مواضيع اليوم

جدل الهوية في مهد التنوير

ممدوح الشيخ

2009-12-19 10:41:20

0



بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com

 

مرة أخرى تعود فرنسا إلى الأسئلة الأولى، بعد أكثر من قرنين من تدشين مشروعها التنويري الذي أصبح بعد قليل مرجعية لمعظم تجارب الاجتماع السياسي الغربية الحديثة، والأسئلة هذه المرة ليست بشأن العلاقة بين الكنسية والدولة، كما كانت في مرحلة التنوير، بل بشأن العلاقة مع الآخر. وفيما كانت فرنسا تصدر – عبر قرنين – نموذجها بالتبشير تارة وبالإغواء تارة وبالاحتلال العسكري المباشر تارات أخرى. ولعل من المفارقات التاريخية الكبيرة أن يكون انفجار السجال حول الهوية متزامنا مع قرار بإنشاء مؤسسة فرنسية لتمجيد الاستعمار أثارت ردود فعل في مستعمراتها السابقة وبخاصة الجزائر.
وفرنسا في لحظة تمثل تحولا نوعيا من تقديم الإجابات للعالم إلى طرح الأسئلة على الذات، والسؤال الذي يشغلها الآن: ما معنى "الهوية الوطنية"؟ وهو مطروح في بلد تأسس على إلغاء الانتماء الديني والعرقي والأيديولوجي؟! وزير الهجرة والهوية الوطنية إريك بيسون أعلن فتح حوار واسع حول السؤال ما أثار غضب المعارضة اليسارية. وحسب بيان رسمي فإن "الحوار الكبير سيعمل على الإجابة عن تساؤلين: الأول: ماذا يعني أن تكون فرنسيا اليوم؟ والثاني: ماذا قدمت الهجرة بالنسبة لكم؟" فضلا عن إعادة فهم مصطلحات كالوطن والعلمانية والتضامن الوطني.
وقد كانت الهوية حتى وقت قريب مفهوما تصنعه الجغرافيا ويلونه التاريخ وتضع عناوينه أيديولوجيا التنوير، أما الآن فإن البوراج الفرنسية توقفت عن الدوران حول العالم لبناء الإمبراطورية ونشر النموذج والتأثير في "الآخر"، بينما ما يحدث الآن أن مسار التدفق أصبح معكوسا، فـ "الآخر" جاء إلى فرنسا لتجد نفسها أمام لغات وثقافات وأجناس أخرى. ومع العولمة جاءت وسائط عصر المعلومات بالعالم إلى فرنسا لتجد نفسها أمام هويات حقيقية وأخرى افتراضية تغرس جذورها في مهد التنوير.
وبينما سياسيو العالم الثالث يجعلون السيادة قمة البناء الهرمي للرموز والقيم التي تدافع عنها الدولة فإن فرنسا مهد التنوير تجعل الهوية قمة هذا الهرم، وهو ما يعبر عنه الرئيس الفرنسي ساركوزي بقوله: "أنا انتخبت للدفاع عن الهوية الوطنية". والحوار حول الهوية الفرنسية سيستمر 3 أشهر تنتهي بنهاية يناير 2010، انطلق مدفوعا بقلق حقيقي أمسك بخناق المجتمع الفرنسي الذي جعله المهاجرون أمام تحدٍ عميق. وباختتام النقاش ستطرح نتائجه أمام مؤتمر ضخم يعقد في فبراير 2010.
ومن بين المقترحات المطروحة للنقاش "عقد للاندماج الجمهوري" يوقع عليه جميع الأجانب الذين يدخلون فرنسا وهناك من يعتبره "قانون إيمان علماني" لا يختلف عن قوانين الإيمان التي كانت تصدره الكنيسة الكاثوليكية إلا في المحتوى، ومن يقترحونه يعتبرون أنه "عقد مع الأمة" يتضمن "مقابلة استيعاب" يتم فيها تقييم قدرة المواطن الجديد على التحدث بالفرنسية ومدى تثمينه "لقيم الجمهورية"!!.
وحسب استطلاع للرأي فإن 60 % من الفرنسيين يؤيدون الحوار ويعارضه30 % ورغم ما تشهده فرنسا من انتشار واسع للعداء للمهاجرين فإن 31 % من الفرنسيين رأوا أن استقبال المهاجرين مهم جدا. وكشف استطلاع آخر أجري لحساب صحيفة "لو باريسان" أن 80% من الفرنسيين يرون اللغة مكونا أساسيا للهوية الفرنسية يليها الإيمان بمبادئ الجمهورية (64%) والعلم الوطني (61%) والعلمانية (61%). ومن عالم الأرقام إلى عالم الرموز يتوسع القلق الفرنسي حيث يبدى تيار مثل الجبهة الوطنية قلقا من أن المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم لا يعكس هوية البلاد!.
وهذا الحوار دليل أزمة كبرى تمر بها فرنسا فبوتقة الصهر عجزت عن هضم المهاجرين، وثقافاتهم باتت تهدد "النموذج الفرنسي"، والتوازن الديموغرافي يلعب دورا كبيرا في تعميقها، فنمط الحياة الغربي وصل بالفرنسيين إلى العجز عن تحقيق الثبات السكاني بسبب التزايد الملحوظ في وتيرة الإحجام عن الزواج وكذلك إقبال المتزوجين على الإنجاب، مقابل معدل زيادة كبير بين المهاجرين. كما أن قاعدة الهرم الإنتاجي أصبحت شبه خالية من الفرنسيين وهي ثغرة دخل منها المهاجرون.
وحديثا اكتشف علماء الاجتماع قانونا يحكم علاقة المهاجرين فهويتهم في المهجر، فالجيل الأول يتمزق بين هويتين والثاني يندمج والثالث يستعيد هويته الأصلية، والمفارقة الآن أن الجيل الثالث من المهاجرين نجح بكفاءة غير مسبوقة في استخدام آليات مجتمع المهجر في الترقي الاجتماعي والتعليمي والوظيفي، وهم بالتالي راغبون بقوة في الحصول على تمثيل في المجال العام يساوي نسبتهم من السكان.
ومنذ أصدرت فرنسا قانون منع الرموز الدينية الشهير بقانون الحجاب (2004) وهي تواجه مشكلة عميقة في التكيف مع التغير، وهي في ظل هذا التحول الذي يحمل ملامح شخصية وطنية جديدة، تقود فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي تيارا يرفع شعار "أوربة أوروبا"، وهو شعار يقصد به الحفاظ على الدور المركزي للتراث اليوناني/ الروماني كمقوم رئيس للهوية الأوروبية في مواجهة عودة واضحة للدين ترعاها الفاتيكان وضغط باتجاه التخلي الطوعي عن الخصوصيات الحضاري لحساب مشترك إنساني عام يطمح إلى "عولمة" كل الثقافات، وأيضا في مواجهة توسع جغرافي للاتحاد الأوروبي نحو ثقافات أخرى، وما موقف فرنسا الرافض بإصرار لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي إلا صدى لهذا التدافع داخل فرنسا وخارجها بين الوحدة والتعدد، وبعد أن افتتحت فرنسا بثورتها حقبة جديدة من تاريخ البشرية انطلقت في من "الداخل" (انطلاقا من الأنا) لتنشر رؤية كونية جديدة في "الخارج" (وصولا إلى الآخر) إذا بها تعيد طرح الأسئلة الأولى بعد أن أصبح الآخر (الخارج) مشاركا رئيسا في صياغة صورة الأنا (الهوية) في الداخل.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !