ثورة 21 أكتوبر السودانية
جانب من مظاهرات 21 أكتوبر 1964م
تحل اليوم الجمعة 21 أكتوبر الجاري ذكرى أكبر ثورة شعبية سودانية شهد يوم 21/10/1964م قمة أحداثها . ولهذه الثورة وقعها وصداها الخاص في ضمير الشعب السوداني باعتبارها اول ثورة شعبية بعد استقلال السودان عام 1956م تطيح بحكومة عسكرية وطنية هي حكومة المرحوم الفريق إبراهيم عبود الذي جاء إلى السلطة إثر إنقلاب عسكري أبيض في فجر يوم 17/11/1958م لإنهاء صراع داخل الجمعية التأسيسية أبان العهد الليبرالي الأول بين أكبر حزبين متنافسين على السلطة في ذاك الزمان وهما حزب الأمة الحاكم والحرب الوطني الاتحادي المعارض . وحيث كان حزب الأمة (ولا يزال) ممثلا لطائفة المهدية ذات التوجهات الوطنية الخالصة والرافضة لفكرة الوحدة مع مصر بأي شكل من أشكالها . في حين كان الوطني الإتحادي ربيبا بالتبني لطائفة الختمية الموالية لمصر وحيث كان إبن هذه الطائفة الشرعي هو حزب ثالث أصغر حجما لكنه الأخطر فكرا وهو حزب الشعب الديمقراطي وتكمن خطورة هذا الحزب في أنه كان حزبا طائفيا ختميا خالصا يهدد بولائه الأعمى للعائلة الميرغنية الموالية لمصر مستقبل وحدة السودان واستقلاله الوليد عن ما عرف بالاستعمار الثنائي (البريطاني المصري) وحيث كان السودان لا يزال عودا أخضر .......
وزارة اللواء عبد الله خليل الجالس في الوسط (رحمه الله) 1956-1958م
كانت الحكومة عشية ثورة عبود حكومة منبثقة عن انتخابات برلمانية حرة نزيهة وفق نظام ليبرالي يقودها آنذاك اللواء متقاعد عبد الله خليل رئيسا للوزراء وهو معروف بولائه التام لطائفة المهدية ...... ويتفق جميع المؤرخون في السودان على أن إنقلاب إبراهيم عبود هذا كان مرتب ترتيبا متقنا ودقيقا وأن هناك أيدي خفية لجهاز المخابرات الأمريكية CIA لعبت فيه دورا أساسيا لإنجاحه .....
الفريق أبراهيم عبود رحمه الله ... كان مثالا لنظافة اليد والزهد على المستوى الشخصي
أما الفريق عبود فقد كان عشية الانقلاب قائدا للجيش السوداني برتبة لواء وجاء معه لسدة الحكم أعضاء هيئة أركان الجيش السوداني وقتها كأعضاء لما سمي وقتها بمجلس الثورة ...... وتعود اسباب تدخل ألــ CIA إلى تنامي وتصاعد الصراع على السلطة بين حزب الأمة من جهة وحزبي الوطني الإتحادي وحليفة حزب الشعب الديمقراطي من جهة اخرى بهدف إسقاط وزارة عبد الله خليل بسحب الثقة عنها في الجمعية التأسيسية (البرلمان) ظهر يوم 17/11/1958م إرضاء لخواطر مصر التي لم تكن حينها راضية بالأسلوب الوطني البالغ الحماسة الذي أدار به عبد الله خليل أزمة (حـلايب) بين السودان ومصر وعلى نحو اضطرت فيه مصر عبد الناصر وقتها إلى التسليم مؤقتا للسودان بالسيطرة على منطقة حلايب نظرا لما كانت تعانيه مصر حينها من عزلة في علاقاتها مع الغرب بسبب تقاربها مع السوفييت إثر تلكؤ الغرب الاستعماري والولايات المتحدة في تمويل بناء السد العالي (الذي بدأ العمل به لاحقا في 9 يناير 1960م) هذا بالإضافة إلى اقتراب انتهاء الفترة المحددة لاتفاقية تقسيم مياه النيل والتي كانت مواقف عبد الله خليل تهدد بإعاقة إعادة توقيعها لمدة أخرى بنفس الشروط السابقة الموقعة بها عام 1929م بين مصر والحكم الابريطاني الاستعماري في السودان ..... وعلى أية حال نجح إنقلاب عبود وشكل حكومته العسكرية المطعمة ببعض الوجوه المدنية.
والمدهش أن عبد الناصر الذي بدأ وكأنه الخاسر الأول من إنقلاب عبود إذا به وبأسلوب يحسده عليه ميكافـيللي في أوج عصره استطاع أن يحول خسارته إلى (ربح العمر والعصر) بالنسبة له ولمصر حين استغل تورط حكومة عبود في حرب الجنوب فأبدى وقـوفه إلى جانبه وقام معه بزيارة إلى بعض مناطق الجنوب الآمنة للدلالة على مناصرته له . واعتقد عبود واهما أن مناصرة عبد الناصر له كفيلة وحدها بتعزيز موقف حكومته المتشدد تجاه متمردي الجنوب رغم أن مطالبهم في ذاك الوقت لم تكن بحجم وتعقيد ما جاء لاحقا يعد وصول جعفر نميري للسلطة في 25 مايو 1969م ثم تمرد جون قرنق عام 1983م.
وعلى اية حال فقد أخذ عبد الناصر من عبود كل ما أراد ويشتهي وفوقها بـوسة (كما يقولون) سواء من حيث تجديد اتفاقية تقسيم مياه النيل عام 1959م أو تهديد الأمن القومي السوداني بإخلاء أقصى شمال السودان من السكان والترحيل القسري لأبناء وادي حلفا التي غـرقت مدنهم وقراهم فيما بعد أسفل مياه بحيرة السد في حين لم يفي عبد الماصر لعبود بأي عهد أو وعد قطعه له وسرعان ما تخلى عن نصرته ونفض يديه سواء عن موقفه الداعم لسياسته في الجنوب أو منح السودان نسبتة المنصوص عليها من كهرباء السد العالي أو إقامة مشاريع زراعية جنوب بحيرة السد ...... وقد غاب عن ذهن عبود ومجلسه العسكري أن عبد الناصر كان يرى دائما أن لا تسمح مصر بقيام أية دولة قوية في حوض النيل جنوب مصر تهدد مصالح مصر في مياه النهر ...... وحين بدأت الأمور تتضح أمام أعين العسكر كان الوقت قد فات وقد حصل ما حصل ، فما كان من هؤلاء إلا محاولة الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة بالذات وبالفعل تلقفهم الغرب بلهفة سببها خلق صداع نصفي لعبد الناصر بعد توجه الأخير للسوفيت وإرتمائه الكامل في أحضانهم حيث كان هناك إعداد فيما بعد وبعد وصول جون كيندي للبيت الأبيض أن تم تحديد موعد لزيارته إلى السودان وإيجاد حل سياسي اقتصادي لمشكلة الجنوب لكن إغتياله ألغى بالطبع هذه الزيارة التي كان مؤملا أن تشكل نقلة اقتصادية لا يستهان بها بالإضافة إلى دعم سياسي قوي لحكومة عبود فيما يتعلق بإنهاء تمرد الجنوب الثاني بقيادة املازم وقتها جوزيف لاقو ......
