الإفطار في رمضان قديما
_______
I- حركات واتجاهات:(تابع)
ب- التصوف:
يرى بعض المفكرين أن قول الصوفية بوحدة الصوفية، ووحدة الوجود من الأسباب الداعية،أو الملزمة، لهم بالقول بسقوط التكاليف عنهم أو عن أقطابهم .
فالقول بوحدة الشهود يتضمن :
- الإيمان بأن الأشياء "واحدة في وجودها وحكمها " (1)، أي أن كل الأشياء حسنة من كل وجه، ولو كانت كفرا .
- القول بالبقاء، "والباقي هو أن تصير الأشياء كلها له شيئا واحدا "(2)، وهو معنى قد يؤدي بمعتقده إلى التحلل من التكاليف .
- الاعتقاد بأن الصوفي قد يبلغ حالة يحدث له فيها أن "يداخله السكر وغياب العقل، وحينئذ هو معذور في ترك التكاليف " (3).
والقول بوحدة الوجود يعني " أن الله تعالى هو الوجود، أو أنه قد تجلى في الموجودات " (4)، وهو قول شائع في كلام كثير من الصوفية، فيقول أحدهم مثلا :
وما الخلق في التمثال إلا كثلجــة وأنت بها الماء الذي هو (نابــع)
وما الثلج في (تحقيقنا) غير مائه وغيران في حكم دعته الشرائــع
ولكن بذوب الثلج يُرْفَع حكمــــه ويوضع حكم الماء، والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البهـا وفيه تلاشت، وهْو عنهن ساطــع (5)
ويوضح :
" إن الحق تعالى من حيث ذاته، يقتضي ألا يظهر في شيء إلا ويُعبَد ذلك الشيء، وقد ظهر في ذرات الوجود " (6).
هذا القول بوحدة الوجود يمنع " من التفريق بين الخير والشر، والطاعة والمعصية، والحسن والقبيح، ومن ثم الثواب والعقاب "(7). ومعنى ذلك أن التكاليف تسقط مادام الكل واحدا لاتغاير ولااختلاف بين أجزائه .
وعلى ذلك فالأديان كلها واحدة لااختلاف ولا حدود تميز أو تفصل بينها . وهذا مايسمى لدى الصوفية بوحدة الأديان . يقول ابن عربي موضحا تلك الوحدة :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه دانــي
لقد صار قلبي قابلا كل صـورة فمرعى لغزلان، ودير لرهبــان
وبيت لأوثان، وكعبة طائـــــف وألواح توراة، ومصحف قــرآن
أدين بدين الحب أنى توجهـــتْ ركائبه، فالدين ديني وإيمانـــــي (8)
ويقول ابن الفارض في تائيته :
فبي مجلس الأذكار سمعُ مطالـــــــــع ٍ ولي حانة الخمار عين طليعـــــــةِ
وما عقد الزنار َ حكما سوى يــــــــدي وإن حُلّ بالإقرار بي، فهْي حلّــتِ
وإن نار بالتزيل محراب مسجــــــــــد فما بار بالإنجيل هيكل بيعـــــــــة ِ
وأسفار توراة الكليم لقومـــــــــــــــــه يناجي بها الأحبار في كل ليلــــــة
وإن خر للأحجار في البد عاكـــــــف فلا وجه في الإنكار بالعصبيــــــة
وما زاغت الأبصار من كل ملــــــــة لاراغت الأفكار من كل نحلـــــــة
وما احتار من للشمس عن غرة صبا وإشراقها من نور إسفار غــــــرة
وإن عبَد النارَ المجوسُ، وما انطفـت كما جاء في الأخبار في ألف حجة
فما قصدوا غيري، وإن كان قصدهم سواي، وإن لم يظهروا عقد نيــــة (9)
غير أن الكثير من الصوفية يؤمنون بأن الصوفي يمكنه أن يصل إلى درجة يسمونها بالكشف، ويعنون بها " تحصيل المعرفة بالمغيبات من داخل النفس " (10) . وقد يسمونها بدرجة المشاهدة أو المعاينة أو اليقين... على خلاف يسير بينهم . وفي هذه الدرجة قد تصدر من الصوفي أفعال وأقوال ينكرها الشرع . ومن أمثلة ذلك ماذكره الشعراني في (طبقاته) عن الشيخ إبراهيم العريان، حيث يقول : "...ومنهم الشيخ إبراهيم العريان رضي الله تعالى عنه ورحمه ... وكان رضي الله تعالى عنه يطلع المنبر ويخطب عريانا فيقول : السلطان ودمياط وباب اللوق، بين القصرين، وجامع طولون، الحمد لله رب العالمين، فيحصل للناس بسط عظيم... وكان يخرج الريح بحضرة الأكابر ثم يقول : هذه ضرطة فلان، ويحلف على ذلك، فيخجل ذلك الكبير منه ..." (11).
