درج العرب القدماء في جزيرة العرب في عصر الجاهلية وما قبلها على إرسال أطفالهم ولا سيما الرُّضّع إلى البادية، وكان هذا ديدن الأغلب منهم.
بالطبع لم تكن مدنهم كمدننا نحن الآن، فمنازلهم تختلط بين الطين والحجارة وسعف النخيل، في تعداد لا يتعدى المئات منهم أو الآلاف.
حتى أهم مدنهم كمكة المكرمة لم يكن تعدادها بالكثير بحيث تبرز مظاهر المدنية وآفاتها. ولكم أن تتخيلوا مقدار الفارق الكبير بين مدنية الجاهلية ومدنية القرن الواحد والعشرين، وشتان.
كالعادة.. تأتي المرضعات كل عام في وقت معين ومحدد لاختيار المواليد الجدد، ويتم الاختيار طبعاً حسب حالة المعيل أو الشهرة، أو القبيلة، فمن يدفع أكثر يحظى بأهم المرضعات من حيث بيئتهن، فالأطفال سوف يعيشون في أرض جديدة.
كان العرب أيام الجاهلية يرسلون فلذات قلوبهم، وبضعة أكبادهم في هذه الدورة التدريبية المبكرة إلى البادية، إيماناً منهم بضرورة استعجال زرع المبادئ الأساسية الصحيحة والحقيقية في نفوس أبنائهم، وما من مدرسة أفضل من مدرسة البادية.
يتعلم الأطفال هناك قسوة العيش، فمدنهم وحضارتهم لا تشيد بالميوعة ولا الطراوة، ومدن الجزيرة العربية في ذلك الوقت على بدائية الإنشاء في نظرتنا نحن، إلا أنها كانت مدناً راقية حضارية في نظرة أناسها في ذلك الوقت.
وبما أن العرب تميزوا بالفصاحة والبلاغة وعلم اللسان، فلا بد لهم من أن ينهلوا من النبع الصافي لهذه اللغة، والبادية مهدها الحقيقي، حيث لم تتداخل اللغات ولم تتحرف بدخول كلمات أعجمية أو لكنات هجينة. فما تكلم به أهل البادية فهو الصحيح، وإن اختلف جمع في كلمة أو جملة احتكموا إلى رجل من الأعراب.
أضف إلى ذلك تعلم الأطفال مبادئ الأخلاق العربية الأصيلة، من كرم ونخوة وشهامة وإكرام الضيف واحترام الجار والغيرة على المحارم والأرحام.
والناظر إلى التاريخ، يجد أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أرسلته أمه آمنة بنت وهب إلى بادية الحديبية ليرضع في كنف حليمة السعدية، وهناك تعلم ما تعلم مما ذكر التاريخ.
وأرجع فأقول إن هذا هو حال العرب أيام الجاهلية، قبل أن تشيد المدارس والجامعات، وقبل أن تقام الحضارات المدعومة بأحدث الدراسات وآخر المبتكرات، ويكفي وصف الجاهلية لتلك الحقبة حتى نفهم ما كانت عليه.
إن مجتمعاتنا الحالية في القرن الواحد والعشرين حاولت تقليد الجاهليين، لكن بصبغة الحضارة، فبدل أن ترسل أطفالها إلى باديات العرب حيث الأصالة والعراقة، استقدمت خادمات من باديات جنوب شرق آسيا، ليعشن مع أطفالهم في حركاتهم وسكناتهم ويهتممن بكل صغيرة وكبيرة من شؤون الأطفال، وينقلن لهم ما عرفن من قليل خبرتهن وضحالة تعليمهن.
وأصبح الطفل في أيامنا هذه يتربى على أيدي هؤلاء الخادمات، ويتعلم منهن، وما أظن أنهن أهل لهذه المسؤولية أبداً أبداً..
وأسأل نفسي .. ما اللغة التي سوف يتعلمها هذا الطفل؟ وأي ثقافة سوف تنقل إليه؟ وما المستويات الأخلاقية التي سوف يكتسبها؟ وهل هانت علينا فلذات قلوبنا إلى هذه الدرجة حتى نسلمها إلى خادمات قدمن من أجل دراهم معدودات فقط؟
وأعيدها وللأسف .. إن الجاهلية القديمة كانت على وعي ودراية وبعد نظر أكثر بكثير من جاهليتنا الحالية.
http://alroeya.ae/2014/09/21/181070/جاهليتنا-الجديدة/
التعليقات (0)