تعني لنا الرسومات الجميلة الشيء الكثير وهي التي رسّخَت مفهوماً عظيماً لحضارات الشعوب وثقافات الأمم لذلك نبحثُ عنها في كلّ مكان ونفتّش عنها خاصّة فيما بين "الجُدُر" التي يعثُرُ عليها المولعون بالآثار والتنقيب عنها،ولعلّ "الجُدُر" القديمة لا تختلفُ كثيراً من حيثُ الفكرة والقيمة المادّية والتحصينيّة عن مفهوم "جُدُرٍ" نعيشُ معها نحنُ في كلّ مكان متمثّلة في بيوتنا وشوارعنا وأوطاننا ..
من يرى "جِداراً" يعرفُ بأنّ من بنى هذا الحائط يقدُّرُ جيّداً ما يعنيه حجبُ الرؤية عن الجهة المقابلة لتواجد المشاهد،ويعي جيّداً ما يقدّمه هذا البناء من حمايةٍ لمن يستفيدُ من المسافة الفاصلة بين طرفي التواجد،وهو أيضاً يتوقّعُ نعومةً وعاطفةً ومشاعرَ راقيةٍ ولو كانت "خفيفة" لمن يجلسُ لذلك الجدار ويستفيدُ من ظلّه في أوقات النهار أو يتّكئُ عليه ويُسنِدُ له ظهرَه وهو متعبٌ من إحداثيّات الحياة ..
في المدارس والمؤسّسات التعليميّة تزخرُ "الجُدُر" بكثيرٍ من أسرار الأطفال والمراهقين والمراهقات،ويقعُ على عاتق كلّ "جِدار" مسئوليّة كبيرة في تحمّل فضفضة القلوب المتعبة وتعبيرات النفوس المحبّة أو الكارهة مهما كانت صلابتُه وشدّة تماسك جنبَاتِه لكنّه هيّنٌ ليّنٌ مع كل كاتب وراسم وعابث،وفي "الجُدُر" التي بقيَتْ وحيدةً على الطرقات وفي مساكن أقوامٍ قد هجروها لا بدّ أن تبقى بعضُ الأشكالِ تدلّ على بانيها وبعضُ المُشيَّدات تدلّ على مُبدِعها وإن استحالَ "الجِدارُ" جذراً والحائطُ وَسماً ..
ومسألةُ الاستفادة من نظريّة الحواجز ببناء "الجُدُر" ليستْ وليدةَ العصر ولا حادثةَ العولمة بل هي موغلةٌ في القدم بمقدارِ ما للإنسان القديم من تاريخٍ في الحضارات،وللمسلمين درايةٌ كافيةٌ بهذا الإرث "الجداري" القديم لما مدَّهم به القرآن الكريم من قصص وعِظات ورَدَ فيها هذا المُصطلح ركناً أساسيّاً في الموضوع،والجميعُ يعرِفُ قصّة "جِدار" الغلام مع الخضر عليه السلام وكيفَ أنّ رغبةَ "الجدارِ" في أن ينقضَّ قاومَها الحكيم الموحى لهُ من ربّه بأن يزيدَ من استقامَتِه إلى حين بسبب ما تحتَه وليس لأنّه حاجزٌ عن خير ..
وتنبيهُ الله تعالى إلى طبيعة الحرب التي يخوضها اليهود مع المسلمين في قصّة مقاتلتهم لهم من وراء "جُدُر" لها من مدلولات العلم الربّاني الأزلي الحق ما يجعلنا نطمئنّ للصدق الذي آمنا به يوماً بعدَ يوم ونحنُ نراهم يستترونَ خلفها من كلّ ناحية وجهة،ولم يورد القرآن كلمة "الجدار" سوى في هذين الموضعين بالذات رغم اختلاط "الجدار" بحياة الإنسان الباني ومعيشة الفرد المستكنّ خلفَه أو من خلاله ..
إنّ رغبةَ النفس البشريّة في الاستحواذ والتملّك جعَلَت من بناء "الجِدار" سلاحاً لمنع الغير من الاعتداء وأداةً لحفظِ ما هو دونَ "الجدار" بصلابته وصعوبة اختراقه أو الرّقيّ فوقَه،واستمرّت طبيعةُ الإنسان تأتي بالجديد والحديث في كلّ المجالات حتّى اختفى "الجِدار" حقبةً من الزّمن واستبدلَه النّاس "بالحائط" وبينهما فرقٌ دلاليّ ولغوي،حيثُ يمثّلُ الأول الحجزَ والمنَعَة ويكرّسُ الثاني مفهوم الحماية الرّباعيّة الأبعاد ..
ولعلّ ترادفاتٌ مثل "سور" و "جِدار" و "حائط" و "حصنٍ" و "قلعة" أتخَمَتْ المقهورين في العالم بصنوف اليأس والإحباط أن يُفرَجَ عنهم يوماً من الأيام من سجون الإقصاء والإبعاد ويُسمَحَ لهم بالاختلاط والانخراط في حياة الإنسانيّة التي لا تعترفُ كمبدأ أساسيّ مهم بالطبقيّة العرقيّة أو الاقتصاديّة مذهباً في التصنيف،لذلك لا يعترفُ الخارجون من عنُقِ المجهول وزجاجة الفقر فجأةً بانتصاراتهم إلا إذا اقتحموا "جداراً" أو هدموا "جدُراً" أو بنوا حولَهم وممتلكاتهم الطارئة "جداراً" يمنَعُهم من مشاهدة ماضٍ كانوا فيه ويمنعُ من يعرفهم من التفكير في تقليدهم أو محاولة الحصول على ما حصلوا عليه مصادفةً أو زوراً ..
هُناكَ "جدُرٌ" تُبنى لقمعِ المفاهيم الحقيقيّة للأشياء أعظمُ ظلماً من "جدارِ" تبنيه إسرائيل،وهناكَ "جدارٌ" بُنيَ بأيدينا وأفعالنا واستكانتنا وارتفعَ واستطالَ حتّى نالَ من وجودنا وكياننا وأحلامنا هو أخطر مستقبلاً من "جدارٍ" فولاذي اقتنعَتْ مصرُ بأن تزيدَ به حصارَ الإخوان،وما "الجداران" في غزّة والأراضي المحتلّة إلا من أتعس المواليد وأشقى الإفرازات "للجُدُر" المعنويّة الخشنة المبنيّة بين الشعوب والسّلطان ..
حتى نقتنع بأنّ ما عملتْهُ دولة اليهود في أراضينا هو أمرٌ واقعٌ يجبُ الرّضا بأنّه قضاءٌ وقدر يستمرّ الإعلامُ بإتحافنا بالرّسومات التعبيريّة التي يرسمها طفلُ فلسطين المعذب أو قتاة القدس المظلومة تخفيفاً على أنفسهم وإثباتاً لوجودهم،ويستخدمُ الإعلاميّون هذه الحقائق على إنها إبداعات ولدتْ في براثن الحصار ومواطن العنصريّة مبتعدين بنا عن أصل المشكلة ورأس الأفعى لأنّهم "جدارٌ" منيعٌ دونَ إحساس المسلم بواجبه تجاه أخيه ودونَ ثورة القلوب ضدّ "جُدُر" السلبيّة والخنوع ..
عندَما استشارَ الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابَه والأحزابُ يُهمّون بالوصول للمدينة لقتاله أشارَ عليه سيّدنا سلمان الفارسيّ رضي الله عنه "بالخندَق" واستحسَنَ النبي الكريم هذه الفكرة التي تخيفُ العدوّ وتمنعُ الضررَ ولكنّها لا تحجُبُ الرؤية ولا تدومُ بعد انتهاء الغرض منها ولا خسارةَ مادّية في ردمِ حُفَرِ الحرب بل هو الواجبُ والأصلح،وفي الطّرف الآخر بقيِتْ "الجُدُر" ثقافةً استعماريّة جبانَةً موءودةَ الفائدة إلا على من ينتفِعُ من مضرّة الآخرين ..
وفي الوقتِ الذي طلَبَ أهلُ ما بينَ السّدّين من ذي القرنين أن يبنيَ لهم سدّاً "جداراً" بينهم ويأجوجَ ومأجوجَ وهم مفسدون في الأرض استجَابَ لهم ولكنْ بتنفيذ مشروع يفي بالغرض وليس سدّاً كما رغبوا وقال "ما مكنّي فيهِ ربّي خيرٌ فأعينوني بقوّةٍ أجعلْ بينَكمْ وبينَهمْ رَدْماً" وإلا لكانَ "السدُّ" موجودٌ حتى اليوم ولكنّهُ الرّدْمُ الذي يقي السّوءَ ولا يجلبُ العار،ونحنُ نؤمنُ بأنّ الخيرَ كلُّ الخير في التوجيه الإلهي لعباده في الحياة الدنيا إدارةً لشئونهم وليس الخيرُ في اتّباعِ شهوةِ الاستحواذ والقهر والحصار ..
