مواضيع اليوم

جرائم أرتكبتها ... حين كنت حارسا لدين الله

حسنين السراج

2011-05-28 10:34:11

0

 

كثيرا ما يفكر الأنسان في معضلة الوجود وفي ذات الله العليا , غالبا ما يكون مسار تفكيره كروي يتجه بأتجاه واحد يعود الى نفس النقطة التي بدأ منها , بعد معاناة وأستدلالات وبحث معمق في النهاية قد يصل الى نتائج تثبت وجود الله وقد يصل الى نتائج تنفي وجوده وقد يبقى في مرحلة الشك الى نهاية عمره , أخبرني أحد أصدقائي مرة أنه قرأ أكثر من 200 كتاب وفي النهاية وصل الى أن عليه أن يسلم أن هناك اله لأنه لم يصل الى يقين مطلق .


جلسنا أنا وهذا الصديق في لقاء عابر لم نرتب له مسبقا نتحدث حول اللغز الكبير وحقيقة الوجود في حوار قل نظيره بالنسبة لي فكل منا كان يناقش ما يطرحه الاخر بشكل حقيقي دون البحث عن جواب مضاد يفحم به الاخر , كان كلا منا يحاول فهم الاخر , وكان لتدخيننا نفس النوع من السكائر أثر كبير في أيجاد مشتركات , فقد يكون هذا المشترك الشاخص (نوع السكائر) أثر في تحفيزنا على أكتشاف المشتركات بسرعة اكبر , بدأ الحوار بالاديان وأنتهى بالفيزياء والفلك مرورا بالفلسفة , حلاوة الحوار المجرد من أي أنتماء طغت على الغاية من الحوار , فنادرا ما أجد نفسي في لحظات تجرد كامل , من الصعوبة أن يجرد الانسان نفسه من أنتمائه ويصل الى أقصى درجات الموضوعية وهو يناقش موضوع مهم الى أقصى درجات الاهمية كحقيقة الوجود . مع أننا كنا مختلفين في تفسير الكثير من الأمور الا أن النقاش لم يخلو من لذة تبادل المعلومات و أكثر ما أثار أنتباهي هو ثبات ميوله الفكرية وتفسيراته من الطفولة الى اللحظة التي كنا نتحدث فيها . فحتى بعد أن أطلع على الكثير من الأفكار لم تتغير ميوله الفكرية كثيرا . 

في طفولتي كنت كثير التفكير في ذات الله وغالبا ما كانت تدور في رأسي أسئلة كثيرة ليس لها جواب أو ليس لها جواب مقنع بعضها لم أجد له جواب لحد الان . كان أنطباعي عن الله أيجابي جدا يمنحني شعور بالأمان والراحة . مخيلتي وأنا أبن السادسة كانت تذهب الى أن الله بهيئة رجل في الستين من عمره يجلس فوق السماء بوجه مبتسم وينظر الى الناس نظرة حب ومنها يشع كل شيء جميل في الحياة .

أتذكر كان التلفاز يعرض يوميا قبل برامج الأطفال , القران بصوت عبد الباسط عبد الصمد فسألت اهلي عن القران ما هو وعن ماذا يتحدث ؟ فقالوا لي أن القران كلام الله فتصورت أن صوت القاريء عبد الباسط عبد الصمد هو صوت الله . فأنبوني بشدة على تصوري هذا , تصورات ساذجة وبسيطة داعبت خيال من رفع عنه القلم , حين صرحت بما أعتقد وأكتشفت اني لو لم أستغفر وأتوب سيعاقبني الله وسيفعل بي أمور فضيعة أقلها الشوي بالنار ! ليس حبا في أيذائي بل لتأديبي كما قيل لي , شعرت بخيبة أمل وحزن شديد وخرجت من حالة الأطمئنان الشديد الى حالة الذعر والخوف , أصبحت صورة الله في ذهني مشوشة فلم أعد أتخيله مبتسم , وبدأت أرسم في عقلي سجن أفتراضي يحوي انواع العذاب من سلخ للجلد الى حرق بالنار الى تعليق الأجساد من جفون العين الى قطع الألسن الى كوي الأيدي والأرجل بالحديد الساخن , في جهنم الموجودة في عقلي لم أبقي أحد أعرفه الا وتخيلته يتعذب ! الكاذب مصيره النار , فلو كذب أحد زملائي في المدرسة كان لزاما مني كطفل يملك خيال جامح أن اتخيل كيف سيعذب ! كنت أعتقد أن النبي محمد حي يرزق ! وكيف لي أن أعلم أنه ميت ؟ 

وقع في يدي كتاب ديني وبدأت أتصفحه وكان يتحدث عن سيرة النبي محمد وكنت أقرأ العناوين فقط فوصلت في نهاية الكتاب وفصله الأخير الى عنوان (وفاة النبي محمد) وكانت هذه اول مرة أعرف بها ان النبي محمد ميت فبدات أبكي عليه بشدة وحرقة مما أثار أنتباه جدتي فقالت لي ما الذي يبكيك فقلت لها متى توفي النبي محمد ؟ فقالت لي منذ فترة بعيدة جدا ففهمت من حالي الألتباس الذي وقعت فيه وأبتسمت وواستني على المصيبة المتفردة فكنت اخر من يعلم على الأطلاق بخبر وفاة النبي محمد .

