عبـد الفتـاح الفاتحـي
تشهد الساعة السياسية والإعلامية المغربية سجالات عميقة حول حماية المال العام، وقد نشبت هذه السجالات غداة صدور تقرير المجلس الأعلى للحسابات في المغرب (جهة حكومية رقابية)، والذي كشف عن اختلالات مالية وإدارية وتنظيمية في عدد من المؤسسات العمومية والوزارات والجماعات المحلية والمراكز الإستشفائية والجامعات وبعض المكاتب التابعة للدولة. إذ بعد إنجازه 130 مراقبة للتدقيق في استعمال الأموال الحكومية لسنة 2008، أصدر المجلس تقريره لعام 2008، مما أذكى فتيل التجاذبات السياسية والحقوقية في المغرب إلى حد بات يهدد استمرار الحكومة بفعل التدخلات العنيفة لأقوى فريق في مجلس النواب والمستشارين المغربي حزب الأصالة والمعاصرة.
وعليه يكون هذا التقرير قد شكل حدثا لا زال يشغل الرأي العام المغربي إلى الوقت الراهن، بل وتحول إلى جوهر الهجومات التي تخوضها المعارضة على حكومة عباس الفاسي داخل غرفتي مجلس النواب والمستشارين، وتطور هذا السجال بعد دخول المنظمات الحقوقية على الخط من خلال عقد ندوات في قراءة نتائج تقرير المجلس الأعلى للحسابات ومصير خلاصاته.
ويعتقد عدد من المحللين أن التقرير للمجلس الأعلى سيطرح تساؤلات كبرى حول رغبة المغرب في انتقال ديمقراطي حقيقي والتأسيس بصدق لدولة الحق والقانون وعدم الإفلات من العقاب. وذلك من خلال قدرة مؤسساته الرسمية تحريك مسطرة المتابعة القانونية للمؤسسات التي أكد تقرير المجلس الأعلى للحسابات تورطها في هدر المال العام، على اعتبار أن ذلك اختبار حقيقي لجرأة المغرب المؤسساتية.
وقد أكد نواب حزب الأصالة والمعاصرة أن الوزير الأول عباس الفاسي يجب أن يطاله حظ لا بأس به من المساءلة، على اعتبار أنه رئيس للمجلس الإداري للكثير من المؤسسات العمومية التي سجلت بها اختلالات، ولكونه وزير أول رئيس مباشر لمختلف الوزراء الأوصياء على القتطاعات التي سجلت بها ذات الخروقات.
وعلى الرغم من التجاذبات العنيفة التي أبداها نواب حزب الأصالة والمعاصرة حيال حكومة عباس الفاسي، إلا أن هذه المشاحنات لم ير فيها المتتبعون غاية تصل إلى حدود التعبئة لملتمس الرقابة أو سحب الثقة من الحكومة الحالية، وذلك حفاظا على مناخ الاستقرار الاقتصادي والسياسي بالبلاد، وأن الغاية منه تشويه سمعة حكومة عباس الفاسي فقط، تأهبا للانتخابات التشريعية 2012.
ويتعزز هذا التحليل بتخلي حزب الأصالة والمعاصرة عن الترشح لرئاسة مجلس النواب بعد مشاورات مع الحكومة، وهو ما يعني أن الحزب لا يمكنه المطالبة بسحب الثقة من حكومة عباس الفاسي على اعتبار أنه القوة السياسية الأولى في غرفة البرلمان ومجلس المستشارين. ولعل ذلك ما عبر عنه عباس الفاسي في الاجتماع التنسيقي للأغلبية بأن حكومته قوية بثقة جلالة الملك في إشارة إلى أن حزب رمز الجرار ليس بمقدوره أن يسحب الثقة من الحكومة.
واستغربت الهيآت المهتمة بحماية المال العام عدم الإسراع بعرض توصيات التقرير على القضاء، بعدما أجمعت على تثمين خلاصاته، لكنها بالمقابل استغربت وضع هذه الخلاصات الهامة قيد الرفوف بدل إحالتها على القضاء لفتح تحقيق قضائي حول كل قضية قضية، ولوضع حد للإفلات من العقاب والتأسيس لصفحة جديدة من تطبيق مبدأ المحاسبة والمساءلة.
