الثورة هي ثورة شباب مصر. شباب بجنسيه, منظم إليهم ومؤيد لهم كل الشرفاء من كل الأعمار.التحق بهم ووقف معهم بصدق شرفاء القضاة والمحامين, شرفاء الأطباء, والصحفيين, والمدرسين, شرفاء الموظفين, شرفاء النقابيين, وأعضاء من أحزاب متعددة بصفتهم الشخصية. وقف معهم شعب بكامله, بمسلميه ومسيحييه.
البلطجة هنا هي بلطجة النظام الفاسد المستبد. بلطجة محترفو السياسة. بلطجة بعض"المعارضة" الحزبية المفلسة. بلطجة الدكتاتوريات العربية. بلطجة السياسات الغربية. بلطجة متوحشة أو "ناعمة", أو "حضارية" الوجه واللسان. فالبلطجة واحدة, بمعناها الواسع ونتائجها, وان اختلفت أساليبها وتسمياتها. وليسمح لنا الإخوة المصريين بان نستعير منهم مصطلحهم المحلي "البلطجة" بما استطعنا فهمه .
ـ في بلطجة النظام المستبد:
حين دخل محمد البوعزيزي السجل الذهبي للتاريخ بحروف من نور, اخرج الشعب التونسي زين العابدين بن علي ونظامه الدكتاتوري من هذا التاريخ ليضعه في مكانه الطبيعي, مزبلة هذا التاريخ.
وفي الوقت الذي يدخل فيه شباب مصر التاريخ دخول الأبطال ببطولات القرن الواحد والعشرين يلقون إلى مزبلته دكتاتورية عمرها أكثر من 30 عاما بكل رموزها ومفاهيمها. مزبلة مفتوحة لاستقبال المزيد المزيد.
اليوم ولأول مرة في تاريخه يُكتب التاريخ كتابة صحيحة صادقة. يُكتب بدماء الشعوب و أقلام مؤرخيها دون تحريف أو تزييف. تُفتح فيه صفحات ناصعة صادقة, وتطوى منه صفحات صفراء فاسدة. لم يعد يشبه اليوم البارحة في شيء. اليوم له قيمه ومفاهيمه ورؤاه. والبارحة تبقى البارحة, لا يمكنها أن تصبح حاضرا أو مستقبلا. اليوم هو للشباب فهم الحاضر والمستقبل. والبارحة انتهت فيها عقود من الظلام وأنظمة الظلام.
بلطجة النظام الاستبدادي المصري المترنح تريد إيقاف مسيرة التاريخ. تريد أن تُبقى البارحة. أن يبقى الشعب في الماضي. الماضي الذي رسمت معالمهم وامتصت فيه دماء الشعب وسيطرت على أرزاق أبنائه, وهدرت كرامتهم الإنسانية. البارحة هو نظام الاستبداد الذي لا يعترف بالحاضر ولا المستقبل.
نظام يقوم على رأسه دكتاتور يريد تكريس نفسه زعيما للبارحة وللحاضر والمستقبل. زعيم الى الممات يورث زعامته لابنه قبل دنو الأجل بأيام معدودات أو بعده بوصية تصبح دستورية. يعتبر حقه في ذلك حق شخصي غير منازع فيه. يريد بناء أسرة حاكمة على غرار الأسر الفرعونية في سحيق التاريخ, الأسر الفرعونية تركت لمصر أهرامات وآثار تدر على البلد مئات الملايين من الدولارات سنويا. فهل ستترك أسرة الرئيس ( تقدر التقارير الأجنبية بأنها أصبحت من أغنى أغنياء العالم) والأسر المرتبطة بها موارد وثروات في مصر لمصر؟. على هذا تُرتب الأمور في مصر العظيمة ذات الثمانين مليون. ولأجله يلغي الدكتاتور الدولة ليكرس نفسه دولة.
نظام عماه غروره عن رؤية الواقع والزمن ومتطلباته. قرأ دوما سطح هذا الواقع ولم يدرك أعماقه ليقرأه صحيحا. وبعد أن هزته عنيفا ثورة الشباب استمر في قراءة السطح, ولم ينفذ إلى الأعماق المستعصي فهمها عليه بحكم تركيبه وتكوينه وبعده عن العيش في هذا الواقع , وعن فهم زمنه ومعطياته. فرا د أن يكون في الوقت نفسه الماضي والحاضر والمستقبل متغلبا على الزمن وعوامله وعواديه بصبغ شعر الرأس, وليس بعصرنة ما هو داخل الرأس.