ولبعض الصوفية ، ممن يقال أن لهم كشفا، نظرة غريبة للصوم . يقول الشعراني مرة أخرى : "... ومنهم سيدي إبراهيم بن عصيفير رضي الله تعالى عنه...آمين... وكان كثير الكشف، وله وقائع مشهورة ... وكان بوله كالحليب أبيض، وكان يغلب عليه الحال فيخاصم ذباب وجهه، وكان يتشوش من قول المؤذن (الله أكبر)، فيرجمه ويقول : عليك ياكلب، نحن كفرنا يامسلمين حتى تكبروا علينا ؟ وما ضبطت عليه قط كشفا أخرم فيه... وكان رضي الله عنه يقول : أنا ماعندي من يصوم حقيقة إلا من لايأكل اللحم الضاني أيام الصوم كالنصارى، وأما المسلمون الذين يأكلون اللحم الضاني والدجاج أيام الصوم فصومهم عندي باطل...وكان يفرش تحته في مخزنه التبن ليلا ونهارا، وقيل ذلك كان يفرش زبل الخيل !! وكان إذا مرت عليه جنازة وأهلها يبكون، يمشي أمامها معهم ويقول : زلابية هريسة، زلابية هريسة !! وأحواله غريبة..." (12).
وقد لايصوم الصوفي الذي يكون في هذه الحالة . ومن نماذج ذلك مما يورده الشعراني في طبقاته مايلي:"...ومنهم سيدي الشريف المجذوب رضي الله تعالى عنه ورحمه ، كان رضي الله عنه ساكنا تجاه المجانين بالمارستان المنصوري ، وكان له كشف ومشاقلات للناس الذين ينكرون عليه ، وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان ، ويقول : أنا معتوق، أعتقني ربي !! وكان كل من أنكر عليه يعطبه في الحال!!(13) ... وكان رضي الله عنه يتظاهر ببلع الحشيش، فوجدوها يوما حلاوة، وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار !!..." (14).
وقد ذكر بعض العلماء أن من الصوفية من ينطلق من قوله تعالى : (واعبد ربك حتى ياتيك اليقين ) (الحجر:99)، فيعتقد أنه وصل مرتبة اليقين أو الكشف كما مر، فيصبح غير مطالَب، في نظره، بالتكاليف الشرعية !! فلا صلاة ولازكاة ولاصيام... وغير ذلك.
يقول ابن كثير رحمه الله : " ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله:( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في
صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب". ويستدل بها على تخطئة من ذهب - من الملاحدة - إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. وإنما المراد باليقين ههنا الموت "(5).
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن اليقين هوالموت :
قال تعالى ذاكرا جواب أهل النار، لما سئلوا : (ما سلككم في سقر ) (المدثر: 41) :
(قالوا لم نك من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين حتى أتانا اليقين ) (المدثر : 42 – 46). ولايمكن أن يكون اليقين هو المرتبة التي ذكرها الصوفية، مع ماكان عليه أصحاب هذا الجواب في الآية من معاصي مذكورة فيها . ولذلك قال القرطبي رحمه الله عند تفسيره للآية : " قوله تعالى : (حتى أتانا اليقين ): أي جاءنا ونزل بنا الموت " (16).
