خرج "طارق" كعادته في الصباح الباكر يستنشق أولى نسائم نهار ربيعي جديد ، حاملا عدته التي هي عبارة عن أدوات صنعها كما اتفق داخله على فكرة قولبة وجوده حسبما اعتاد الناس جميعا أن يروه،يلمع الأحذية أو "سيرور" بالمعنى المغربي الدارج ، كثيرا ما كان محط عطف أو سخط أو إعجاب أو حقد دفين ، خلاصة القول أنه كان وعاء للإفرازات النفسية البشرية في مدينة أهلها " كثيروا الكلام قليلوا النفع" كما كان يردد على الدوام..
لكنه رغم كل ذلك لم يفكريوما في تغيير عمله لأن وجدانه ارتبط بتلك المهنة ولا يستطيع مهما حصل أن يفكر في العودة إلى قريته البئيسة. خصوصا وأن الشغل أضحى في أيامنا عملة نادرة ،ومثل تلك المهن التي يشغلها أمثال طارق رغم أنها تثير بعض الإشمئزاز في النفوس فإنها تذرعلى صاحبها ما يجعله يتحمل نظرات الاخرين وعجرفة بعض الزبناء .ورغم الإحباط الوجودي الذي يداهمه أحيانا فقد أمضى أياما روتينية طويلة حتى أنه تعود على كل ما تم ذكره من الإستيقاظ صباحا والتعامل مع أمزجة متقلبة على الدوام..لكن في ذلك الصباح بالضبط لم يدر في خلد صديقنا أن انقلابا سيطرأ على مجرى عيشه ..بل إنه كان على موعد اخر مع الحياة..
الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا ،وكان الأستاذ مصطفى قد غادر حجرة الدرس بعد نهاية الحصة الصباحية ولازالت عيناه غائرتان شبه مغمضتين ومزاجه معكر جعله يمارس بعضا من شغب الكبار على تلامذته..في الطريق اشترى علبة سجائر وطلب نسخا من برامج ألعاب الرهان ثم اتجه رأسا إلى الحانة القديمة العزيزة على قلبه، هناك وجد "الركنية" فارغة فانبسطت أساريره ثم اتجه نحوها ليرخي جسده على الكرسي وجلس هنيهة يتأمل..
وصل طارق إلى ذات الحانة وكل أمله أن يجد أكثر الجالسين ممن ينتعلون الأحذية الكلاسيكية حتى يسهل عليه إقناعهم بتلميعها، وهو بذلك يحصل على قوته اليومي كما اعتاد مذ غادر منطقته الفقيرة متجها صوب "جوهرة الغرب" ،أما مصطفى، فقد كان منهمكا في قراءة جدول سباقات الخيول وكان بين الفينة والفينة ينبس بكلمات غير مسموعة كأن به مسا ،لكنه استبشر خيرا لما رأى طارقا قادما لأنه أخيرا سيجد مع من يكسر رتابة صمت صباحي يبعث على القرف ، ولم يكن طارق بالغريب عليه فقد توطدت العلاقة بينهما لتتجاوز علاقة ماسح أحذية بزبون عادي إلى ما يشبه تكوين موضوعات مشتركة خصوصا وأن طارقا كان ذا صورة مختلفة عن باقي ماسحي الأحذية فهو لم يكن يدخن ولايقرب أيا من الموبقات رغم إلحاح مصطفى عليه أحيانا لشرب كأس أو سيجارة زاعما أن للنشوة دورا هاما في تكوين شخصية الإنسان..ورغم رفضه لذلك فقد كانت لطارق مكانة خاصة لدى مصطفى بعدما تبين له ذكاءه و فطنته. و رغم أنه كان قليل الكلام فإن عينيه الثابتين وملامحه المتزنة جعلته يكسب ود أغلب من يتعامل معهم وربما رأى فيه مصطفى الولد الذي لم ينجبه بعد ، فقد رزق بأربع بنات ولازال يأمل أن يكون الخامس ذكرا ، لذلك كسب تلقائيا ثقته فكان يرسله لقضاء بعض الأغراض كاقتناء علبة سجائر أو وجبة خفيفة وأحيانا كان يرسله إلى مركز الأداء الخاص بألعاب الرهان، هناك كان بين الفينة والفينة يجرب حظه في لعبة الأرقام الرابحة التي تغري اصحابها بتلك الوصلة الإشهارية الرنانة "حتما سيأتي دورك"، فكان في كل مرة يرسله مصطفى يدلو بدلوه لعل أبار الملايير تنفجر بالقليل أو الكثير، فقد أضناه التفكير في كيفية تجاوز وضعيته الميؤوس منها، لكنه لم يفقد الأمل، ولم يفكر قط في الإرتماء في أحضان المخدرات الرخيصة كما يفعل الكثيرون من أمثاله، فقد كان يكتفي بما يكسبه قبيل مغيب الشمس ثم يقصد غرفة يكتريها في بيت بجوار طلبة قادمين من مدن أخرى نحو "جوهرة الغرب" لمتابعة تعليمهم الجامعي، أنذاك بدا لهم شخصا غامضا غريب الأطوار فقد كان يعتكف بغرفته ولم يكن يغادرها إلا لماما ولم يروا قط طيلة تلك الأشهر التي قضاها بجوارهم أصدقاء يزورونه ولم يكن يحدث أحدا فكان في نظرهم نعم الجار في حي "الكروا" المشهود له بالكوارث والضجيج المستمر..
ولقد استمر الحال على ما هو عليه لمدة من الزمن إلى أن وصلت عقارب الساعة في ذاك اليوم المشهود إلى منتصف النهار، حيث تذكر مصطفى وهو يدردش مع طارق، أن عليه أن يبعث بأوراق الرهان حيث اتفق، فسلمها إياه بعد أن طلب منه رقمين تيمنا بما قد يأتي من حظ على يديه، فأقترح عليه رقمين ذكرهما بسرعة فسجلهما مصطفى واعدا إياه بهدية خاصة إن ربح، قال أنها ستكون عبارة عن فرشاة ذهبية لتلميع الأحذية..، ضحك مصطفى وابتسم طارق ثم تسلم منه ورقة تضم سلسلة من الأرقام في مختلف أنواع مسابقات الرهان، أخذها ومضى إلى أقرب محطة ألعاب حيث فكر في تجريب حظه لكنه تراجع معللا ذلك بحاجته إلى جمع مزيد من المال، ثم إن جميع محاولاته السابقة كان مالها الفشل بسبب الحظ السيء، لكنه عدل عن قرار التراجع في ظرف وجيز مطمئنا نفسه بكون المبلغ الزهيد الذي يحتمل أن يخسره لا يوازي شيئا أمام ما قد يعود عليه من أضعاف مضاعفة، وكما قال الفيلسوف المنسي ذات يوم "لا شيء في الحياة مستحيل.. يكفي فقط أن توافق الدنيا على فتح فخذيها..".
وعليه، فقد نظر طارق إلى ورقة الأرقام التي طلب منه مصطفى أن يراهن بها فلاح له أن يجرب خلطة سحرية بأن يصطفي ستة أرقام بعشوائية بواقع رقم من كل سطر، فانصهر يحدق بتركيز عميق في الورقة ثم بدأ ينتقي هذا الرقم وذاك إلى أن توقف عند معادلة لم يعرف حينها ان ملايين من البشر يلهثون وراءها، وفي سبيل الحصول عليها قد يبيعون أثاث بيوتهم ويتركون أبناءهم جياعا ، ومنهم من يهيم على وجهه زاهدا في الدنيا، الربح كالخسارة لديه وكلما ارتوى من نبع الإدمان المفلس توارى عن الحياة لاهثا وراء الملايين في صراع سيزيفي مع الحياة فتراه يتقلب من وهم إلى اخر تماما كالعطشان حينما يلوح بين ناظريه سراب وهو في عميق الصحارى..
دون طارق الأرقام التي انتقاها بعشوائية وعبأها وحصل على الوصل الشاهد وكذلك فعل مع أرقام مصطفى الكثيرة ثم عاد إلى الحانة حيث وجده قد شرع في كرع الجعة الثانية فسأله عن تأخره لكنه كالعادة لم يخبره شيئا وعلل ذلك بعذر لم يهتم به مصطفى قدر اهتمامه بإدخال الأوراق الشاهدة إلى جيبه،وككل مرة فإنه لم ينس أن يعد صديقه الصغير :
-إلى ربحت أولدي أطارق غادي نردك ملك..ديال السيرورات
ثم ضحك عاليا إلى أن بانت أضراس فمه المعطوبة كأن فاه كان ساحة لحرب ضروس، وضحك طارق ثم ودع مصطفى بعدما تسلم منه البقشيش المعتاد. ولأن الحانة كانت شبه فارغة فقد غادرها صوب وجهة أخرى. والرزق على أحذية عباد الله..