نظام استعمل البلطجة المتوحشة ضد شبابه بأساليب مضحكة بزجه في معركته خيولا وجمالا وبغالا وحميرا لا يختلف عنها في شيء راكبوها ومرسلوها. وحشد بلطجيته ورجال أمنه ومخبريه ومرتزقته وأعضاء حزبه, مسلحين بالرصاص الحي والسلاح الأبيض, بما فيها السيوف المهندة, والقنابل المسيلة للدموع والحجارة وخراطيم المياه.. واستخدم سياراته المصفحة لترويع المعتصمين ودهسهم علنا أمام من تبقى في الميدان من إعلاميين شرفاء وكميراتهم.
نظام استعمل إلى جانب تلك البلطجة الوحشية البلطجة " الناعمة" , إن صح التعبير, فحاول التظاهر بقبول بعض مطالب الثائرين من إصلاحات وتسليم سلس للسلطة بإبقاء رأس السلطة في السلطة إلى يوم انتهاء ولايته, لأنه لا يجوز إهانة مصر بتنحية رئيس مصر ومالكها. بإعادة تركيب وزارته وتطعيم الوزراء بوزراء غير "محرقوين" تماما بعد. وكانّ ملايين شباب مصر الثائرة خرجت للشوارع والساحات وقدمت مئات الشهداء والجرحى, إلى اليوم, لتغير وزارة أو تعديلها.
بلطجة من رئيس مهزوز, يريد أن يظهر ثابتا, بعدم اعتبار جرائم أعوانه, في خطابه الأخير, بلطجة يتطلب الاعتذار عنها بكلمة عزاء واحدة لأهالي هؤلاء أو التلويح, ولو خداعا, بمعاقبة المجرمين من رجاله "مؤيديه" ومحبيه المزعومين. أعقبتها بلطجة ناعمة بتسويق تاريخه المشرف في الحرب والسلم وخدمة مصر. تاريخ لم يذكر فيه بكلمة واحدة مسؤوليته, كرئيس نظام مستبد, عن القمع وانتهاك حريات الملايين والاعتداء على حياتهم, ونهب ثروات الوطن والمال العام. ودفع الملايين للسكن أحياء في المقابر, يقابله تكديس الملايين في جيوب أبناءه وعائلته وأقربائه وأنسابه, وأزلامه وبطانته. وخلق رجال أعمال أعمالهم الأساسية سلب ثروات الدولة. لم يذكر إبعاد شعب كامل عن السياسة, ولا عن كيفية تعيين أعضاء مجلس الشعب بانتخابات مزورة علنا وأمام سمع وبصر العالم جميعا. وعن تشكيله وإدارته لحزب مهمته التصفيق ولعب دور رجال الأمن والمخابرات, ليس دفاعا عن الوطن وإنما قمعا للمواطنين الشرفاء. لم يذكر إلى أين أوصل في عهده الطويل. لم يذكر انهيار مستوى التعليم والأدب والثقافة. لم يذكر إفساد أجيال و تربيتها على الخنوع وعبادة الدكتاتور. لم يذكر كلمة عن إفساد النقابات المهنية وإدخالها في حزبه السياسي وفي أجهزة مخابراته.. لم يتحدث عن ربطه لمصر بالسياسة والمصالح الأمريكية. لم يذكر الخدمات التي قدمها لإسرائيل على حساب مصر والعرب. لم يذكر إنهائه الدور المصري لمصر العظيمة في الساحة العربية والإفريقية والعالمية, حتى باتت دويلات لا يتعدى عدد سكانها مدينة مصرية من الحجم المتوسط تلعب دورا في الساحة الدولية اكبر من دور مصر بعظمتها وعظمة تاريخها وجغرافيتها.
