اعتقد أننا لن نذهب بعيداً لو أردنا الحصول على خبراء في التعامل مع الأزمات و الكوارث , هناك مدينة يقول عنها أهلها أنّها " كانت " في زمن ما " عروسا ً للبحر المطلّة عليه ، أقول هناك مدينة في غرب بلادي اكتسبت حصانة ضدّ الفزع من الأمطار أو السيول أو الكوراث و اختفاء الشوارع بقدرة قادر ثم عودتها بشكل موجع تشفق على السيارات من المرور عليها و بالأمس اكتشفنا خبرة جديدة لدى هذه المدينة المحبوبـة و هي قدرتها و احتضانها لـ حرائق مفاجئة أيّا كانت أسبابها أو مبرراتها التي يتشدّق بها المسؤولين بعد كل كبوة لهم ! و لعّل القدر أوجد رحمة و عذراً لهم كالعادة !
حريق مدرسة براعم الوطن الأهلية للبنات بحي الصفا بمدينة جدة بالأمس و الذي خلّف إلى وقت كتابة هذا المقال " استشهاد " معلّمتين و إصابة أكثر من 35 طالبة ! و الحسّابة بتحسب , ما بدر لذهني حين سمعت هذا الخبر هو إحساسي الداخلي بأن معلّماتنا إن لم تكتب لها الشهادة في حادث سيارة على طريق صحراوي بعد رجوعها أو حين انطلاقتها إلى مدرسة نائية " جداً " فهي ستلاقي مصيرها غرقا ً أو حرقا ً و إن لم يكن هذا أو ذاك فـ تعذيباً في النقل و تبغيضاً في التعليم ! و لكل أجل كتاب قبل كل شيء , و لكنني أتحدث هنا عن الأسباب !
من يملك ذاكرة جيّدة يتذكّر حادثة حريق المدرسة المتوسطة للبنات في مكة المكرمة و التي راح ضحيّتها ما تم إعلانه حينها عن وفاة 15 طالبة , حينها تم إقالة كبوش الفداء كالعادة بعد كل كارثة , و من يملك هذه الذاكرة الجيّدة أيضاً سيتذكر كيف أنّه من بعد هذه القضيّة (11مارس 2002) و نحن نعد بالقضاء على المدارس المستأجرة , مضى (10 سنوات) و نحن نعد أيضاً و بين كل وعد و آخر نحتفل بالقضاء على ثلّة بسيطة من المدارس المستأجرة و نتجاهل قبيلة كاملة من المدارس المستأجرة و المنتشرة على بقاع بلادي , هذه جزء كبير من المشاكل التي يجب الوقوف عندها بحزم .
قريتي الصغيرة لازلت تعاني من وطأت مدرسة مستأجرة مبناها متهالك لا ينفع أن يكون حتّى مستودعاً للبضائع ! و لازلت هذه المدرسة على هذا الحال منذ سنوات مديدة و لا أعلم هل الخطّة التعليمية تقضي بأن لا يكون هناك تحرّك إصلاحي و تنظيمي و تطويري لحركة التعليم إلا بعد أن تقع كارثة ما , و تشهد الساحة التعليميّة شهداء جدد . !
هذه الحرائق خاصّة في المجال التعليمي ليست وليدة اليوم , فلنا معها قصص و لكننا شعب ننسى و إذا ذكّرنَا بها أقصينا من الحديث بسبب أنّنا " نتصيّد في الماء العكر " و لا أدري من جعل الماء " عكراً " هل نحن أم ثلّة المطبلين ؟! الذين يعلّقون شمّاعة " القدر " و " مشيئة الله " على كل إخفاق و تقصير و استهتار يحدث منهم .
قال الكثير من التربويين الحريصين على البلد و تقدّمه أنّ ميزانية التعليم يجب أن تكون ميزانية كبيرة تضاهي ما تريد تحقيقه من أهداف عظيمة و لسنوات قادمة لأنه لا نهضة لبلاد بدون أمّة متعلّمة مثقّفة , و أنا اليوم أريد فقط ميزانية أضمن بها عودة البنات و الأولاد إلى بيوتهم كما سلّمتهم أمّهاتهم و أبائهم للمدرسة " سالمين معافين " و لا ضير بعد ذلك أن يكونوا " غانمين " علماً و معرفة إن " وجد ذلك " !
بعد كارثة يطل علينا أناس يريدون أن يوصلوا لك بشتّى الطرق أنّ ما حصل قضاء و قدر و يجب الكف عن النحيب و النواح و أن نؤمن بقدرة الله و تسييره للأمور , و هؤلاء يحس الفرد العاقل منّا أنّهم يتحدّثون إلى فئة جاهلة أو غير مدركة أو لم تقرأ عن أنّ الإيمان بالقضاء و القدر لا ينفي البحث عن الأسباب و معالجتها , لذلك لا تأبهوا كثيراً لهؤلاء لأنهم يؤدون أدوار تنظيريّة لا أقل و لا أكثر .
مأساة الأمس كانت جزء لا يتجزّأ من مآسي سوء الإهتمام و قلّة الوعي و انعدام النظرة المستقبليّة , و حينما تتكالب مثل هذه الأنماط المزعجة على عمل ما فلا تؤمّل عليه كثيراً لأن مصيره إلى كارثة و هلاك , و المزعج في الأمر حقّاً هو أننا نستمر إلى اليوم في نهج تقليدي سواء في بناء المدارس أو طرق إداراتها و كذلك نغض الطرف " عامدين " أو " جاهلين " عن ما يجب بالفعل أن يكون في مدارسنا على سبيل الخصوص من تهيئة الجو العام و الأمن و السلامة و الغذاء ! هل دائماً ننتظر أن تكشف الكوارث ما نحن عليه من أخطاء يمكن تلافيها بنظرة المحب لوطنه و المشفق والحريص عليه ! أتمنى أن " لا يكون ذلك " !
التعليقات (0)