جدلية المرحلة .. الثورة ووعي الشباب
محمد الامين عبد النبي
.... حتي أواخر عام 2010م لم يكن بوسع أكثر المتفائلين بقدرات الشباب العربي أن يتنبأ بالتطورات الكبيرة التي شهدتها المنطقة العربية علي الرغم من الارهاصات المتزايدة للظلم والاستبداد والقهر في كثير من البلدان وهو ما مثل إمتهانا للكرامة في المقام الاول وسط شعوب لا تعيش إلا على كرامتها ولأجلها ..
هبت الشعوب العربية هبة شاملة فكانت شرارة الانطلاق من تونس الفتية الابية في 17 ديسمبر 2010 عندما أشعل محمد ابوعزيزي النار في نفسه فأشتعلت جزوة النخوة العربية في سائر الاقطار، وفي مصر نشاءت حركة تضامنية " كلنا خالد سعيد " الذي إستشهد جراء التعذيب دعت للإعتصام والتظاهر في ميدان التحرير في 25 يناير 2011م ، وإندلت الثورة في ليبيا في 17 فبراير للمطالبة بمعاقبة مقترفي مزبحة سجن أبوسليم ، ثم شملت ربوع اليمن الذي كان يعاني من الحروب الاهلية بين النظام والحوثيين والقاعدة كما لمست إحتقان المقموعين المحتجين ضد التهميش والفساد ولكنها إنتظمت بصورة شاملة في يناير 2011م ، وفي سوريا إنطلقت التظاهرات في 15 مارس والتي قوبلت بعنف مفرط من نظام الأسد وإستخدام للقوة ضد الشعب لا مثيل له إلا في روسيا والصين مما أضطر الشعب لتكوين الجيش الحر والدخول في حرب طويلة وممتدة ومكلفة وباهظة الثمن ضده ،
لم تكن بقية البلدان العربية معزولة عن هذه الموجة ولكنها عبرت عنها بصور مختلفة تفاوتت ما بين المواجهة العسكرية ضد الانظمة الي المطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية وإقتصادية وإجتماعية، لكن بات من المؤكد إن الوضع قبل نهاية 2010م قد ولي الي غير رجعة وأنه مهما كانت التحديات والصعوبات التي تعيق هذا المد الثوري والوعي الجمعي إلا انها لن تستطيع الحيلولة دون إستمراره وشموله لكل المنطقة . علي الرغم من ذلك فإن كثير من القوي الحية في البلدان العربية ما تنظر مجرد نظرة عابرة لما آلت اليه حال البلدان التي نجحت ثورتها ، إلا وتقع عينها علي شبح الجماعات المتطرفة وسدنة الأنظمة السابقة والعنف المفرط ضد المدنيين والتدخل السافر للأجندة الاجنبية التي تطل براسها فترجع البصر كرتين ، هذا مع سعيها لتحقيق أهداف الثورة وفق أليات أخري أكثر نعومة ، خاصة وان الطغاة يرهبون الشعب بالفوضي وغياب الامن ويستعطفون حلفائهم الاجانب بأن البديل هو الإرهاب والتطرف ( القاعدة وحلفائها).