أليس هذا الغيظ من الفيض نتيجة للممارسة نظامه ,خلال عقود, أساليب البلطجة الوحشية بكل وسائلها, والناعمة بكل خدعها؟. هل لا يدخل هذا في تاريخ الرئيس المدعي بخدمة مصر وشعب مصر طيلة فترة رئاسته؟ هل يريد أن لا يرى الشعب من تاريخ الرئيس إلا ما يريد الرئيس لهم رؤيته؟.
ـ في بلطجة محترفو السياسة وبعض أحزاب "المعارضة"
محترفو السياسة من شخصيات أمضت جل عمرها في الأعيب السياسية بثقافة الغاية تبرر الواسطة والانتهازية وبيع الضمير والكرامة من اجل المصلحة الشخصية. وأحزاب "معارضة" لم يسمع احد بها وأخرى لها تسميات وطنية أو قومية أو اسلاموية عريقة النشأة, احترفت طيلة تاريخها صياغة الشعارات والتلاعب بآمال الجماهير وأمانيها, واللعب على التحالفات مع النظام المستبد وحزبه الحاكم. قبلت أن تلعب دور المضلل للشعب, وتحولت في مراحل كثيرة في "نضالها" إلى أدوات طيعة في تثبيت الحكم وإضفاء المشروعية على طغيانه. وكثير منها قبل لعب دور المنسق مع أجهزة أمن النظام ومخابراته. لقاء الحصول على مقاعد نيابية أو وظائف تنفيذية ولو هامشية.
هذه الشخصيات والأحزاب تسللت لاحقا إلى صفوف ثورة الشباب والى مظاهراتهم بأساليبها , وبعد حسابات الربح والخسارة, كانت وما زالت تبني مواقفها على مواقف القوى الخارجية والتوازنات الداخلية, وتغيرها سريعا بتغير تلك المواقف أو تبدل تلك التوازنات. تنتقد تارة بلطجة أعوان النظام, وتبررها أحيانا أخرى. تدعو إلى إنهاء التظاهر والاحتجاج حين تتناقص تجمعات المطالبين بإسقاط راس النظام, و تساير مطالبهم حين تزداد أعدادهم لتصل الملايين. بكت بدموع التماسيح مدعية التأثر بالجانب العاطفي في الخطاب الأخير لمبارك, مبررة له تاريخه وخدماته لمصر, معتبرة حسناته تفوق كثيرا سيئاته, وتعود عن البكاء بعد حرجها أمام أساليب النظام البلطجية اللاأخلاقية لإنهاء حالة الاحتجاجات والاعتصام. حاولت وتحاول كلما لمست نوعا من الضعف في موقف الشباب تبييض هذا الزعيم وذلك المطروح نائبا أو خليفة أو رئيس نظيف للوزراء, ووزرائه الطاهرين المتربين في مدرسة طهر النظام خلال عقود طويلة. تروج لانتقال سلس لسلطة يُبقي في السلطة كل أزلامها, ويبقي منهج السلطة ومفاهيمها, ويفرغ مطالب الثائرين من محتواها. تطرح نفسها مفاوضا باسم لجان عقلاء وحكماء وتلعب دور أم العريس. تتحدث باسم الشباب وحركتهم وتقدم النصائح دون إرادة أو حتى علم هؤلاء الشباب. تتفرد بطرح مخارج لرحيل الرئيس على حساب مطالب الثوار بمحاكمته, فيرفضها الرئيس تطبيقا للقول المعروف ويرضى القتيل ولا يرضى القاتل.تحاول تسجيل مواقف هنا وأخرى هناك.
معارضة ترى في حساباتها الأخيرة أن مصالحها الفعلية هي في بقاء النظام الحالي مع تعديلات تعطيها مكاسب معينة, وليس في نجاح الثورة التي تلقيها مع النظام المستبد ومفاهيمه وأساليبه في مزبلة التاريخ. أليس هذا النوع من المعارضة "بلطجة ناعمة" لا تتورع عن الانتقال إلى بلطجة متوحشة أن اقتضت مصالحها ذلك؟.
هل ستوقف البلطجة الثورة ؟. في صمود شباب مصر الجواب كل الجواب. في صمود شباب مصر إسقاط الاستبداد في العالم العربي كل العالم العربي.
د. هايل نصر
التعليقات (0)