الجزء الأول
في المطبخ
لوّث البنّ أرضية المطبخ… أمها تناديها من الغرفة المقابلة… أحكمت قبضتها على الصينية…… يجب الأ ترجف يديّ وأنا أقدّم القهوة……
حتى أنها لا تعرف كيف يشرب قهوته… …تبا، كيف أسأله إن كان يريد بعض السكر، هل أنظر في عينيه…تذكرت قصّة صديقتها ناديا وذاك الإطراء المتداول الزائف العتيق …”أتكون قهوتي أحلى من عينيك”… كم خجلت لماّ رماه ذات شاب أمام أهلها ……أتراه يحرجني بدعابة مماثلة، ضحكت، لن آخذ السكرية، فليشربها مرّة!
هو فنجان القهوة الأول، قد تكون هي البداية، بداية الحياة الثانية مع شريك العمر… أتراه كسائر الشبان الذين يعودون في عطلهم السنوية إلى بلادهم، يدقون أبواب العائلات الكريمة يفتشون عن فتاة رصينة تقدّم لهم سنيها وقرارها مقابل وعدٍ بعيش هنيء. أتراه قصد منازل أخرى، ليغربل من بعدها ويختار من بين كثيرات، فائزة يقدّم لها اسمه جائزة.
تحمّست لفكرة الزواج، أن يكون لها بيتها، أن تكون هي الآمرة الناهية في شؤونه، بعد سنين من غطرسة والدتها. لكن الشكوك حول مصيرها كإنسانة بدأت تظهر….. من يكون هذا الشاب؟ أيكفي أن يكون مهذبا ابن عائلة محترمة…… وماذا تعرف هي عن طباعه، وأخلاقه، وأحلامه للمستقبل؟……. أين تراه يحملني؟ ماذا ينتظرني في بلاد الغربة؟…….
في غرفة النوم
ما زالت فوضى الملابس عارمة في كل مكان. ارتدت كل فساتينها واحدا فالآخر لترى ما يناسب منها زيارة اليوم. حذّرتها والدتها من أي أثر للإغراء،…… لا تنانير قصيرة ولا ألوان لمّاعة مفرقعة…… فهي ابنة العائلة المحافظة…ولكنها أيضا نبّهتها من وضع البنطلون فهو إنما يعتّم على أنوثتها……العريس آتى ليختار امرأة…… نهرتها بسبب الوزن الزائد الذي كسبته مؤخرا. كانت تقصد مطاعم الوجبات الخفيفة مع صديقاتها للتحدث، بعيدا عن آذان الأمهات وصغار الأخوة، عما يجري في حياتهن. الآن ندمت على هذا الطيش. ربما لن يخفق له قلبها ولن ينال ولا حتى قسطا زهيدًا من إعجابها، هي تعرف ذلك جيدا، ولكنها تصرّ على أن يغادر هو منزلها مطووشا بجمال وجهها، تريده أن يغرم بنغمة صوتها، وحسن مشيتها. تريد أن تربح. قرار العودة بين يديه وحده، ممنوع عليها الإيحاء أو حتى المثابرة للحصول على ودّه. ممنوع عليها مقاربته بغير دعوة منه. قرار الزواج، ووقته، ومكانه في يدهم هم. هو قرّر أن يدقق بابها، وهي بالمقابل قرّرت أن تأسره، لتسلب منه القرار. وبالطبع، شكّها بأن يكون قد طرق أكثر من باب إنما عزّز في قرارة نفسها الرغبة في تحطيم عنفوانه وخطف هذه الحرية التي يعطيها لنفسه. ستثأر لنفسها ولكل بنات عمرها. سيظن أن القرار له ولكنه سيكون مجرد لعبة بين يديها.