سالت خالتي مرة من يسمع كلامي حين أتحدث مع نفسي ؟ فقالت لي الله سبحانه وتعالى يسمعك فقلت لها وهل يسمعني النبي محمد والسيد الرئيس ؟ فأجابتني بالنفي وفي قلبها ألم شديد لأني جمعت صدام حسين مع النبي محمد في نفس المنزلة , في الواقع كنت أعتقد ان صدام حسين منصب من الله رئيسا على العراق وما هو الا أمتداد للانبياء والصالحين وهذا الانطباع لم يأتي عبثا فدور الاعلام والمدرسة كان كفيلا بجعل صدام نبيا أو أكثر من ذلك ! 

كانت صورة صدام حسين في أذهان الاطفال تدور في أطار المقدس ولا تحيد عنه , كنا بحاجة الى بضع سنين لنصل الى مرحلة ندرك فيها حقيقة ما يجري وحقيقة خوف اهلنا من فلتتات لساننا خارج المنزل حين نسمعهم ينتقدون الحكومة , حين يفكر الانسان في سر الوجود وفي ذات الله خصوصا حين يكون في بلد شمولي كثيرا ما يصطدم بصور جانبية تقحم نفسها لتجعل نهاية هذا البحث سريعة ونتيجته معروفة , (لاتفكر كي لا تكفر ).

لغة الخوف هي المتسيدة وهي الأقوى . أعتقد أني لو كنت باقيا على مخيلتي الساذجة في تخيل الله بهيئة رجل مبتسم تلك المخيلة التي تسير في اطار الحب المتبادل الذي يوصل الأنسان الى مرحلة التأمل لتوصلت لنتائج أيجابية , لكن دخولي في اطار الخوف والرعب وسلخ الجلد وقطع الألسن جعل لغة الخوف هي اللغة الوحيدة في تفسير سر الوجود وحقيقة الله .

يقول المفكر السعودي عبد الله القصيمي :
( لقد وجدت كلمة الله في لغة الأنسان كما وجدت لفظة اه ) (1)


من الأمور التي صدمت بها لاحقا هو ان ما أدرسه في المدرسة عن الدين يختلف عن أعتقاد أهلي الديني (من حيث العقائد والفقه والتاريخ) فاهلي كانوا شيعة والشيعة ليس لهم أي أعتبار يذكر في أعداد المناهج وفي هيكل الدولة بشكل عام ألا في بعض الحالات . 
هذه الأزدواجية وضعتني في مأزق نفسي . فما أتعلمه في المدرسة يناقض ما يعتقده المجتمع الذي أنتمي أليه . كانت معاناة كبيرة . لم أعطي أهمية كبيرة للأنتماء المذهبي . وبمرور الزمن تبلورت عندي فكرة هجينة بين ما أدرسة في المدرسة وما ورثته من اهلي . هي فكرة ليس لها أساس ألا في عقلي . أحب الجميع وانتمي للجميع . 

في درس الرسم هذا الدرس الجميل المليء بالخيال والرومانسية كان يطلب منا أن نرسم دبابة وأن نرسم أشلاء ممزقة وناخذ درجة كاملة حين نرسم الجندي العراقي واقف على تل من جثث الجنود الأيرانيين . هكذا وظفوا خيالنا وهكذا علمونا . القتل على الورق كان شيء نمارسه بشكل شبه يومي . مواليد جيل السبعينات من العراقيين يعلمون عن ماذا أتحدث ويعلمون عمق المعاناة النفسية التي ولدتها هذه المرحلة من حياتنا . 