وفي الحديث :
- عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء – امرأة من الأنصار بايعت النبي صلى الله عليه وسلم – أخبرته أنه اقْتُسِم المهاجرون قرعة، فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا، فوجِع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسّل وكفّن في أثوابه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وما يدريك ِ أن الله قد أكرمه؟" فقلت: بأبي أنت يارسول الله، فمن يكرمه الله ؟ فقال: "أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري – وانا رسول الله – ما يُفعَل بي ". قالت : فوالله لاأزكي أحدا بعده أبدا (17).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خير معاش الناس لهم : رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة او فزعة طار عليه، يبتغي القتل أو الموت مظانّه، أو رجل في غُنَيْمَة ٍ في رأس شعَفة ٍ من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير "(18) .
وقد ذهب علماء التفسير والحديث إلى أن اليقين في الآيتين السابقتين هو الموت : فقد قال البخاري رحمه الله : " باب (واعبد ربك حتى ياتيك اليقين ) قال سالم : اليقين الموت " (19). وقال الشارح – أي ابن حجر رحمه الله - :" ... وإطلاق اليقين على الموت مجاز، لأن الموت لايشك فيه " (20).
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله الإجماع على هذا المعني فقال : " العبد لايزال في الطريق حتى يلحق الله تعالى . قال الله تعالى : (واعبد ربك حتى ياتيك اليقين ) (الحجر : 99)، وهو الموت بإجماع أهل العلم كلهم . قال الحسن : لم يجعل الله لعباده أجلا دون الموت "(21).
الهوامش :
1- د . لطف الله بن عبدالعظيم خوجة، الإنسان الكامل في الفكر الصوفي، ص 383.
2- الكلاباذي، التعرف ص 146، والكلام مأخوذ عن "الإنسان الكامل..." السابق، ص 384.
3- الإنسان الكامل... السابق، ص 387.
4- نفسه، ص 389.
5- الإنسان الكامل للجيلي 1/23، مأخوذ عن : الشيخ عبدالرحمن الوكيل رحمه الله، هذه هي الصوفية، ص 144.
6- الجيلي، 2/83، عن الشيخ الوكيل، المرجع السابق، ص 85.
7- الإنسان الكامل... للدكتور خوجة، مرجع سابق، ص 389.
8- عن : هذه هي الصوفية للوكيل، ص 141.
9- عن : هذه هي الصوفية للوكيل، ص 145/146.
10- الإنسان الكامل... للدكتور خوجة، مرجع سابق، ص 329.
11- الطبقات الكبرى للشعراني، 2/142. وفي الكتاب طامات ودواهي يذكرها الشعراني عن الصوفية بعد أن يترضى عنهم ويترحم !! كما نرى أعلاه، وهي طامات يخجل الإنسان من ذكرها . ولذلك وصف الشيخ عبدالرحمن الوكيل رحمه الله الشعراني أنه "كاهن الخطايا الصوفية، يبشر بها، ويكافح في سبيل الدعوة إليها . وعجيب أن ترى الشعراني يعقب على ذكر كل اسم صوفي يتنزى جسده فاحشة بقوله : (رضي الله عنه )!!" (هذه هي الصوفية ، ص 150).
12- نفسه، 2/140.
13- الادعاء بأن كل من أنكر على الصوفي "يعطبه في الحال " هو كلام يتكرر كثيرا لديهم . وأحسب أنه من الأكاذيب التي يحاولون بها، هم أو أتباعهم، إظهار "كراماتهم"، وستأتي نماذج أخرى لمثل هذه الادعاءات السخيفة .
14- طبقات الشعراني، 2/150.
15- - تفسير القرآن العظيم لابن كثير رحمه الله .
16- تفسير القرطبي رحمه الله، 19/63.
17- أخرجه البخاري في الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه، حديث 1243.
18- أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط، حديث 1889.
19- ذكره رحمه الله في التفسير .
20- فتح الباري، 8/489.
21- ابن القيم رحمه الله، مدارج السالكين، 3/250.
التعليقات (0)