صيام صالحي الأمة
______
انطلق الصالحون في هذه الأمة ، من الصحابة والتابعين وباقي المسلمين، في صيامهم رمضان من أمر الله سبحانه وتعالى لهم بذلك، ثم من أحاديث الرسول الكريم عليه السلام القاضية بالصيام. ونشير إلى بعض النصوص الشرعية، خاصة الأحاديث النبوية، التي تحث على ذلك :
1- أخرج مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"قال الله عز وجل : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به . والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلايرفث يومئذ ولايسخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك . وللصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه "(1).
2- وأخرج أيضا عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لايدخل معهم أحد غيرهم، يقال : أين الصائمون؟ فيدخلون منه . فإذا دخل آخرهم، أ ُغلق فلم يدخل منه أحد "(2).
3- وأخرج كذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا " (3).
4- أخرج البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" (4).
والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدا، وأثرها في سلوك المسلم لايدانيه أثر لأي نص آخر من النصوص البشرية.
وقد اجتهد الصحابة والتابعون في تطبيق هذه الأحاديث وغيرها على أحسن الوجوه وأكملها، ومن ذلك :
1- هاجرت امرأة مؤمنة في يوم حار وهي صائمة : روى ابن سعد في الطبقات عن عثمان بن القاسم قال : لما هاجرت أم أيمن، أمست بالمنصرف دون الروحاء، فعطشت وليس معها ماء، وهي صائمة، فجهدها العطش، فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته فشربت منه حتى رويت . فكانت تقول : ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر فما عطشت بعد تلك الشربة، وإن كنت لأصوم في اليوم الحار فما أعطش "(5).
2- مما ذ ُكِر عن الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة، الشاعر الرقيق والأسد الهصور، أنه حضر غزوة مؤتة وهو صائم . وليس ذلك بغريب على مثل هذا الصحابي . فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة " (6).
وفي رواية لمسلم: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، في حر شديد..." (الحديث) (7).
هذا الصحابي كان، كما سبق، صائما لما حضر غزوة مؤتة. ولما استشهد القائد الثاني لجيش المسلمين، الصحابي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، اخذ الراية "وتقدم بها وهو على فرسهن فجعل يستنزل
نفسه ويتردد بعض التردد، ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شُدّ بها صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت.
فأخذها من يده، فانتهس منها نهسة، ثم سمع الحَطْمَة َ في ناحية الناس، فقال : وأنت في الدنيا ؟ ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه وتقدم، فقاتل حتى قُتِل "(8).
لقد كان الموعد موعد إفطار بعد الصيام، وقد غربت الشمس، لكن الرجل لم يتفرغ من قتاله لإفطاره، وإنما تفرغ من إفطاره لجهاده !
3- عن أبي زياد مولى ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "كانت لي خمس عشرة تمرة، فأفطرت على خمس، وتسحرت بخمس، وأبقيت خمسا لفطري "(9).
4- لعل من الصفات الخالدة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا (يوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (الحشر : 9). ولذلك كان من السلف من يؤثر غيره بفطوره وهو صائم، ومنهم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما الذي كان لايفطر إلا مع اليتامى والمساكين ، ومالك بن دينار وأحمد بن حنبل والحسن البصري وعبدالله بن المبارك... قدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود مايكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة "(10).
5- لم يقتصر الاجتهاد في رمضان والحرص على الصيام على أقوياء البنية والأصحاء من الشباب والكهول، بل تعداهم إلى الشيوخ . ويكفي ما ذ ُكِر من أنه قيل للأحنف بن قيس رضي الله عنه : إنك شيخ ، وإن الصيام يضعفك . فقال : "إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه " .
6- ولم يكن السلف، من الصحابة وغيرهم، يعتبرون رمضان ضيفا ثقيلا، بل كانوا ينتظرون قدومه بشوق . عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هؤلاء الكلمات إذا جاء رمضان أن يقول أحدنا : اللهم سلمني من رمضان وسلم رمضان لي وتسلمه مني متقبلا"(11).
ولم يكتف السلف بصيام رمضان، بل صاموا النوافل: الإثنين والخميس من كل أسبوع، وثلاثة أيام من كل شهر، وعاشوراء، ويوم عرفة، وستة أيام من شوال...اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم .
7- وإلى عهد قريب، بل حتى الآن، لازال لرمضان، وللصيام فيه وفي غيره، احترامه وجلاله عند المسلمين، إلا مانلمسه من قلة قليلة – منبوذة أينما وجدت – حادت عن الطريق السوي، وجانبت المحجة البيضاء .
ونقتصر على مثال واحد من الأمثلة الكثيرة، والمثال من فلسطين الحبيبة. فقد عرفت أحداث الجهاد فيها ملحمة سطرها مجاهدون من طينة الشهداء : الشيخ عزالدين القسام، وعبدالقادر الحسيني، وعبدالله الأصبح (12)... وغيرهم رحمهم الله جميعا، وسطرها أحدهم – وقد جاوز السبعين من عمره – صائما في
رمضان يرفض أن يفطر حتى وهو يساق إلى حبل المشنقة , يقول صاحب كتاب "الوعي والثورة" عن الشيخ الشهيد فرحان السعدي رحمه الله :
"... ومع ازدياد خطره وخطر المجاهدين على الإنجليز، ضاعف هؤلاء ملاحقتهم للسعدي حتى استطاعوا الظفر به في 22/11/1937 – 09 رمضان 1356 ، بناء ً على وشاية من عائلة ارشيد التي قتل أحد أبنائها على يد فرحان بعد أن ثبت تجسسه لصالح البوليس الإنجليزي... وروع الخبر الفلسطينيين، خصوصا وأن الشيخ فرحان مجاهد صادق مؤمن، ويكاد يبلغ الثمانين من العمر . وعلى شيخوخته فإنه ماتوانى في جهاد سنة 1929 وسنة 1935 وسنة 1937 " (13).