حين أصبح عمري أثنا عشر عاما كان أنتمائي الأسلامي في أقوى حالاته . كنت أصلي في الجامع والنكتة أني كنت أصلي صلاة الشيعة في جامع سلفي . الواقع حين أتذكر تلك الايام أشعر بأني كنت على قدر عالي من الشجاعة . أقمت علاقات مع المصلين في هذا الجامع . كانوا يعاملوني بلطف . وسوء أدب في نفس الوقت . فطريقة تعاملهم معي كانت رقيقة لكن لم يكونوا يعطون أي أهمية لمشاعري حين يتحدثون عن مراجع الشيعة بكلام جارح . بعد فترة من الزمن أكتشفت أن من تعرفت عليهم وجالستهم في حلقات النقاش داخل الجامع . هم عبارة عن مجموعة من الأشخاص المثيرين للاشمئزاز بشكل لا يحتمل . فحين كانوا يجتمعون قبل الصلاة . يهتمون كثيرا في السخرية من المصلين . كانت صدمة كبيرة لي فكان الجميع يعتبرهم قدوة لهم كونهم أول الحاضرين واخر المغادرين . حين سالتهم لماذا تسخرون من المصلين أليس هذا الفعل محرم؟ أستهزء بي أحدهم وضحك معه الجميع . بعد هذا الموقف بفترة تركت الصلاة في الجامع . لكن للامانة هؤلاء هم الوحيدين الذين أحتككت بهم عن قرب . والبقية كان ظاهرهم الطيبة والصدق . 
وبعد فترة تركت الصلاة من الاساس . كنت متلهفا لممارسة الحياة أستغللت كل الفرص المتاحة للشعور بجمال الحياة وتذوق طعمها . ومع أني تركت الصلاة ألا أني في تلك الفترة كنت لا أزال منتميا للفكر الديني بشكل كبير فكنت أصنف نفسي على أني ( فاسق أو منحرف). حين بلغت السادسة عشر عدت الى أحضان الدين وعانقت العبادات مرة أخرى وبشكل أكثر قوة . أنها توبة نصوح هكذا أسميتها في حينها . 

لم تكن العودة الى أحضان الدين بشكل مفاجيء( بين ليلة وضحاها ) أمر أعتيادي . فكانت عودة مصحوبة بقراءة وأختلاط أوسع بأشخاص متدينين من المذهبين . أصبحت كلمة الاسلام بالنسبة لي قضية كبرى بل قضيتي الوحيدة . نشر الدين والدعوة الى الألتزام بالعبادات كان شغلي الشاغل . كان رد فعلي حين يستمع أحدهم الى أغنية في التلفاز أن اقوم الى التلفاز وأغير القناة (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده) فعلت هذا الفعل مرة مع أحد الضيوف في بيتنا فقام من مكانه وغادر منزعجا (مع أني كنت قبل أشهر احضر حفلات في فنادق الدرجة الاولى حتى الصباح ) . لا يمكن تفسير تصرفي مع الضيف الذي أستمع الى أغنية الا أنعدام أخلاق سافر وتصرف يدل على وضاعة خصوصا أن من فعله كان يحضر حفلات الطرب حتى الصباح قبل أشهر! كان لدي أصدقاء لا يصلون بحكم توجهاتي السابقة . كنت اقول لهم أنتم لستم مسلمين انتم كفار . وحين سالوني عن الدليل قلت لهم بكل وقاحة وتبجح ( تارك الصلاة كافر) . بدأ أصدقائي الغير ملتزمين ينفرون مني بل حتى الملتزمين وجدوني لا أستحق التواجد بينهم . وهم محقين تماما في هذا .

يقول الباحث حسن أبراهيم أحمد : 
ليس أسهل عند المؤمن من وصم مخالفه بالرأي بالكفر والزندقة , ولأسباب لا تتطلب حتى ما هو ادنى من ذلك , واحكامهم هذه تتسم بالتأبيد وتبتعد عن المرحلية وتكون معبرا ومبررا لكل الشناعات التي أرتكبت وترتكب بحق الاخر المخالف بالرأي . والمؤمن مضطرا بل من صلب عقيدته أن يتهم مخالفيه أنهم ليسوا على الطريق الصواب ... الجماهير المؤمنة كثيرا ما تصادق على الأحكام الصادرة على المخالفين لمفاهيم أيمانهم ولقواعد هذا الأيمان , كما يصور ذلك المشرفون على حماية الجماعة من الفساد , أما السكوت وعدم الاحتجاج فيفسر موافقة على الأحكام ... (2)