دق الباب
تسارعت دقات قلبها… أخذت تسرع في التبرج، ستضع “الفاونديشن” عملا بنصيحة أمّها، لتغطي آثار أي موجة من الخجل قد تعتريها. أمرتها والدتها بوضع القليل من الكحل، ما يكفي لرسم عينيها، مع شيء من أحمر الشفاه. هي عربية تفاخر بمعالم وجهها ولكنها ليست بائعة هوى. واجبها أن تبيعه الحلم بالحياة الهنيئة إلى جانب أميرة جميلة مسالمة يتفاخر بها أمام الأهل والأصحاب، وأيضا في قرارة نفسه بنجاحه في اقتناص واحدة من زينة بنات مجتمعه تكليلا لنجاحه المهني أو المادي.
في غرفة الجلوس
“أهلا بك يا بني، تفضل بالجلوس…”
ها هي الجلسة قد بدأت، هذا النوع من الزيارات يكون موجزا…سأراوغ لبعض الوقت فينقضي الجزء الأكبر منها من دوني، يكفيني نظرة واحدة لأستشير قلبي، ومن بعدها تكون الزيارات اللاحقة أقل وطاة
“شكرا يا حجة، هذا شرف كبير لي”… صوته رخيم، ينم عن ذوق رفيع… أه، يا ليته يكون حنونا رومنسيا، أحبّ أن أعيش!
زاد التوتر عندما ندهتها أمها إلى الصالة. دقات قلبها أعلنت عن وصولها، كقرع الطبول زفّت العروس إلى شاب أسمر، طويل،. وقفت إلى جانب كرسي والدها، لم تتقدّم واكتفت بالسلام فيما هو وقف وقفة المحارب يمايز غنيمته في بيتهم المتواضع. عياناه جميلتان حالمتان ابتسمتا لها فور دخولها كأنهما يسعيان إلى طمأنتها. كسرت والدتها الصمت وطلبت منها إعداد القهوة. هرولت بمغادرة الغرفة، ولكنها انزعجت من أمّها، لم تسأله حتى إن كان يرغب في نوع محدد من القهوة، كالقهوة البيضاء، والزهرية او الزرقاء…… لست أدري، مظاهر الترف بادية عليه، من ربطة العنق إلى الحزام وصولا إلى الحذاء، ربما هو من عائلة فقيرة لا يملك من أسباب الترف سواها ولكنه إن أراد لنفسه مظاهر الغنى فلا بد لنا من الامر نفسه. أترى انكشف أماه واقعنا المتواضع وأدرك أمور حياتنا كتمسك والدتي بكل ما توارثته عن والدتها من تصرفات تقليدية، غير دارية بأي مما هو جيد، الكوكتيلات المتعددة الألوان والأكواب المزركشة بالأشكال، كلها بعيدة عن عالم أمي. حسنا، ليست كارثة فالشباب يمقتون مظاهر التبذير في المرشحات إلى منصب الزوجة، حسنا فعلت أمي. سيعرف مع الأيام، أن ذوقي يختلف عن ذوق الأجداد…..
في الصف …عتاب
طافت الأسئلة والأجوبة بين دفتي الكتاب في ذهابٍ وإياب بين عروس الساعة وصديقة الطفولة التي تحرّقت شوقا لاكتشاف مجريات الأمس. رأت الإنقلاب في عينيها ورأت، ما بعد هذا الانقلاب، العاصفة العاتية. تعرفها وتعرف عشقها للأحلام الوردية، غير المنطقية في معظم الأحوال……. إنها مقبلة إلى صدمة كبيرة، هي لم تتعلّم الدرس بعد………
أحبّته ولم تعرف السبب. حتى أنها لم تسأل نفسها، لم يوجّهها أحدٌ يوما إلى البحث عن الأسباب. المهم أن تتزوّج. بين ليلة وضحاحا تجلّى مصيرها وحُسِم الأمر…….الحمدلله، ستكون زوجة فلان الفلاني، السيدة أم الأطفال…… تحمّست لفكرة الزواج، ولم تسأل نفسها أي عالم تقتحم؟……. هي مجرّد تفاصيل، المهم عن تضع خاتما في أصبعها شأنها شأن سائر الفتيات في عمرها وأمّها من قبلها…….. جلست حالمة في الصف، لا تفكر مليا في الموضوع، تجتر فكرة واحدة: هو ابن عائلة محترمة وسيؤمن لها العيش الكريم. صديقاتها رحن يرمقنها بنظرة عتاب واحتراق لمعرفة آخر الأخبار………. متى ستنتهي الحصة!.……..