جون كيندي
وقد تميزت فترة حكم عبود بطوفان من المعونة الأمريكية وتعاون اقتصادي وضمانات مالية سخية منحت للسودان وقد شرعت حكومة عبود وقتها في تنفيذ ما سمي بالخطة الاقتصادية العشرية والتي تميزت بمعالمها الراسمالية السافرة لكن وحسب ما يقال كان للفساد وعدم الشفافية بسبب الحكم الدكتاتوري وكذلك إنعدام الخبرة أثره الكبير في إجهاض هذه الخطة لا سيما وأن كثيرا من المصانع قد تم تشييدها دون دراسات جدوى ملائمة مما أدى إلى عدم تمكن الاقتصاد السوداني من جني ثمار هذه الخطة لكن الرفاهية والبحبوحة كانت لا تزال ماثلة للمواطن ... فأين إذن كان مكمن سلبيات هذا النظام الدكتاتوري ((الخصب)) مقارنة بما جاء بعده من ديكتاتوريات أذاقت الشعب طعم الجوع وحرارة العطش ؟؟؟؟؟؟ منذ البداية كممت حكومة عبود الأفواه واعلنت حالة الطوارىء وحلت الأحزاب والنقابات كما قامت بتعطيل الصحف ومنع أي نشاط سياسي وفتحت ابواب السجون في وجه كافة الساسة والنقابيين المطالبين بالحريات السياسية وعودة الليبرالية إلى الساحة السودانية .. كما شهدت الفترة من مارس 1959م وحتى أغسطس 1961 تقريبا ثلاث محاولات إنقلابية عسكرية فاشلة . كما بدأت المناهضة السياسية بتكوين )جبهة الأحزاب) عام 1961م وتضم حزب الأمة والوطني الاتحادي والحزب الشيوعي وتكونت مثيلتها أيضا من الأحزاب السياسية في جنوب السودان وقد واجه نظام عبود تلك التحركات بحزم وعنف وألقى القبض على العديد من رموز الحركة السياسية الحزبية وقتها .......
جوزيف لاقـــو
وربما كان الأمر محتملا إلى حد ما لكن برزت إلى السطح مرة أخرى مشكلة الجنوب ----- كعب أخيل كافة الحكومات المتعاقبة في العاصمة الخرطوم ----- فقد انتشرت النار في أخضر وهشيم الجنوب على يد ما سمي وقتها بمتمردي الأنيانيا (جيش تحرير الأرض) ويقال أن أنيانيا هو إسم لأفعى شديدة السمية مشهورة في الجنوب ......... كانت قيادة الذراع العسكري لحركة التمرد هذه في يد بقيادة ملازم أول وقتها يدعى جوزيف لاقو تخرج من الكلية الحربية في الخرطوم والتحق بالجيش السوداني ثم آثر دخول الغابة والالتحاق بحركة التمرد ..... وكان من نتاج المعارك الضروس التي جرت خلال تلك الفترة أن فر الملايين من ابناء الجنوب نحو الدول المجاورة وعلى نحو خاص يوغندا و أثيوبيا وكينيا فالحروب الأهلية لا تفرز عادة بين العدو والصديق ويكتوي بنارها كلا الفريقين المتحاربين .....
وحين استفحل الأمر وتطاير شرر الحرب إلى شمال وخارج السودان وتناقلت وكالات الأنباء ما يجري في الجنوب عمدت الحكومة إلى تشكيل لجنة " تقصي حقائق " وتضم في عضويتها بعض الموظفين الحكوميين من غير ذوي التوجهات السياسية حيث أعلن ذلك في يوم 7/9/1964م وكان من بين ما إرتأته تلك اللجنة إقامة ندوات لحث المثقفين على المشاركة بآرائهم وكانت ابرز أماكن عقد تلك الندوات هو جامعة الخرطوم الوطنية . ولكن سرعان ما ضاقت بها السلطة ذرعا وأصدرت في 10/10/1964 قرار بوقفها لكن القرار على ما يبدو قد جاء متأخرا فقد بلغ السيل الزبى حين تقدم اتحاد طلاب جامعة الخرطوم بمذكرة للحكومة مطالبا السلطة العسكرية بالتنحي وكان رد السلطة السريع هو اعتقال أعضاء الاتحاد والزج بهم في السجن ...