أصبحت علاقتي بالأصدقاء الجدد ( المتدينين) تزداد قوة ومتانة . والحقيقة أنهم كانوا يرسخون في ذهني اني على حق في تصرفاتي المنحطة مع أصدقائي . والدليل (أكثرهم للحق كارهون) . أصبح الانفعال جزء من شخصيتي . مشاهدة سيدة غير محجبة يثير أشمئزازي . والأستماع الى أغنية يجعلني مضطربا . كنت أنظر بفخر منقطع النظير الى (أحتلال المسلمين لأسبانيا) والذي كنت اسميه (فتح الاندلس) . حدث مرة أنفجار في أسرائيل وكان بين القتلى طفل رضيع . فقلت ( ليذهب الى الجحيم لو قدر له أن يكبر سيكون مجرما) . حين بزغ نجم حركة طالبان . تعاطفت معها دون أن أعلم عنها أي شيء . فقال لي أحد الاشخاص بعد أن سمعني أتحدث عن حركة طالبان بمحبة ( هل تعلم ان طالبان قتلوا الاف الشيعة بسبب أنتمائهم المذهبي ؟) فقلت له : ( يحدث ان يختلف أخوين في عائلة واحدة ما المشكلة هذه مشكلة داخلية في الجسم الاسلامي الواحد). بعد فترة من الزمن حدثت أحداث الحادي عشر من سبتمبر . فكنت من المتعاطفين بل من المتشفين بموت الأبرياء . كنت اقول في نفسي التفسير المنطقي التالي :(بوش مجرم . وبوش أنتخبه الشعب . أذن الشعب مجرم ) وحين أصف هذا التفسير بالمنطقي لا يعني أنه تفسير جيد فأستخدام المنطق في غير محله هو أحد أسباب أستفحال الظلم والقسوة واللاعقلانية في هذا العالم . 

يقول الدكتور مصطفى حجازي :
أن طغيان الانفعالات يضع الأنسان (المتخلف) أمام الحاجة الملحة للتخلص من ضغطها وما تخلقه من توتر داخلي صعب الأحتمال . ومن المعروف نفسيا أن أكثر الوسائل فعالية وبدائية للتخلص من هذا التوتر هو الأسقاط (projection) الذي سمح بتصريف الأنفعالات من خلال صبها على الخارج , على العالم وظواهره وعلى الأشخاص والعلاقات معهم سواء بسواء ... وهكذا ينجرف في دوامة الأنفعال النشط (العدوان والأقدام) أو الفاتر (المعاناة واجترار الالام الوجودية ... نتج عن هذه الحالة عدة ظواهر في العالم النامي , أبرزها سرعة تدهور الحوار العقلاني والتفكير المنطقي , والتعصب والتحيز وسرعة أطلاق الأحكام القطعية والأحكام المسبقة ... أحكام الأنسان المتخلف على الظواهر والأشخاص يشوبها الكثير من التحيز والقطعية . أنها أحكام متسرعة ونهائية تصنف الظواهر والناس في فئات جامدة , سالبة كلها أو ايجابية كلها , أو هي متأثرة الى حد كبير بالأفكار المسبقة والاراء الشائعة التي يطغي عليها التعصب . لذلك أن طغيان الانفعالات . بألغائها لوظيفة النقد العقلي تفتح الباب واسعا أمام بروز الميول الاختزالية , التي تحول الاخر من حالته كشخص الى مجرد اسطورة تلعب دور السند المادي للأسقاطات الذاتية على الخارج . يتحول الاخر الى مجرد رمز للسوء , او للشر أو التعطيل أو الخطر أو الضعف أو العنف , أو الحب والعون , ألخ .. ومنذ تلك اللحظة يتحدد التعامل معه والموقف منه أنطلاقا من دلالة الرمز الذي أعطي له , الذي يستخدم أصلا , كتبرير مادي للانفعال الذي أرتبط به , سلبا أو أيجابا .(3)

كنت أتعامل مع الاخر على أنه رمز للشر ورمز لعداوة الله . أما المسلم الملتزم خصوصا فهو رمز للخير ولمحبة الله . كنت أتعامل مع المخالفين لي في مجتمعي بتكبر واحتقار فانا الأعلى لأني من أحباء الله وهم الادنى لأنهم من اعداء الله , لم أكن ابالي بمشاعرهم ورغباتهم لأنهم بأختصار مجرد رموز للشر يجب دفعهم للايمان بشتى الوسائل . لم أكن أهتم لردود فعلهم فكل شيء كنت أفعله تقربا لله . فقد فعلت ما أراده الله وهذا بحد ذاته فضيلة تجعلني من أحباء الله وأصفيائه . أما عن الاخر غير المسلم فهو بأختصار (عدو الله) . من الامور المثيرة للاهتمام اني كنت أعتقد ان غير المسلمين لديهم يقين بصحة الدين الأسلامي ألا أنهم يريدون محاربته بشتى الوسائل لأنهم أختاروا طريق الشر ولا يريدون أنتشار الخير . 

حين كنت أشاهد مناظر الموت في التلفاز لمدنيين تناثرت أجسادهم أثر تفجير أنتحاري . كنت أشعر بفخر وراحة . لان عيني كانت تراهم أعداء الله والسبب الرئيسي لكل معاناتي ومعاناة مجتمعي . فلم تكن العاطفة تحضر ألا ما ندر والحالات النادرة التي أتعاطف فيها مع الضحايا كنت اقول فورا : (هذا ما جنيتوه على أنفسكم) . 