وتساءلت المعارضة المغربية عن جدوى التقرير إن لم يتحرك القضاء والبرلمان لتفعيل آليات مساءلة المؤسسات المتورطة في قضايا الفساد المالي؟ وما الجدوى منه إن لم يكن سببا في تشكيل لجان تقصي الحقائق لكشف المزيد من الاختلالات التي "تغرق" فيها مؤسسات الدولة؟
كما حمل نواب المعارضة الحكومة المسؤولية السياسية في القيام بواجبها من أجل حماية المال العام والقيام بمتابعة مالية مجالس الأقاليم والجهات، لأنه لا يمكنها أن تظل استثناء وخارج القاعدة، إلى جانب ضرورة الكشف عن التدبير المالي للأحزاب السياسية التي تتلقى أموالا من الدولة.، فإنها كذلك أخذت على وزير العدل عدم تحريك مسطرة المتابعة القضائية بناء على ما ورد في التقرير، فوفق ما يتيحه له القانون، فإن وزير العدل قد أجاب بوجود عراقيل لمتابعة بعض الملفات التي تهم الاختلالات المالية.
وذهب خبراء مغاربة إلى اعتبار أن خلاصات تقرير المجلس الأعلى للحسابات تعد "إدانة سياسية" للحكومة وأدائها في تدبير الشأن العام.
واعتبر عدد من المتتبعين أن الفساد المالي مستشري بشكل عميق، وبرروا ذلك إلى كون المجلس الأعلى للحسابات رغم تمتعه وبصلاحيات الرقابة القضائية، وتطبيق عقوبات على كل إخلال بقواعد تنفيذ العمليات المالية، إضافة إلى دوره فيما يتعلق بتحريك المتابعات الجنائية، حيث تحال الملفات المتعلقة بالأفعال التي قد تستوجب عقوبة جنائية إلى وزير العدل، لإحالتها على المحاكم المختصة، فإنه أحجم عن هذه الإجراءات وهو ما ألهب السجال الدائر اليوم بين الأغلبية والمعارضة.
وقد سبق المجلس أن حرك مسطرة المتابعة القضائية خلال سنة 2008 همت 59 قضية، يتابع فيها 260 شخصا، 36 في المائة منهم تابعون للبلديات وجماعات محلية، و47 في المائة لمؤسسات وشركات تابعة للقطاع العام، و17 في المائة لمرافق الدولة.
واتخذت قرارات في 44 ملفا من بين 260 ملفا، وعوقب 22 من المتابعين بغرامات مالية، بلغ مجموعها 534 ألف درهم (64 ألف دولار)، فيما تمت تبرئة 20 متابعا.
وقالت الحكومة المغربية على لسان وزير الاتصال عقب اشتداد حمى احتجاج المعارضة أن غاية الحكومة تتمثل في الشفافية المطلقة وسياسة تحسين أداء المرافق العمومية، وأن وزارته قامت بإحالة جميع الملفات التي تلقتها من الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات على النيابة العامة. وأوضح أن عدد الملفات التي وجهت إليه بلغت 17 ملفا، انتهى البعض منها بصدور أحكام جنائية في حق المتورطين ومصادرة الأموال المترتبة عن هذه الجرائم لدى المتابعين من أجلها، في حين انتهى بعضها الآخر إما بالحفظ أو البراءة.
ويرى عدد من المتتبعين أن تقرير مجلس الأعلى للحسابات قد يكون هو الذي عطل التسريع بإصلاح ورش القضاء الذي دعا إليه العاهل المغربي محمد السادس، واعتبروا أن التقرير قد كشف عن فساد مالي كبير، يرتبط بأخطبوط نافذ داخل دواليب الحكومة، ولأن فتح المجال على القضاء قد يترتب عنه الإطاحة بشخصيات وازنة، وهو ما جعل تقرير سنة 2008 يتأخر إلى اليوم وقد انقضت سنة 2009، كما أن عدة مصادر عليمة أكدت أن التقرير تمت صياغته بتأن شديد.