الشهيد أحمد القرشي - كان طالبا بالنسة النهائية كلية الهندسة
ثم تصاعدت وتيرة الأحداث وبدأ المرجل يغلي بالفعل وفي يوم 21/10/1964 تحدى طلاب جامعة الخرطوم السلطة فعقدوا ندوتهم الشهرية بمبنى اتحاد الطلاب لمواصلة مناقشة مشكلة الجنوب فما كان من قوات الأمن إلا أن تدخلت مستخدمة الذخيرة الحية لفض الندوة بالقوة فسقط جراء ذلك إثنين من الطلاب صرعى هما أحمد القرشي و بابكر عبد الحفيظ وجرح العشرات وعلى إثر ذلك تقدم الأساتذة السودانيون في هيئة التدريس باستقالات جماعية معلنة أن لا عودة إلا بعد زوال نظام الحكم العسكري .....
جماهير الشعب السوداني تحمل جثمان الشهيد أحمد القرشي
وشهد يوم 22/10/64م تجمع الجماهير السودانية في الخرطوم لحمل جثمان الطالب أحمد القرشي من مستشفى الخرطوم للصلاة عليه ونقله إلى مسقط رأسه حيث تحول هذا التجمع فيما بعد إلى مظاهرات عارمة اندلعت في العاصمة وشملت كل مدن السودان فيما بعد وأعلنت اللجنة المنسقة للثورة الشعبية العصيان المدني الذي شل حركة البلاد بأكملها فأعلن الرئيس إبراهيم عبود في 26/10/64م حل أعمدة السلطة آنذاك وهي المجلس العسكري ومجلس الوزراء والمجلس المركزي وبتاريخ 27/10/64 تكللت المفاوضات التي جرت تحت قبة الإمام المهدي عليه السلام بين كبار ضباط الجيش وممثلي الأحزاب السودانية بالاتفاق على تكوين حكومة انتقالية مدنية ، عرفت فيما بعد بحكومة سر الختم الخليفة الأولى التي أعلنت يوم 30/10/1964م لكن سرعان ما جرى حل هذه الحكومة بعد مجزرة القصر الجمهوري التي نسبب بها أحد ضباط الجيش من أعضاء مجلس الثورة المنحل وأودت بحياة 36 من المتظاهرين المطالبين باستقالة عبود وأعقبها مجيء سر الختم الخليفة بما عرف لاحقا في التاريخ السياسي السوداني بـحكومة (جبهة الهيئات) ... وسميت بذلك كونها قد ضمت ممثل للعمال وممثل للمزارعين وممثل لكل حزب من الأحزاب الرئيسية وهي حزب الامة ، الوطني الاتحادي ، الأخوان المسلمين ، الشيوعي ، الشعب الديمقراطي بالإضافة إلى ثلاثة ممثلين للجنوب .. لكن سرعان ما دب الخلاف بين هؤلاء ليعلن سر الختم الخليفة حل هذه الحكومة وأعقبها بتشكيل ثالثة تنحى في ظلها الرئيس عبود عن سلطاته بشكل نهائي ثم أعقب ذلك حكومة رابعة أيضا برئاسة سر الختم الخليفة ولم تستقر الأوضاع السياسية في السودان إلا بعد 25/4/1965م إثر إعلان نتائج الانتخابات الديمقراطية التي فاز فيها حزب الأمة بخمسة وسبعين مقعدا وتلاه الحزب الوطني الاتحادي بعدد 54 مقعدا وتقاسمت بقية الأحزاب المقاعد بأعداد ضئيلة حيث أحرز الأخوان المسلمين 5 مقاعد والحزب الشيوعي 11 مقعد ...... ولكن السودان لم يهنأ طويلا بديمقراطيته تلك فكان إنقلاب العقيد وقتها جعفر نميري صبيحة 25/5/1969 محمولا على اكتاف تحالف تنظيم لضباط أحرار في الجيش مع يساري القوميين العرب والشيوعيون ليدخل السودان مرة أخرى في دوامة من الصراع انتهت هي الأخرى بانتفاضة شعبية للمرة الثانية على السلطة العسكرية في أبريل من عام 1985م
التعليقات (0)