وقد حاكم الإنجليز هذا البطل أمام محكمة عسكرية بريطانية، "وكانت التهمة الموجهة له : حيازة سلاح. ولم تمكن المحكمة المحامين من المرافعة ولا من إحضار شهود نفي . ولذلك امتنع الشيخ فرحان عن الكلام سوى أن رئيس المحكمة كان قد سأله : "هل أنت مذنب ؟" ، فقال الشيخ فرحان وهو مقيد ومصفد بالحديد :" معاذ الله أن أكون مذنبا ؟" . فأعلن القاضي عن قراره بإعدام الشيخ فرحان . وتم تنفيذ القرار في 27/11/1937 – 13 رمضان 1356، والشيخ الشهيد صائم لحظة إعدامه " (14).
هذه الملحوة خلدها الشاعر عبدالكريم الكرمي (أبوسلمى) في قصيدة من أروع قصائده، ومما قاله فيها :
إيه ٍ ... ملوك العُرْب لا كنتم ملوكا في الوجودِ
هل تشهدون محاكم التفتيش في العصر الجديدِ
قوموا اسمعوا من كل ناحيةٍ يصيح دم الشهيدِ
قوموا انظروا "القسام" يشرق نوره فوق الصرودِ
يوحي إلى الدنيا ومن فيها بأسرار الخلودِ
قوموا انظروا "فرحان" فوق جبينه أثر السجودِ
يمشي إلى حبل الشهادة صائما مشي الأسودِ
سبعون عاما في سبيل الله والحق التليدِ
خجل الشباب من المشيبِ بل السنون من العقودِ(15)
هذه نماذج فقط تذكر بعضا من جوانب نظرة المسلمين وأدائهم للصيام، وعلى الأخص صيام رمضان . لكن بعضا ممن خربت ذممهم وأصيبت عقولهم بلوثة الجاهلية، في القديم والحديث، لم يفهموا من الصيام سوى الجوع والعطش، ولذلك تحركوا ضد ذلك الصيام، وهو موضوع الحلقة القادمة بحوله تعالى .
الهوامش :
1- كتاب الصيام، باب فضل الصيام، حديث 163.
2- نفس الكتاب ونفس الباب، حديث 166.
3- كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلاضرر ولاتفويت حق، حديث 167.
4- أخرجه في الصوم، باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية، حديث 1901.
5- الطبقات، ص 8/224.
وأم أيمن هي بركة بنت ثعلبة بن عمر بن حصن، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته، أعتقها عليه السلام، وتزوجت بعبيد بن الحارث الخزرجي الذي استشهد في غزوة حنين، فتزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه وولدت له أسامة بن زيد، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
6- أخرجه البخاري في الصوم، باب بدون ترجمة، حديث 1945.
7- أخرجه في الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، حديث 108.
8- ابن قيم الجوزية رحمه الله، جامع السيرة، ص 184.
9- حلية الأولياء 1/384 والبداية والنهاية 8/112.
10- أخرجه البخاري رحمه الله في الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، حديث 1902.
11- أخرجه الطبراني في كتاب الدعاء (2/126-127)، باب القول عند دخول رمضان، رقم 912، وقال المحقق في الهامش : في إسناده شيخ الطبراني تفرد بأحاديث لم يتابعه عليها أحد، وما فوقه إلى عبدالعزيز بن عمر كلهم صدوق يخطيء (السند فيه : عن عبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز عن صالح بن كيسان عن عبادة به ). وأخرجه الطبراني أيضا عن مكحول بسند حسن لكنه موقوف عليه (وفيه : اللهم سلمني لرمضان).
12- ذكرت ُ هذا الشهيد كي أشير إلى قصة طريفة حدثت له، ويرويها صاحب كتاب "الوعي والثورة"
كالتالي :
" كان من قادة ثورة 1936 البارزين في منطقة الجليل . فرصدت السلطات البريطانية مكافأة مالية قدرها ألف جنيه لمن يأتي به حيا أو ميتا . وقد نجا بأعجوبة من محاولة قام بها إثنان من الخونة لاغتياله . وما كان منه بعد أن ألقى القبض عليهما إلا أن بصق في وجهيهما وأخلى سبيلهما " (سميح حمودة،"الوعي والثورة" ، ص 105). ولعل هذا البصق على الوجوه هو ما يستحقه كل الخونة الذين يعملون ضد أمتهم، وما أكثرهم في فلسطين هذه الأيام، وبالتحديد في الضفة الغربية !!
13- سميح حمودة، المرجع السابق، ص 104.
14- نفسه، ص 104.
15- من قصيدة :"لهب القصيد "، ديوان أبي سلمى، ص 24.
التعليقات (0)