يمكنني أن أصف نفسي في تلك المرحلة (بالوضاعة والتخلف والسقوط والأنحطاط والبشاعة والسادية والبدائية وكل وصف سيء في قاموس اللغة العربية ) الواقع أني لم أكن أكثر من شيء مشوه دخل في جسد أنسان عن طريق الصدفة . كنت مجرما بأمتياز . نعم الان أحكم على نفسي حين كنت بتلك العقلية المنحطة بأني كنت مجرم مع أني لم أؤذي بشر بيدي ألا أن مجرد تعاطفي مع مجرمين قتلة ومجرد تفكيري بأني أمتلك الحقيقة وغيري يمتلك السراب يعتبر جريمة من الطراز الرفيع . 

لم أكن أميل للعنف في حياتي اليومية فمنذ الصغر وأنا أحاول تجنب العنف جهد الامكان . وحتى حين كنت أضطر للدفاع عن نفسي في مشاجرات المدرسة كنت أبكي كثيرا على من يتألم بسببي . ولا زالت بعض لحظات العنف الطفولي ضد اخرين تبكيني عليهم لحد الان سواء كان عنف أستخدمت فيه اليد أو الكلام . ولا أذكر هذا من باب أضافة فضيلة لنفسي , فأنا لا أعتبره فضيلة بل أعتبره صفة ملازمة لشخصيتي لا يمكنني التخلص منها . ألا انها كانت السبب الرئيسي لتحولي لاحقا . 

كنا نتناقش في بعض المسائل الفقهية قفال لي أحدهم : (يجوز النظر لزوجات الكفار نظرة شهوة ) فشعرت حينها برغبة شديدة بالبكاء . لوصولي لحقيقة ان الألتزام الاخلاقي الذي يدعيه بعض هؤلاء لا يعدو كونه نزوة منحرفة مختنقة في عبائة الأيمان . في ذلك الوقت كنت في منتصف الدراسة الجامعية . بدأت أعيد النظر في كل شيء . لم يعد منظر أرتطام الطائرة بالبرج يثير في نفسي نشوة الأنتصار . بدأت أتألم لأجل الضحايا وأشعر بحرقة كبيرة بسبب تعاطفي مع مرتكبي هذه الجريمة . الشعور بالذنب أخذ من وقتي الكثير ولا زال . الأنفتاح والقراءة كان لها دور كبير في أيصالي الى قناعة أن الاسلام دين من الاديان وفكرة من الافكار والحقيقة يدعي الجميع أمتلاكها وليست حكرا على المسلمين . كان الزمن كفيل في أزالة معظم رواسب السقوط الفكري الذي كنت أمتلكه أو كان يمتلكني .
طويت صفحة مريرة من صفحات حياتي أفضل ما فيها أني لم أفكر في أيذاء أحد . وأسوء ما فيها أني قمت بأيذاء بعض الأشخاص نفسيا وكنت أبرر أيذاء الاخرين بحجة حماية الدين . أقولها بصدق لايمكن أن اصف تلك المرحلة من حياتي ألا بالوضاعة والدونية والخسة .

قد يكون لقرب نهر دجلة من مدينتي أثر في نفسي وذكرياتي معه كثيرة فكثيرا ما كنا نجلس و نتسامر قرب النهر ونتحدث في كثير من المواضيع وكنا جميعا في عمر متقارب , أتذكر مرة كان الحديث عن فتوى دينية غريبة لا يتقبلها العقل , فقال أحدهم بشكل مفاجيء ( ماذا لو كان كل شيء كذب في كذب ) أنفجر الجميع بضحك متواصل وكأنه أعطى أمر بتجاوز المقدس فبدأ الجميع يتحدث عن ماذا سيفعل لو ثبت له أن الأديان من صنع الأنسان , في الواقع كل هذا الحديث كان يدور بأطار المزاح لكنه كان فرصة مناسبة ونادرة للتعرف على أفكار الاخرين في موضوع قل الحديث عنه بهذه الصراحة , كل منا حين كان يكمل حديثه الذي يبين فيه ماذا سيعمل لو ثبت له عدم صحة الأديان كان يختمه بعبارة ( أستغفر الله العظيم ) فقد كانت الأباحية والتحرر الجنسي هي أغلب ما دار عنه الحديث , وما أن وصلنا الى بيوتنا حتى عدنا ركعا سجدا قلوبنا عامرة بالأيمان !