تفسير ما حدث ويحدث في العالم العربي هو تطور الوعي الصاعد وبلورته جمعيا وسط الامة مع الارادة الحرة التي تنادي بضرورة التحرك العاجل لنصرة القوي الشعبية المستضعفة مفرزة اجسام واشكال جديدة هي نتاج هذا التطور والوعي بالمكنون الحضاري الهادي لهذا الحراك والتفاعل لمراحل ثورة الوعي بالذات التي أدركت باكراً أن الطغاة هم الاكثر ضرراً وخطراً علي الامة من الغزاة وأن التحالف الضمني بينهما أبرز وبوضوح رد فعل متطرفة علمانية وإسلامية هذا الثلاثي المميت للدولة " الغلاة ، الطغاة ، الغزاة " عمل علي إطفاء شمعة ثورة الوعي ومجابهتها في مهدها وهي جذوة أكثر من مرة ، ولكن تراكم الوعي بحركة التاريخ وتقاصر المسافات بفعل ثورة الإتصالات وتدفق المعلومات التي كشفت الأسباب التي تحدق وتعيق التقدم نحو التغيير والبناء الذي تتوق إليه شعوبنا منذ سنوات عدة هي العوامل الذهبية للإنطلاقة الفعلية للتعبير الحركي لهذا الوعي . ولكي تبقى للشعوب العربية يقظة وفطنة لتحقيق أهداف ثوراتها التي قامت من أجلها، وفي طليعتها كنس الطغمة المستغلة المستبدة ، واسترداد الشعوب لحريتها التي هي والي الابد هدفا ساميا لها . ولكي لا تنحط هذه الثورات وتنحرف عن مسارها وينشغل قادتها بأي خلافات مفتعلة او انصرافية من شأنها أن تفتت التماسك ، وتبدد الجهود، وتشتت وحدتها، وتؤسس لفتنة تجرفها عن هذا المسار، ولكي تقف الشعوب وقفة قوية أمام تلك المخاطر التي ربما تعمل علي تراجع الثورة ، ولإنارة الطريق لبقية الشعوب لنيل حريتها وإمساكها بزمام المبادرة في التغيير ، وتحرير قرار بلادها من الهيمنة الاستبدادية وسيطرة أي مؤثرات تتطفل وتترمم عليها لأبد من إستيعاب أهمية المرحلة وعظم هذه الخطوة المهمة في طريق الانعتاق والنهضة ووضع الاستراتيجيات الكفيلة لبناء أمة الشهادة علي الناس ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً(.
الواقع الجديد الذي أفرزته ثورات الربيع العربي أبان الكثير من الحقائق التي تستدعي التمحيص والدراسة بما يؤكد سيادة الوسطية والإعتدال كفكر قائد للثورة وهادئ لمستقبل الامة :
1. شاءت إرادة الله أن تندلع هذه الثورات وقادتها هم ذات شريحة الشباب الذين وصموا بالعجز والفشل والكسل والهجرة وهروب بعضهم الي مستنقع التطرف والغلو والبعض الاخر أصبح منزوياً ومدمناً للمخدرات والخمور ومحبطاً وعاطلاً وقليل الحيلة ، بين يوم وليلة شريحة بهذه الصفات أصبحت شرارة الثورة وخلاص الأمة وذلك عندما توفرت لديها الدوافع والتنوير والارادة والروح الوثابة فلسان حالهم :
يا صادحا ملأ الحياة بجوده
زدنا هدى حطم لنا الأسوارا
تشدو الحياة فينقشع الظلام
وتزدهي وتعانق الأحلام والأوطارا
2. لقد غاب النهج الوسطي والمعتدل في تاريخنا الحديث ووصل بعض الغلاة والمتشددون للسلطة في المنطقة وإستحكم البعض الأخر في المعارضة فغيبوا الحرية وزبحوا الديمقراطية وشوهوا الاسلام ووصموا بالعنف والرجعية وإستخدموا الشباب وقوداً لمعاركهم ضد بلدانهم والاسلام . هذه الوضعية في طريقها للتغيير الكامل نتيجة حركة الوعي الشبابي في عالمنا المعاصر بقضاياهم وقضايا الاسلام والمسلمين وذلك بفضل حركة التنوير المعرفي عبر الإعلام الحديث والبديل في مواقع التواصل الاجتماعي والتدوين والمنتديات ، وردة الفعل للإستبداد والتقيد للحريات من قبل الانظمة المستبدة وتراكم التجارب والدروس المستفادة منها . هذا الوعي الحقيقي المستمد من حركة التاريخ يصب لمصلحة التنوير والفكر الوسطي والديمقراطي . بعد أن فشلت التجارب المسماة زوراً إسلامية والتي نادت بالشريعة وحققت عكس مقاصدها ، وتجاوز دعاة العلمانية في طرحهم وممارساتهم لطبيعة بلدانهم المتدنية ففشلت في تحقيق الإستقرار والعيش الكريم .