حبيب الأمس
بات من الماضي البعيد…….غريبة هي الحياة، بالأمس كان يشغل بالها ويصعب عليها أن تضع حاجزا بين قلبها وقلبه، ولكن ما أدراها هي بأسرار المشاعر. قال لها إنه يحبها ولكن الزواج بينهما مستحيل لأن الدرب إلى عالم المسؤولية أمامه طويل. اليوم هي اقتنعت، كانت الفكرة بعيدة بالأمس، أما اليوم فمصيرها بات مرتبطا بمصير شاب جدّي.
نصائح الأحباب
تعجّبت لانجراف صديقتها بموضوع الخطبة والزواج……هو ميسور الحال ابن عائلة محترمة، وهذا هو الأساس. لم يوجّه الحديث إليّ مباشرةً لكنني استشفيت من كلامه مع والدي أنه حسن الخلق والمنطق، يكفي أنه تحدّث إلى والدي لأكثر من ساعة ولم يتصادم معه رغم طباع أبي الصعبة، أنا أعتقد أنني سأقع في حبّه……..
حذّرتها والدتها من غيرة الصديقات اللواتي ما زلن بانتظار الفرج…………. أعتقد أن الشاب لن يتأخر في طلب يدك وهذا كفيل في حقن غيرتهنّ، إياك والدخول معهنّ في تفاصيل الترتيبات، لا تذكري اسمه أو اسم عائلته، لا ضرورة لأن يعرفن ووالداتهنّ تفاصيل حياته……….
وفودٌ عربية
جاءت الخالة، والعمّة، والأهل والأصحاب. لفتت زيارة الشاب الغريب الأعين، وتناولتها الألسن، والآن بدأت الوفود الغيورة على مصلحة الابنة الحبيبة بالتوافد. الخالة هي الأم بالرضاعة، والعمة حشورة عرفت منذ زمن بعيد كيف تدخل نفسها بـ”الشاردة والواردة”، والجارة تسأل فهي من رتّب الموضوع من أصله، ابنة العم وابنة الخال بانتظار أن يشملهنّ حدث مماثل، ولا بد من أن يستفسرن عن مجريات هذا النوع من الزيارات استعدادا لأي فرصة قد تجلبها لهنّ الرياح.
اقتصرت الأم في حديثها على العموميات، زانت و”غربلت” وتمحّصت كل كلمة. يجب الا تجرح شعور قريباتها فهي لم تبخل عليهنّ بأي سر من أسرار حياتها الزوجية من قبل، الخلافات الشخصية مع زوجها والمصاعب الماديّة، ومشاكل الأولاد كلها كانت مواد مطروحة للبحث في جلساتهنّ النسائية اليومية. لكن اليوم، الموضوع يتعلق بالفتاة، والسمعة الحسنة تقضي بعدم الدخول في التفاصيل. من يدري، فقد يقف الموضوع، ولن تعطيهنّ أسبابًا لإلقاء اللوم على ابنتها. الأفضل هو كتمان التفاصيل إلى أن يتخذ الموضوع طابع أكثر رسمية، بكلام دبلوماسي لا يجرح، فالغيرة صعبة وقد يتحوّلن بين يوم وآخر إلى ألدّ الأعداء….
خطوة خطوة
الوفود تتالت، والدبلوماسية في أوجّها، زيارة الأمس حديث اليوم ولا مفرّ من ذلك. لم تحبّذ الأم يوما الكذب والرياء، ولكن لا بدّ من دفعهنّ إلى خارج المنزل حتى يتسنى لها التحدث إلى ابنتها قبل زيارة الشاب الثانية، وقد تم ترتيبها لليوم بسبب ضيق وقت هذا الشاب المغترب. هذه الزيارة مصيرية ينتقل الحديث من الأب إلى الإبنة. لقد طويت صفحة التعارف الرسمية مع الأهل، والآن دور الفتاة لتطرح أسئلتها، وله أيضا الحق في استكشافها بأسئلة صعبة مفخخة. لن يتسنى أمامها وقت طويل لشرح المواقف التي قد تطرأ في هكذا زيارات، وهو أول المتقدمين وأول خبرة لابنتها في هذا المجال، ولكن الظروف تحكم، ما من مفرّ، الشاب على موعد قريب مع السفر ولا بد من زيارات يومية قبل أن يتخذ القرار.