كلّنا مسئولونَ عن "جدارٍ" بنيناهُ وحالَ بينَ أهل فلسطين وشمّ الهواء والعيش الطبيعيّ وممارسةِ الحقوق العاديّة وذلك بكثيرٍ من الإجراءات والتعقيدات يتعرّضُ لها المواطن "الفلسطينيّ" في بلدان إخوته العرب قبلَ أعدائه الغرب أو خصومه اليهود،وكلّما رسَمَ كاتبٌ أو ناشطُ أو شخصٌ لوحةَ احتجاج أو لائحة اعتراض على مساحات هذا "الجدار" المعنوي القاتم اللون محاهُ من بنوه بسلطة القانون الذي وضعوه ..
لم تَقُم "مصرُ" إلا بما يقومُ به جميعُ العرب من بناء "الجُدُر" بينَهم وقضيّة فلسطين حتى يبتعدوا عن صُداعها ومطالبة شعوبهم للحكومات بالتحرّكُ نُصرَةً واستنفاراً،ولم تفعلْ "مصرُ" سوى يفعلُهُ الإعلامُ العربي بنا حينَ يُعْلي "جُدَرَ" التغييب بيننا وبينَ ما يجري هناك ـ إلا من رحمَ ربي ـ من تعسّفٍ وظلم ودمار واجتثاثٍ للأصل المسلم والعرق النابض بشهادة الحق "لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله" ..
الذي أغاظَ المفكّرَ العربي ليسَ "الجدارُ" فهوَ يرزحُ تحتَ رحمة فكّ الحصار عن عالمه العربي بأسره وليسَ "البناءُ" الذي يمنعُ الوصول فهوَ ممنوعٌ من الوصول لأخيه العربي ولو لم يكن هناكَ "جدارٌ" وليسَ الحزنَ على قومٍ منعَهم عدوّهم من المأكل والمشرب والملبس والمسكن وصبَّ عليهم رصاص الحقد وعناقيد الطغيان فالعربيّ يعرفُ كيفَ يبكي ولكنّه لا يعرفُ كيفَ يغضب ..
وتوقّعي أنّ الذي أوغرَ صدرَ العربي من "جِدارِ" الفولاذ هذا هو الغيرة من الإبداع المصري الجديد الذي استطاعَ أن يجمَعَ فيه بينَ مدارس الحجْزِ والمنع والإحكام،فالبناءُ المُعتزَمُ هو "جدارٌ" بالمفهوم السائد لهذا المصطلح وهو "خندقٌ" بمفهوم الهبوط بالعمليات تحتَ الأرض وهو "ردْمٌ" بمفهوم إحكام السيطرة على أنفاق كان يتنفّسُ منها المساكين وهو "سَدٌ" بمفهوم الصلابة التي تُرجى منه أن يقاومَ بها انتفاضَة الشعب المُحاصر وهو "حِصنٌ" يمنعُ تسرّبَ الحقائق من القطاع ليستمرَّ التعتيم ..
مريرةٌ هي "الجِداريّاتُ" في مسيرة البشريّة وخانقةٌ هي "الجُدُر" في حِقَبِ الشعوب وفي الوقت الذي يزيلُ فيه الشرقُ أسوارَ أمبراطوريّاتهم ابتهاجاً بالعولمة ويهدِمُ فيه الغرب جُدرانهم رغبةً في الانفتاح على عوالمهم وأوطانهم ويُلغي فيه الشمالُ منعتَهُ التي كانَ يفرضِها على جمهوريّاتٍ تفكّكَتْ سياسياً واجتمعت اقتصادياً ويسعى فيه الجنوبُ للاتحاد والائتلاف واللّحاق بالرّكب يبني كلُّ من في "الشرق الأوسط" القديم جدارَ فصلٍ ليضمَنَ انفرادَهُ بالظلم حتّى لو فُرِضَت عليه خارطةُ "الشرق الأوسط" الجديد ..
التعليقات (0)