3. ان نتائج ثورات الربيع العربي تؤكد سيادة تيار الوسطية والاعتدال والديمقراطية في المدي القريب أو المتوسط وذلك بقراءة بسيطة لما كان عليه الوضع وما هو عليه اليوم . خلال الفترة السابقة كان العالم العربي يعيش في كبسولة الزمن الماضي وفق بروز الجماعات اللاسلاموية والتكفيرية في الحكم والمعارضة وقد رفعوا شعار الشريعة والجهاد وفق نهج احادي إقصائي وطبقوا النقيض . كذلك عاش العالم العربي زيف تصدير التجربة الديمقراطية السائدة في الغرب دون مراعاة لطبيعة مجتمعات بلداننا ، قادت الولايات المتحدة حربين في العراق وافغانستان لترسيخ الديمقراطية والنتيجة مزيداً من الفوضي وعدم الاستقرار ، ودعمت بشكل أساسي الإنظمة الشمولية في المنطقة وعطلت الربيع العربي في بعض البلدان كالبحرين مثلا. هذه الازدواجية في التعامل مع الاخر هي التي ادت لفشل كل سياسات الولايات المتحدة في المنطقة .
4. إن ثورات الربيع العربي كشفت الحقائق المزعومة والتي لا تعدو صوراً نمطية واوهام عوملت معاملة المسلمات ، قد إنتهي عهد الاسلاموفوبيا سوط الغرب المسلط علي المسلمين وإنتهي عهد إستخدام الطغاة للدين كمخدر ( أفيون ) للشعوب وإستغلال الحماس والتطلع للشعار الاسلامي ، هذه المعادلة المكشوفة للتحكم في الشعوب وتداعياتها وتمظهراتها زادت من حركة الوعي . لقد تخلق إحساس بالإنتماء للذات وعودة الوعي والروح للشعوب فأنتجت واقع جديد بعيد عن إدعاءات الاسلامويين والعلمانيين علي السواء وقريب من إجتهادات المعتدلين ، واقع قائم علي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ويقوم علي قوله تعالي ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وأقع يخاطب الاقليات والمراة والطفل والحريات والعيش الكريم والعدالة والحرية والمساواة والتوفيق بين الاصل والعصر والتعامل مع الاخر .
5. إن نهضة الأمة تقوم بالاساس علي شبابها وأن الشباب لا يتحرك الإ في ظل الحرية التي تمكنهم من المشاركة والابداع والتعبير والاختيار فهي قيمة إسلامية أصيلة وفريضة غائبة في ظل الانظمة القمعية ، والديمقراطية التي تقوم علي مبادئ الحكم الرشيد والحقوق والواجبات والتي تنسجم مع تعاليم الإسلام الذي يجعل الإجماع المصدر الثالث للتشريع بعد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويدعو للشورى الملزمة في الشأن العام، ويؤسس شرعية الحكم على البيعة التعاقدية بين الحاكم والمحكومين، ويعرّض الحاكم للمحاسبة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويساوي بين الناس أمام القانون ، ويأمر بإنصاف وإحسان معاملة المستضعفين من الناس مثل الموالي (سابقا) والخدم والمرأة والأقليات ويعطي الفقهاء اعتباراً للرأي الغالب بين الناس فيقولون: هذا ما يراه جمهور الفقهاء، وهذا حديث متفق عليه وغيرها .
