومس...ص117/الصحراء المومس...ص122/الرقم المومس...ص/ أيتها الصحراء العاهر...وجوه أجمل من وجوه القديسين/ولكن مجدورة....ص84/نساء أطيب من الأنبياء لكن أرامل.
و.مفردات الامتلاء:وهي تعبر عن وصول محتوى الشيء إلى نهايته القصوى مثل ما جاء في ص65/عروقي التي تمتلئ بالغضب/عروقي التي تمتلئ بالعذاب ...ص66/الدم يملأ كل الشوارع....ص83/أيتها الشوارع المليئة بالدم...ص83ماهذه الدماء التي تملأ الشوارع....ص108/فالأرض تغص بقتلاها.
4.طرق التعبير عن النهايات القصوى في الانفعال وهي قرارات اللا عودة والرفض ومفردات التحريض:وهذا الأسلوب نتلمسه منذ البداية في قوله ص/71( أنا أعلم أن طريقي لا عودة فيه) ومن قوله في قصيدة مذكرة قصيرة جداً (أما أغنية لذيذة أو وجه حنون/و إلا فأرجعني إلى أرصفتي و أحزاني)....ومن أمثلة ذلك ما جاء في ص/26لن أشرب دمعي/رفضت الأمس...ص27/رفضت الماء...لن أغني....ص/30أقسمت ألا ادخل....ص56/سوف أغلق وإلى الأبد باب الرغبة/ولن أنتظر بعد اليوم أيما طارق أو طارئ جديد /ولن أنتظر في الغد خبراً....ص/106لكنني قلت لن أرى.
ومن أمثلة مفردات التحريض على الرفض والانتفاض قوله في ص71/انفجري يا هذي الأكواخ ...ص71/انفجري يا هذي الزنزانات ص96/كوني أكبر حجما/كوني أكبر قسوة...ص82/بودي لو أصرخ من الأعماق....ص85/بودّي لو أجد المكان الملائم لأصرخ من الأعماق.
5.مفردات النهايات القصوى للموت (الإبادة والموت أو القتل بالجملة): ومن أمثلته قوله في ص30/عصر القنبلة الذرية ....ص10/سال الموت كالتيزاب....ص120/يا من فارقت الليل وقتل الجملة ....ص103/120/لكن لا شيء يساوي هذا القتل العسفي/لتدين القتل العسفي....ص103/لكن لا شيء يساوي هذا القتل الهمجي.
وإذا كان قولنا (النهايات القصوى) يعني( النهاية القصوى العليا) و( النهاية القصوى الدنيا ) وهما نقيضان وقد جمعت النبوءات بين دفتيها هذين النقيضين معاً في أكثر من موضع ...ص101/وفرعون بلا موسى يعربد...ص114/ملكاً كنت وضليلا.../ص118/ولتضع حداً لتلك المهزلة المريعة /مهزلة الذئب والحملان.../ص123/يا كل السفن المملوءة بالسواح وبالفقراء.../ص37/يا صيهود /غيلانك لم يكتب/ولم يبك/ولم يمرض/غدا خنياب .../ص76/ أين أضعك في قائمة الأحياء أم الأموات/في قائمة العباقرة أم المجانين/في قائمة الأنبياء أم الدجالين.
ومن أجمل ما جاء في النهايات القصوى هو التحول بين النهايتين مثلما جرى في ص89/تتحول كل ينابيع الماء العذبة نفطاً.../وفي ص86/114/كيف يصير السيد عبدا.../وفي ص87/يتحول كل نبي في هذا الجيل إلى لص.
التعليقات (0)