من حق الأنسان أن يشكك بما يعد من المسلمات , لكن المشكلة هي حين يقمع الأنسان نفسه ويلجمها , لا أعتقد أن اللحظة التي يضع فيها الأنسان دينه في موضع الشك والتساؤل هي لحظة ألحاد , حتى الملحدين لا يقبلون أن يحسب عليهم أنسان لا يملك الا بعض الشكوك والتساؤلات , فالألحاد في معناه الشامل أكثر عمقا من سؤال تشكيكي , حين يفكر الأنسان مليا وبعمق بهذا الوجود ويصل الى مرحلة يتجاوز فيها الشعور بأنه يتجه نحو الشر وحين يضع الدين وما يناظر الدين في موضع التأمل و الفهم والنقد , سيكون التفكير مثمر فقد يؤدي الى أيمان بالله أكثر قوة من السابق وقد يؤدي الى عكس ذلك .

من الجيد أن تشخص أمام المؤمن وهو يفكر في لغز الحياة صورة الأله الرحيم الذي يسمح للأنسان أن يفكر في الحقائق , أما صورة الأله المرعب الذي يغضب ويشعل فتيل جهنم فور ورود سؤال له علاقة بحقيقة وجوده من شانها أن تعطل العقل تماما , من غير الأنصاف أن يقمع الانسان نفسه أو غيره بأسم ربه , 
يشعرك البعض أحيانا أن علاقة الانسان بالله كعلاقة الأنسان بالأنسان , يحذرك من الله ويوحي اليك أن الله حاد المزاج صعب الطباع يثور فقط لأن أحد ما فكر بحقيقة وجوده , ومع معرفة الأنسان بقدرة الله المطلقة يصبح من الصعب جدا أعطاء العقل رغبته الدفينة في التامل .

يقول الدكتور علي الوردي : (رجال الدين عندنا يتصورون الله كالملك جالسا على العرش وحوله الملائكة وهو يأمر بينهم وينهي . أنهم أخذوا هذه الصورة من حياتهم السياسية . فهم ينظرون الى الله كما ينظرون الى حاكمهم السياسي , أذ يحاولوا أن يتملقوا ويتزلفوا أليه أو يمدحوه ويبرطلوه .)(4)

ويقول الدكتور مصطفى محمود : أن الله أقرب الى الذين يجتهدون في فهمه من الذين يؤمنون به أيمانا أعمى)(3)

قبل فترة كنت في نقاش مع احد الأصدقاء حول الألحاد فسألني هذا الصديق :( هل أنت ملحد ؟) أجبته : اريد أن أعرف أولا ما الذي دعاك لتسال هذا السؤال ؟ فقال ألمس في كلامك ميول لترير ألحاد الملحدين . فقلت له :
قد أكون ملحد كما تتصور وقد اكون مؤمن وقد أكون لاديني ربوبي وقد أكون (لا أدري) كل شيء جائز . لكن السؤال هو ما هو الفرق عندك في تقييمي فقد أكون ملحد وأدعي الأيمان كيف ستعلم الحقيقة ؟ لماذا على الأنسان أن يصنف نفسه ؟ لا أجد من الضروري أن أصنف نفسي كمؤمن أو ملحد . فلم أعد أفكر بالأنتصار لأفكاري . لو كنت مؤمن فأيماني شيء مكتوم بيني وبين ربي . ولو كنت ملحد فلا اعتقد أن الله سينفعل ويغضب لأن أحدهم لم يشعر بوجوده ولم يعقله . 


وجهة النظر الدينية تقول ان الدين وجد لتنظيم علاقة الانسان مع الانسان وتنظيم علاقة الأنسان مع الله أذن الأنسان فوق الدين والدين لأجل الأنسان . لم يدعي النبي محمد أنه جاء بالأخلاق كلها بل قال أنه جاء ليتممها . أذن الأخلاق موجودة قبل الأسلام . من الأجحاف ان يحتكر المؤمنين الاخلاق لأنفسهم . أتألم جدا حين اجد ملحدا يخرج عن الحوار الموضوعي ويخرج عن الاخلاق ويجرح المؤمن بمقدساته . وأتألم حين أشاهد مؤمن يتمنى ان يشاهد الملحد يحترق في النار . حين يقول المؤمن للملحد أدعو من الله أن يهديك الى السراط المستقيم يجب أن يفهم الملحد جيدا أن هذا الكلام نابع من محبة لان المؤمن يعتقد بوجود الله ويعتقد أنه قادر على كل شيء وحين يدعو له بالهداية فهو يقدم له المزيد من الحب . وعلى المؤمن أن يتفهم ان الملحد لا يشعر بوجود الله والموضوع لا يخص المؤمن بل يخص الله والملحد فقط . على المؤمن أن يعلم أن الملحد ليس لديه القدرة على الدخول الى قلبه وسلب الأله منه . ألا أذا كان هو غير متمسك بوجود الأله في قلبه . وعلى الملحد أن يعلم أن المؤمن ليس له قدرة على أدخال الأله في قلبه ألا أذا أراد هو أن يؤمن به بكل أطمئنان . 