6. إختفت عقب هذه الثورات ظاهرة الرجوع للإسلام لبعض التيارات الاسلاموية والسلفية لإلباس المجتمع قميصاً ماضوي حتي يتسني له التحكم في الناس . وظهرت بوضوح روح التقدم نحو الإسلام وإبراز مبادئه ومقاصده والدعوة لمشروع نهضوي إسلامي يقوم علي قطيعة معرفية وعملية بين الإسلام والجمود الفكري والتعصب ونفي الآخر والارهاب والعنف والإستبداد والقهر، ويؤسس لعلاقة معرفية وعملية بين الإسلام وقبول الإخر وإحترام الاقليات والتسامح والتعايش والتعاون والمساواة في الكرامة الإنسانية والحريات العامة والحكم الراشد . هذه هي المحددات العامة التي إنتجها الوعي الصاعد ورسختها إرادة التغيير التي رسمت حاضر ومستقبل عالمنا العربي فأي حزب او جماعة تصعد للحكم في إي دولة لا تستطيع تجاوزها والفكاك منها ، فقد خطت خطوات لا رجعة عنها للوراء . لا خوف إذن من صعود التيارات الإخوانية والمتشددة سواءً كانت حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب وحزب الحرية والعدالة المصري وحزب العدالة والبناء الليبي لأنها أحزاب قامت علي مراجعات فكرية وتنظيمية عميقة وفق حركة تصحيح شاملة ، كما أنها لا تستطيع الحركة عكس التيار المعتدل الجارف القائم علي القيم والمبادئ المذكورة انفاً ، هذا بالإضافة الي أنها ولجت للحكم عبر الية الانتخابات اي بالديمقراطية ورضاء الشعب ووفق الدستور الذي أقره الشعب والبرنامج الانتخابي الذي يخاطب قضايا الشعب الحياتية ، كما أن شبح التجارب السابقة والحالية للإسلاميين تطاردهم خاصة تجربة نظام الإنقاذ في السودان الماثلة حتي الان فالتحدي كبير في رسم صورة مغايرة تراعي منجزات الثورة وتصحح الصورة المشوهة للإسلام لدي الداخل والخارج والإلتزام بالديمقراطية فكراً وممارسةً وبسط الحريات وحقوق الانسان .
7. حقيقة أخري لست أقل أهمية تتعلق بظهور الوحدة الوجدانية والمصيرية بين الدول العربية من حيث المظالم والتطلعات المتشابهة (الدافعية والاهداف) في رفض الظلم والقهر والفساد والتطلع نحو الحرية والكرامة والإستقرار والعدل ، والبناء التراكمي للثقة في مقدرات هذه الأمة في مجابهة كل اليات القمع والقهر هذه الوحدة القائمة علي أنقاض مسيرة التشرزم والتحارب الذي نخر عظم الامة والتصارع لإرضاء الغرب بنيت في ظل ظروف الثورة ذات الدلالات المتينة قال الشاعر مؤكداً هذه المعاني :
لا مال قارون يثنينا اليوم بوفرته ولاعصي السحر تجدي هامانا
إن الطموحات دين لا نخالفه فكيف نعبد شيكات وأطنانا
لا بنك علان تغرينا خزائنه ولن نداهن زعطانا وفلتانا
لنا إباء تعالى أن يدنسه كسب رخيص فقري يا ضحايانا
دماك والله ما زالت تعلمنا أن السيادة تأبى الخلد أحيانا”
خلاصة المسألة فإننا وبصورة حتمية وإستنادا على كافة جدليات التاريخ وتطوراته وتطورات الشعوب فإننا على يقين من رسوخ هذه الموضوعة المرتبطة بالثورة ووعي الشباب ونحن نقف فيما مضى فهناك قلق يعترينا مفاده المضي بنتاج هذا الحراك لمرحلة من مراحل التطرف ما لم يطغى إعتدال الوسطيين ووسط المعتدلين على الساحة بفكرهم وتجاربهم إذ أن التطورات الاخيرة في القاهرة ما بين بعض التيارات تجعل لقلقنا مبرراته ولخوفنا مسوقاته إذ أن الناتج حتما وبصورة تراكمية قد يقود لتطرف من نوع ما وآخر مضاد له وهو ما شهدناه في ليبيا وفي تونس وفي اليمن وغيرها من شعوب الثورة الامر الذي يجعلنا ننادي وبإلحاح لسيادة الفكر الوسطي وسط الشباب بالتحديد لما لهم من إسهام بارز في صناعة الثورة.
التعليقات (0)