في المساء عاد إلى غرفته كما يفعل كل يوم، في باحة البيت وجد طالبا يترنح وكان السكر قد تعتعه وداخت به الأرض فقصد المرحاض لكنه تقيأ قبل الوصول إلى بابه، ولم يأبه صديقنا لذلك المنظر وفتح مصاريع باب غرفته ودخلها بسلام حاملا عشاءه وجرائد حصل عليها من اخر مقهى دخله، ثم انهال على الفراش يتأمل السقف مرخيا جسده بعد يوم شاق من التجوال والتلميع الممل محاولا أن يتناسى أمر الرهان إلى صباح الغد. فكم من الأشياء ننالها بقليل من اللامبالات وكم أفسدت اللهفة الزائدة أشياء محققة..
في الغد استيقظ صديقنا حاملا دوزنته قاصدا شوارع الله الفسيحة حيث تنتصب المقاهي والحانات كالورم الخبيث حين يصيب جسد الإنسان ، فكر في الرهان فاتجه رأسا إلى أول محطة رأى علامتها وهو ماض في طريقه، ولأول مرة تراءت له الحياة الحقيقية بين ناظريه مجسدة في ستة أرقام، حدق فيها وهو يبتلع ريقه وتقطعت أنفاسه برهة وهو يرى الأرقام الرابحة تماما كما اتفق لها أن تكون، كأن الزمن أراد أن ينصفه فجاد عليه بولادة جديدة،ولم يفرح كثيرا لكنه فرك عينيه كأنه خرج للتو من الكهف الأسطوري. لم يصدق ما رأته عيناه فأخرج ورقة الرهان ليتأكد مرة أخرى فكانت متطابقة تماما مع الخلطة العددية الرابحة فشعر بالراحة التامة ..تماما كأنه فوق السحاب ، والأهم أنه كان يومها في موعد مع الحياة..
بعد ذلك غاب طارق كأن الأرض انشقت وابتلعته، ولطالما تساءل مصطفى عن مصير صديقه لكن أحدا لم يسمع عنه شيئا كأنه ذاب في حمأة الحياة،ثم مضت سنتان أو ثلاث نسي فيها الجميع أمره.. إلى أن جاء مساء توقفت فيه سيارة فارهة قرب الحانة الرخيصة ففغرت أفواه بعض الجالسين عل الرصيف وكلهم تساؤل عمن يكون صاحب السيارة ، هذا الأخير نزل ثم دخل إلى قلب الحانة وجال ببصره إلى أن رأى شخصا جالسا لوحده في الطاولة الركنية التي عادة ما يتسابق عليها الزبناء، لكنها في الأغلب تكون من نصيب شخص وحيد معروف باسم الأستاذ مصطفى..
وكان العناق بين الصديقين حارا زادته لهفة كليهما للاخر، ثم جلسا يتحدثان وحكى له طارق كل الذي وقع فكانت دهشة مصطفى كبيرة لكنها لم تؤثر في ابتسامة صافية عبر بها عن سعادته ، ولم تبارحه روح السخرية فقد قال لطارق في عز الفرحة والإنتشاء :
-لقد أصبحت مليونيرا وأقترح عليك مشروعا مربحا ومضمونا..
وبعفوية أجاب طارق :
-أعرف مشاريعك يا صاحبي لكن لا بأس هات ما في جعبتك
- مشروعي عبارة عن شركة تحمل إسم : طارق لإنتاج وتصدير "السيراج".
وضحك الصديقان ثم افترقا بعدما غادر طارق الحانة ،لحظتها رمقه مصطفى بنظرة طويلة ثم أخفض رأسه وأشعل سيجارة ، أما صديقنا فقد امتطى سيارته وواصل رحلته في الحياة...
انتهى
"منتوج كيماوي أسود يستخدم لتلميع الأحذية".
محمد الشاوي
التعليقات (0)