حراس العقيدة . حماة الدين . جند الله . كل هذه التسميات تعبر عن دين يحميه الأنسان . والمفترض أن يقوم الدين بحماية الأنسان وليس العكس ! من خلال خلق حالة توازن نفسي بين الانسان والله والأنسان والانسان الاخر . في اللحظة التي يحتاجني الدين لأحميه أصبحت أنا الدين وأصبح الدين بحاجة لي . أن الأنسان الذي يحمي الدين أصبح هو الدين . في الوقت الذي يشعر فيه الأنسان أن فكرة وجود الله معرضة للخطر وقد تزيحها فكرة أخرى فعليه أن يتاكد أن هكذا أله ليس له وجود . نعم الأله الذي يحتاج مني أن أحميه ليس أله . 



أن الدفاع عن فكرة بالقوة أمر ساذج وخطر مهما كانت هذه الفكرة . لا يوجد شيء يستحق أن يعرض الأنسان نفسه من أجله للخطر ألا حماية العائلة وحماية انسان اخر معرض للخطر . الشيء الوحيد الذي يجعل للحياة معنى هو ذلك الشعور الرائع الذي يولده مساعدة الأنسان لأنسان اخر بحاجة أليه . الحياة ممتلئة ألم وما يجعل لها معنى هو تقليل الألم . 

أثبات وجود الله للملحد أمر صعب جدا بقدر صعوبة أثبات عدم وجود الله للمؤمن , وقد تجد مؤمنين يلحدون وملحدين يؤمنون وهذا أمر طبيعي جدا وغير مستغرب , وتجد أيضا مؤمنين يزدادون أيمانا وملحدين يزدادون الحادا وهذا أيضا أمر طبيعي , من يشعر بوجود الله يجد أدلة وجوده منطقية ومقبولة عقلا ومن لا يعتقد بوجود الله يجد أدلة عدم وجوده منطقية ومقبولة عقلا , أن العقيدة التي يعتقد بها الأنسان هي حقيقة ساكنة في قلبه قبل عقله , قال أحد رجال الدين مرة (أن عالم الذرة الهندوسي وصل الى أرقى درجات العلم لكن لا زال ضحل العقل يقدس البقرة) لو سئلنا عالم الذرة الهندوسي عن الكيفية التي يعقل بها تقديس البقرة لوجدنا لديه أكثر من جواب والف مبرر منطقي بل سيتعجب كيف أننا لا نجد في البقر قدسية!
وفي نفس الوقت قد نجد رجل دين هندوسي يقول (هناك عالم ذرة مسلم وصل الى أرقى درجات العلم ولا زال يقدس حجر ويدور حوله في وقت معين من السنة
ويسمون هذه الطقوس بالحج) وحين تسأل عالم الذرة المسلم عن الكيفية التي يعقل بها تقديس حجر والدوران حوله سيبين لك وبشكل منطقي العلة من الحج والمغزى الأساسي منه والرمزية فيه . المسلم يملك حقيقة مطلقة يدافع عنها والهندوسي يملك حقيقة مطلقة يدافع عنها وكل عقيدة هي حقيقة مطلقة في قلوب وعقول معتنقيها.
قبل فترة سألت أحد الأصدقاء عن الديانة البهائية فنصحني بقراءة معلومات عن هذه الديانة في أحد المواقع الأسلامية فقلت له أريد معلومات عن البهائية وليس عن رأي المسلمين بالبهائية فقال لي أن المسلمين يبينون لك حقيقة البهائية , فقلت له هل من الأنصاف أن أقرأ عن الاسلام في موقع مسيحي ؟ أو موقع يهودي ؟ بالتأكيد أكثر من يعبر عن حقيقة ما أعتقد به هو أنا وليس غيري , من الظلم أن تقرأ عن الملحدين وحقيقة الألحاد من ادبيات المتدينين فقط , ليكون الأنسان موضوعي يجب أن يطلع على ما يقوله الملحد ليفهمه ولا أجد من الضرورة أن يعلق الأنسان في ذهنه دائما فكرة الأطلاع على أفكار الاخرين أو عقائدهم لنقدها أو أعتناقها , حين يكون الهدف الأساسي فهم الاخر سيكون الأنسان أكثر موضوعية وتجرد وستكون لديه قابلية أكثر على أستخدام الموهبة التي تميزه عن سائر المخلوقات وهي أن يضع نفسه محل الاخر ليفهمه ويستوعب أفكاره وسولكياته. 