وأعقب هذا السجال صدور قرارٍ بتطبيق قانون التّصريح بالمُمتلكات على أعضاء البرلمان والمستشارين بالمجالس المحلية، ويرى المحللون أن الوزير الأول عباس الفاسي كان مضطرا لتوجيه منشوره (رقم 3/2010) إلى وزيري الدولة والوزراء وكتاب الدولة والمندوبين السامين والمندوب العام، يذكر فيه بالمقتضيات القانونية المتعلقة بالتصريح الإجباري بالممتلكات وتوضيح بعض الجوانب المتعلقة بكيفية التصريح وشروطه والآجال التي يتعين أن يتم فيها، كخطوة لوقف سيل المشككين في قوة الحكومة على تفعيل المساطر القانونية لحماية المال العام ومحاكمة المتورطين في الفساد المالي والإداري.
ولخصت المخالفات التي سجلها التقرير في الملفات التي بت فيها في 8 أصناف، تضمنت عدم احترام قواعد المنافسة والمساواة في المشاركة في العطاءات الحكومية، واللجوء إلى إبرام صفقات وإصدار سندات طلب صورية، وإعداد وثائق غير سليمة لإنجاز خدمات للدولة، وعدم احترام القواعد المنظمة لتنفيذ الصفقات الحكومية، وتحميل الأجهزة الحكومية نفقات لا تندرج ضمن ميزانياتها ولا تستند إلى أساس قانوني، بما في ذلك أداء مصاريف إيجار عقارات واستهلاك الهاتف والوقود ونفقات السفر والإقامة لفائدتهم، أو لفائدة أشخاص آخرين لا تربطهم أي صلة بالمؤسسات الحكومية.
وكشف التقرير عن اختلالات تتعلق بوزارة الاتصال لصرفها إعانات للشركة الوطنية "صورياد- دوزيم" في غياب عقد برنامج يحدد بوضوح الأهداف المتوخاة من صرف الإعانات للشركة والتزاماتها مقابل هذه الإعانات. وانتقد التقرير أن الوزارة الوصية بدل أن تعمل على تطبيق ما ورد في الفصل 51 من القانون 03,77 المتعلق بالاتصال السمعي البصري مولت شركة "صورياد دوزيم" على أساس دفتر التحملات. وتوقف على غياب مقاربة مندمجة للإنتاج والاستغلال السينمائي، إذ إنه في الوقت الذي عرف إنتاج الأفلام ارتفاعا ملحوظا، بسبب المساعدات المالية المقدمة من قبل المركز السينمائي المغربي؛ التي ارتفعت من 14 مليون درهم سنة 2000 إلى 30 مليون درهم سنة 2004 و50 مليون درهم سنة .2006 على الرغم من ذلك، فقد لاحظ التقرير تراجعا ملحوظا في عدد قاعات العرض السينمائية التي تعتبر البنية التحتية الأساسية لترويج، والرفع من مستوى المنتوج السينمائي المغربي، إذ تقلص جمهور القاعات من 11 مليونا سنة 2002 إلى 5,2 ملايين سنة ,2006 كما تراجع عدد القاعات من 159 قاعة إلى 97 خلال نفس الفترة.
كما كشف التقرير أن تدبير الموارد البشرية منها والمالية لوزارة الاتصال في وضع حرج، إذ يؤكد أن الوزارة لم تسوّ وضعية 75 موظفا من موظفي الوزارة العاملين بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة.
وأعاب عدد من المراقبين على تقرير المجلس الأعلى للحسابات اقتصاره على إثبات المخالفات، فيما كان عليه أن مسطرة المتابعة القضائية في حق الأخطاء والمخالفات القانونية.. في إطار التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية.
واعتبر المراقبون أن ذلك ترتب عنه تراجع حصيلة اختصاصات المحاكم المالية لسنة 2008 مقارنة بحجم المخالفات التي وقفت عليها سنة 2007، كما سجلوا أن جل المخالفات التي تم الكشف عنها منذ شروع المجالس الجهوية للحسابات في مزاولة أنشطتها؛ لم تتم إحالتها على القضاء.
وبالرغم من إجماع كل الهيئات على أن تقرير المجلس الأعلى للحسابات، يعد خطوة جريئة نحو مراقبة صرف المال العمومي والسياسة المالية في المغرب، حيث لامس عددا من القضايا الكبرى، إلا أنه يسجل عليه أن نتائجه لم تجد طريقة إلى المتابعة القضائية، كما أنه أحجم عن التدقيق في حسابات وممتلكات الأحزاب والشخصيات العمومية، والأموال المهربة للخارج...
محلل صحفي
Elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)