المهم ألا تلفت القريبات انتباه ابنتها إلى مسائل لا طائل من طرحها في هذه المرحلة …….اسأليه عن مشاريعه المستقبلية؟ هل يعتزم العيش في الغربة طوال حياته؟ هل سيسمح لك بإكمال الدراسة والعمل؟ هل يحبذ فكرة العيش مع أهله؟ وإن توفي والده لا سمح الله، هل سيأوي والدته في منزل الزوجية؟…… القرار شبه محسوم، نعم لزواج الابنة من هذا الشاب، فلتتزوج وهي متحمسة لهذ الفكرة، المشاعر جياشة والحب أعمى الحمد لله، فلو طرح الجميع هذه الأسئلة ما تزوّج أحد. فلتتزوج ومن بعدها تترتّب كل الأمور والمسائل من تلقاء ذاتها، كما حصل مع الأجيال السابقة.
وانسحاب دبلوماسي
……..حجّ أنا أزورك اليوم، كما في المرة السابقة، بقصد نبيل. هو شرف كبير لي أن أدخل هذا البيت الكريم وأن أعدّ أهلا بأن أكون من أهله. ابنتكم صبية جميلة، ورقيقة، ومهذبة، ما شاء الله! وسعيد هو الذي سيتزوّج بها… ولكن الواقع يا سيدي أن والدتي، وهي كما تعرفون صديقة مقرّبة من جارتكم، وتعرّفتم من خلالها إلى أصلنا، وعرفتم مدى احترامنا للعادات والتقاليد… المهم سيدي أنّ والدتي ترى أن الوحدة شديدة في الغربة، وتتمنى أن تشاركني ابنة الحلال أيامي الطويلة، ولكن الواقع هو أنني لست مستعدًا للزواج، أقلّه في الوقت الحاضر، ومن الظلم أن أطلب من ابنتكم الانتظار، فلربما تقدّم لها في هذه الأثناء عريسًا مناسبًا وأنا لا أريد أن أقف عائقا أمام مستقبلها……..
قلب الأم لا يخطئ
………لقد حذرتها مرارًا وتكرارًا من الانجراف وراء العواطف. سوف تذرف بعض الدموع ويُسوّى الأمر مع الوقت، ولكن أرجو الا يترك ذلك أثرا سلبيًا على تحصيلها الجامعي، كانت وستبقى من المتميّزين…….
………أنا السبب، كيف أقنعتني جارتي وهي أم البنات، والأولى بها أن تحتفظ بأفضل المتقدّمين لبناتها ولم تفعل، كيف أنني لم أشك في الأمر……..
……أيعقل أنه لا يريد الزواج، أم أنه وجد من هي أفضل من ابنتي. الحمد لله أننا لم نسمح لهما بالخروج معا، هو الله سبحانه تعالى لا يتخلّى عن محبّيه……
………أتى قبل الموعد المحدد، كان يعرف انها ستكون في الجامعة، حسنا فعل بأن جنّبها الإحراج. سأتصل بها، ستعود إلى المنزل على الفور، وسيكون لنا حديث طويل…….
ثوب العرسان
أسرعت إلى غرفتها. رأت على سريرها الثوب الأسود الذي ارتدته منذ أسبوع، للزيارة الأولى، ابتسمت لرومنسية والدتها…….. لقد عاد! أمي أعتقد أن هذه الملابس سبب سعادتي………قالت لها أمها: أتمنّى ذلك يا حبيبتي، لكن حذار الانجراف في المشاعر مع العريس الجديد .……….
التعليقات (0)