استطاع مؤتمر قصيدة النثر المزمع إقامته في القاهرة في منتصف آذار (مارس) المقبل أن يفرض حضوره على معرض القاهرة للكتاب الدولي. حدث ذلك في الندوة التي أقيمت لمناقشة مخطوطة ديوان «لا شيء يدل» للشاعر محمد صالح، وقد حضرها الشاعر فريد أبو سعدة والشاعرة فاطمة قنديل والناقد جابر عصفور. ويبدو أن الأخير كان مستعداً للحديث عن قصيدة النثر والدفاع عنها، ومن ثم اقتنص بحسب قوله فرصة مناقشة الديوان الذي لم يصدر بعد لمحمد صالح كي يدلي بآراء مهمة، ومنها أن العالم عرف عقب الحرب العالمية الأولى ثلاثة أنواع شعرية متمردة وثائرة على الأشكال الكلاسيكية، هي القصيدة العامية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر التي تباينت في مدى قبول الجمهور لها من بلد إلى آخر. وأوضح أن قصيدة النثر استقرت في الغرب على يد بودلير الذي احتفى بما سميّ «شعرية القبح». وأشار إلى أن الشعر العربي عرف في هذا التوقيت تلك الأنواع الثلاثة، لكن مصر بمؤسساتها عقب ثورة تموز (يوليو) كانت ذات ذائقة محافظة، وكان من الصعب انتشار قصيدة النثر فيها. وقال إن «قصيدة التفعيلة نفسها لاقت في مصر من الهجوم والاعتراض الكثير، فما بالنا بقصيدة النثر، وظل الأمر على هذا النحو حتى جاءت نكسة 1967 التي زعزعت هيمنة هذه المؤسسات الضاغطة، وشككت في القناعات الكبرى لأصحابها والقائمين عليها، ومن ثم فتح المجال لعودة هذا النص إلى مصر من جديد، وظهر شعراء كثيرون يتحولون من التفعيلة إلى النثر أو يكتبون قصيدة النثر». ورأى عصفور أن قصيدة النثر العربية جاءت على هيئة اتجاهين متوازيين، أولهما كان مهتماً بالإيقاع العالي وبرز ذلك في شعرية محمد الماغوط ، والثاني رأى ضرورة أن يكون الإيقاع هادئاً وبسيطاً لدرجة أننا في بعض الحالات نشعر أن أصحاب هذا الاتجاه ضد فكرة الإيقاع تماماً، وأنهم يحاولون إخفاء الموسيقى الخارجية في شكل واضح لإفساح المجال للموسيقى الداخلية النابعة من أعماق النص، ومثّل هذا الاتجاه أنسي الحاج، والشاعران هذان أصدرا ديوانهما الأول في عام واحد مطلع الستينات، وكلا الاتجاهين ظل مستمراً حتى الآن، وأفرز أسماء وتجارب كبيرة أصبحت تملأ المشهد الشعري في العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
ودان عصفور الفكر النقدي المصري والعربي قائلاً: «إننا لم ندرس قصيدة النثر، وشغلنا طيلة سبعين عاماً بالحديث عن هل هي شعر أم لا، على رغم أن هذا النص موجود في الثقافة المصرية والعربية منذ مئة وخمسين عاماً، وأن له جذوراً في الثقافة العربية والتراث العربي، كنصوص المتصوفة وأبي حيان التوحيدي وسواهم، وجميعها نصوص حين نمعن في قراءتها نجدها شعراً خالصاً، وذات إيقاع وموسيقى هادئة، لكن أصحابها ما كانوا يعرفون مصطلحنا الجديد، وكانوا ينحون نحو كتابة مغايرة. وأشار عصفور الى إن قصيدة النثر تستحق أكثر من مؤتمر، وأنه يجب على النقد أن يقوم بدراستها على نحو أكثر جدية، لمعرفة القانون الذي تقوم عليه موسيقاها وإيقاعاتها، ومعرفة جمالياتها وطموحات كتابها. ويجب ألا نقف في وجهها، لأننا أهملناها بما يكفي. ودان عصفور موقف الرافضين لهذا النص قائلاً: «أنا أتعجب من موقف المحافظين الرافضين لقصيدة النثر، لأنهم بدأوا حياتهم الشعرية ثائرين، ونسوا موقفهم من العقاد وموقفه منهم، ولكن انتهى بهم الحال الى أن يقفوا في وجه التيارات الجديدة، بما يتناقض مع قناعاتهم السابقة». وعن مستقبل هذا النص قال: «يجب أن نترك لشعراء الحركات والتيارات الجديدة الفرصة، ولا نقف في وجوههم، فإذا أثبتوا أنفسهم تتحقق شعريتهم. وقد أثبتت قصيدة النثر نفسها وقدرتها على الاستمرار، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم العربي ككل، ومن ثم يجب علينا أن نترك الحديث عن شعريتها وإشكالية مصطلحها ونقوم بدراستها بحق، لأن المصطلح أخذ شرعيته بوجوده واستمراره، وليس علينا أن نقف في وجه الزمن. ومن يقولون بوجود نصوص نثرية رديئة فعليهم أن يعلموا أن هذه طبيعة الأمور، فالمتميز دائماً قليل إن لم يكن نادراً. فمن يمكنه أن يتذكر من مدرسة الإحياء غير شوقي وحافظ إبراهيم، وفي المدرسة الرومنطيقية جاءت أسماء كثيرة فمن يمكنه أن يتذكر غير إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، وكذلك في التفعيلة ليس هناك سوى أسماء قليلة نعرفها، فلم نطالب نصوص النثريين كافة بأن تكون متميزة وكبيرة؟».
كان من المفترض على الندوة أن تدور حول ديوان محمد صالح، لكنها تحولت في ظل التحولات التي تشهدها الثقافة المصرية الآن إلى إحدى أهم الندوات الداعمة لقصيدة النثر، بل كان الخطاب واحداً من أهم الخطابات ذات القدرة على تغيير الذائقة الجمالية لدى الجمهور العام. فللمرة الأولى يتحدث ناقد لامع وكبير في حجم جابر عصفور في معرض الكتاب، وفي حوار أشبه بالحوار المفتوح مع الجمهور عن قصيدة النثر، ويقوم بالرد على شتى تساؤلاتهم وتخوفاتهم.
التعليقات (0)