حين يقول لي أحدهم أن الكثير من الاحاديث التي يرددها المشايخ هي أسرائيليات أو مدسوسة فهو يجافي الحقيقة التي تقول أن هؤلاء المشايخ يعتقدون بصحة هذه الأحاديث ويتخذونها عقيدة ومنهج حتى لو كان ما يقوله الشيخ مدسوس وليس له أساس فقد أصبح له أساس وتحول الى حقيقة حين اريد له أن يكون حقيقة . أن التحري عن مدى صحة ما وصلنا من الدين هو أمر جيد لكن المشكلة هي أن الفاصل الزمني حول الكثير من الامور الدخيلة الى أصيلة بل حولها الى عقائد لا نقاش فيها , وأصبحت حقيقة دينية ساكنة في قلوب مصدقيها.

كنت اتحدث مرة مع أحد المتدينين المتشددين ودار الحديث حول قبول الاخر فقلت له (أن لي صديق ملحد) ما أن سمع كلمة ملحد حتى تحول الى كتلة من الغضب وبدأ يلومني بشدة كوني أتحدث مع شخص لا يؤمن بوجود الله ولم أجد أن النقاش ممكن أن يعود بالفائدة فسايرته في كل ما يقول , في الواقع أن رد فعل هذا الشخص طبيعي كونه يعتقد أن الملحد هو أنسان يعلم أن الله موجود ومتيقن من ذلك لكن لا يريد أن يعبده , الملحد حسب رأيه هو مرادف للهارب من الخدمة العسكرية أو الذي يعلن العصيان المدني لكن الواقع غير ذلك فالملحد هو أنسان لا يشعر بوجود الله وأكدت له الأدلة العقلية عدم وجوده . والغريب أن هناك بعض الملحدين يستفزون مشاعر المؤمنين بشدة توحي أنهم يعتقدون بوجود الله لكن يكنون له العداء حتى أن بعضهم يكتب كتابات مثيرة للأشمئزاز وبعيدة كل البعد عن الحوار الفكري والعقائدي , أتذكر مرة أرسل لي أحد الملحدين رسالة فيها أستهزاء بذات الله مع العلم أن هذا الشخص كان أسلاميا متشددا يدعو الى الجهاد ! يبدو أن التشدد وألغاء الاخر صفة ثابتة عند البعض مهما تغيرت أفكارهم تبقى سلوكياتهم ثابتة .

يقول الدكتور علي الوردي: (من الغريب أن نرى رجلا يضطهد غيره من اجل دينه أو رأيه ثم ينقلب فجأة فيصبح بجانب الذي كان يضطهده حيث يأخذ أذ ذاك بأضطهاد من كان على رأيه السابق . لقد تغير رأيه وبقي فيه شيء واحد لم يتغير , هو أطاره الفكري .(6) 
أما عن الأطار الفكري فيقول الدكتور علي الوردي : (أن الاطار الفكري الذي ينظر من خلاله الأنسان الى الكون مؤلف جزؤه الأكبر من المصطلحات والمألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع اليه ويعززها في أعماق عقله الباطن . والأنسان أذن متأثر بها من حيث لا يشعر . فهو حين ينظر الى ما حوله لا يدرك أن نظرته مقيدة ومحدودة . وكل يقينه أنه حر في تفكيره . وهنا يكمن الخطر , فهو لا يكاد يرى أحدا يخالفه في رأيه حتى يثور غاضبا ويتحفز للأعتداء عليه . وهو عندما يعتدي على المخالف له بالرأي لا يعد ذلك شينا ولا ظلما أذ هو يعتقد أنه مجاهد في سبيل الحقيقة ويكافح ضد الباطل .(7)
أن ما يقوله الدكتور علي الوردي بخصوص الأطار الفكري يفسر انحياز الأنسان لنفسه وعقيدته وأفكاره و يفسر وجود شواذ يبحثون عن الحقيقة ضمن أرادة حرة خالية من التعصب لا ميل فيها لجهة ولا تعصب سواء كان هذا التعصب واضح ومكشوف أو تعصب ذكي يحيطه الكثير من أجواء الموضوعية والتجرد لكنه في حقيقته لا يفرق شيء عن ذاك التعصب المفضوح بل هو أكثر سوءا .

المصادر : 
ينظر : حقيقة الله – حسنين السراج – موقع الحوار المتمدن 
1- أيها العقل من راك - عبد الله القصيمي - صفحة 29
2- العقل الأيماني – حسن أبراهيم أحمد – (صفحة 75 - 141)
3- التخلف الأجتماعي - مصطفى حجازي - ( صفحة 72 – 73 )
4- خوارق اللاشعور - علي الوردي - صفحة 187
5- الله والأنسان - مصطفى محمود - صفحة 131 
6- خوارق اللاشعور - علي الوردي - (صفحة 47-48)
7- خوارق اللاشعور - علي الوردي - صفحة 47 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !