ثورة تعود لأصحابها...التأريخ و الحقائق
قراءة في الثورة الايرانية
(5 ـ 6)
نزار جاف
لقد کانت لعملية إجراء اول إنتخابات لرئيس الجمهورية في إيران من بعد إسقاط نظام الشاه أهمية إستثنائية خاصة على مختلف الاصعدة، إذ ان الامر کان محط إهتمام معظم أفراد الشعب الايراني، مثلما کان محور إهتمام خاص لدول المنطقة و العالم، حيث کان الجميع يتطلعون الى تطورات الاوضاع و تداعياتها في إيران لکي تتضح لهم الصورة نوعا ما.
وقد کان التصويت على الدستور الايراني الجديد الذي تمت صياغته في ضوء نظرية ولاية الفقيه الذي سعى الخميني بکل مابوسعه من أجل جعله القانون و المعيار الاساسي و الوحيد للثورة، والذي أجري و بقصد واضح في فترة فوران و إنفعال و طغيان الاحاسيس لدى مختلف شرائح الشعب الايراني، فرصة مهمة لم يدعها الخميني تذهب هبائا ومن دون سدى، خصوصا وان الخميني کان يعلم علم اليقين أنه لو لم يبادر الى جعل مبدأ ولاية الفقيه أمرا واقعا و مفروضا على الجميع، فإن الإقرار بذلك المبدأ و جعله شرعة في الحياة السياسية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الفکرية الايرانية لم يکن في الامکان إطلاقا بعد مضي متسع من الوقت على ذلك، سيما لو کانت هناك فرصة مناسبة(لم يسمح بها الخميني) لفتح عيون و أذهان الشعب على حقيقة هذا المبدأ و تأثيراته المستقبلية على الشعب الايراني(وهو امر سعت إليه منظمة مجاهدي خلق بشکل خاص و مکثف).
الامور کانت تمر بسرعة، ليس على سياق او جانب واحد، وانما على مختلف الاصعدة، الدستور تم سنه و إقراره بسرعة قياسية، انتخابات رئاسة الجمهورية هي الاخرى لم يکن هنالك أي تأن او ابطاء محدد فيها وانما جرت في غضون فترة قياسية. التصفيات و الاعدامات لکل من کان مواليا للنظام السابق او کان يشتبه به انه کذلك، جرت بصورة أبسط مايقال عنها إنها ليست لم تکن قانونية بل وحتى إفتقدت البعد الانساني خصوصا حينما نعيد الى الاذهان المحاکمات الصورية و الغريبة لخلخالي والحق ان الخميني لم يرغب أبدا أن تجرى تلك المحاکمات أمام عدسات الصحافيين و وسائل الاعلام، لأن نشر الجزئيات و التفاصيل المتعلقة بتلك المحاکمات کانت لها أضرارا من جانبين، لأنه کان يغل يدي النظام الحالي من تکرار جرائم النظام السابق ويجعله تحت طائلة المحاسبة والضرر الثاني وهو الاهم أنه"أي الخميني"کان يتوجس ريبة من ان نشر تفاصيل هذه المحاکمات سوف تفضح خلفيات الاسرار و العلاقات الحميمة التي کانت تربط بين بعضا من رجال الدين"من العيار الثقيل"الذين کانوا ضمن الترکيبة الحاکمة في تيار الخميني وبين جهاز الامن السابق"السافاك".
تصفية الحسابات مع القوى السياسية الايرانية و تحديد الموقف منها، تمت أيضا بسرعة ولم يکن هناك مجالا للتريث و التمهل لأن الخميني و رجال الدين الدائرين في فلکه کانوا "يعتقدون" بأن مقصلتهم لو لم تکن حادة و فعالة و دائمة الحرکة، فإن حبال أعدائهم ستکون أسرع لکي تلف حول رقابهم، من هنا فإن السرعة و خفة الحرکة کانا مطلوبين على الرغم من ان الاوضاع الداخلية کانت بصورة او اخرى تشهد حالة ضبابية و غير مستقرة، لکن الخميني و أتباعه تيقنوا من أن إستغلال هکذا فترة سيکون الافضل و الاجدى لمستقبلهم السياسي ومن هنا فقد أعدوا عدتهم لذلك ومضوا قدما في مشروعهم الاستبدادي التسلطي المتخفي تحت ستار الدين.
"الاستبداد تحت ستار الدين"، قول للطالقاني و قد کرره مسعود رجوي و أکد عليه لأهميته و خصوصيته سيما عندما يطلقه رجل دين ذو مکانة و منزلة خاصة جدا لدى عموم الشعب الايراني، والحق ان رجوي عندما يلجأ لهکذا إستعارات بليغة و ذات طابع"إفحامي بحت لفلسفة و فکر النظام الديني القائم"، فإنه في الواقع يقوم بجس مواضع الالم او مسك اليد من حيث يکون الوجع على أشده، ولم يکن مسعود رجوي بتلك الشخصية السياسية البسيطة و العادية التي يمکن للخميني العبور عليها بسهولة وانما کان يمثل رقما صعبا و مهما على الساحة السياسية الايرانية و بين الشرائح المختلفة من أبناء الشعب الايراني، ومن هنا فلم يکن سهلا الاصطدام السريع به و إقصائه او تصفيته بصورة إرتجالية، إذ يبدو ان الخميني کان على قناعة من ان هذا المکافح و المقارع العنيد ضد نظام الشاه، يمتلك من الرصيد الشعبي مايجعل أمر إقصائه السريع في غير صالحه ومن هنا سعى الى إحتوائه و إرضائه بشتى الطرق و الاساليب، لکن الرجل الذي لم تتمکن صلافة و صفاقة جلادي إيفين من تغيير او حتى مجرد تليين مواقفه، لم يکن من الهين أبدا وهو حر و على رأس أبرز منظمة سياسية إيرانية مکافحة تمتلك قاعدة جماهيرية عريضة، أن يساوم و يتفاوض على المبادئ و الخطوط العريضة التي راهن بحياته من أجلها، لکنه وفي نفس الوقت سعى بکل جهده من أجل معالجة الاوضاع و الموقف بصورة سلمية او حتى توافقية"في بعض الاحيان" تضمن للشعب الايراني عدم إراقة الدماء و الفوضى. وعندما تم ترشيح رجل الدين البارز آية الله الطالقاني لمنصب رئيس الجمهورية، فإن هذا الترشيح کان يعتبر في وقته واحد من اقوى المناورات السياسية التي قام بها مسعود رجوي ضد النظام الى الحد الذي يمکن القول انه قد وضع الخميني في زاوية حرجة، ويمکن ان تکون هذه المناورة بالاضافة الى عوامل أخرى، عاملا حاسما في دفع الخميني و دائرة رجال الدين التابعة له، في وضع رجوي على رأس أعداء النظام. وبعد الوفاة المفاجئة للطالقاني و ماأتاحه ذلك للخميني و رجال الدين الذين کانوا مهيمنين على الاوضاع من فرصة کبيرة کي يستحوذوا على هذا المنصب المهم، جائت المفاجأة الکبيرة لمنظمة مجاهدي خلق عندما أعلنت ترشيحها لمسعود رجوي لمنصب رئيس الجمهورية، ذلك الترشيح الذي بث القلق و التوجس و الحيرة بين الخميني و أتباعه ودفعتهم الى الاسراع في إبداء موقف سياسي بالغ التسرع و حتى غير قانوني و منطقي، حينما أعلن الخميني عن إلغاء ترشيح رجوي بتبرير واه و غير مقبول و معقول، لکن موقفه هذا کان أمر لامناص منه إذ لم يکن هناك من خيار آخر أفضل من ذلك أمام الخميني، والحقيقة أن عملية ترشيح مسعود رجوي لمنصب رئيس الجمهورية کان بحد ذاته وضع مستقبل الخميني و تياره الديني على کف عفريت، ذلك ان حظ نجاح رجوي کان متوقعا و مضمونا بسبب من شعبية زعيم منظمة مجاهدي خلق و ماضيه الوطني الناصع في مقارعة الشاه، وان وصول رجوي الى ذلك المنصب کان يعني مشوار جديد من مواجهة سياسية غير عادية بين التيار الديني وبين تيار مجاهدي خلق، وبعبارة أخرى کان تسلم رجوي لمنصب رئيس الجمهورية جعل الصراع بين هذين التيارين الرئيسيين في الثورة الايرانية على المحك، وکان واضحا ان التيار الديني المتشدد لم يرغب في خوض صراع غير مضمون النتائج خصوصا وان خصمه(يعلم من أين يؤکل الکتف) ولو نظرنا الى الاسلوب الذي إتبعه الحکم الايراني مع عملية ترشيح حسين الموسوي"الذي کان بالاساس أحد رجاله"، ومارافقت عملية الانتخابات من شکوك و توجسات أشعلت الشارع الايراني، لتأکدنا بأن نظام ولاية الفقيه ليس عليه سهلا ابدا تقبل أي وجه يعارض ولو بمقدار محدد"کحسين الموسوي مثلا"، فکيف به تقبل وجها يعارض أصله و اساسه الفکري کمسعود رجوي؟ وان الخيارات التي يتبعها النظام مع مخالفيه في هکذا حالات واضح أنها متباينة لکنها تصب في النهاية في مفترق واحد وهو منع أي معارض من الصعود الى منصة السلطة وان الذي جرى بالامس مع رجوي عند حذف اسمه من جانب الخميني يؤکد زيف و کذب الديمقراطية التي يدعيها النظام و يؤکد في نفس الوقت صدق المزاعم التي أثارتها منظمة مجاهدي خلق ضد الاصل الاستبدادي لهذا النظام. وان رجوي ذلك السياسي الايراني الغني عن التعريف و المشهور بفصاحته ولين عريکته و قوة حججه في المناقشة و المحاججة، لم يکن من الهين أبدا على الخميني و تياره المتشدد إفساح المجال لهکذا فرصة تأريخية له کي يطرح للشعب و بکل وضوح برنامجه السياسي ـ الفکري، وقطعا ان رجلا يعرف"بضم الياء و بتشديد الراء" الصراع على أنه(علم التغيير السياسي و الاجتماعي) وان هذا العلم(بحاجة لأفراد مختصين و محترفين کي يصل الى هدفه المحدد)، ويحترف الفکر و التنظير السياسي وعندما يخاطب أنصاره و أعضاء المنظمة، أو يوجه خطابا للشعب الايراني، فإن اسلوبه الشيق الحافل بالتحشية و التضمين و إيراد الامثلة و القرائن التأريخية و الفکرية و الفلسفية تجذب المستمع و المتلقي إليه بصورة غير عادية، ومن أجل هذا فإن رجوي لم يکن مرغوبا فيه من جانب التيار الديني، لکن الامر الاهم والذي کان يثير حفيظة هذا التيار من طروحات و أفکار و تنظيرات رجوي، هو تأکيده المستمر و الحازم على مسألة الحرية إذ جعلها قطب الرحى و المحور الاساسي الذي تدور و تتجمع حوله المبادئ و الافکار الاخرى لمنظمة مجاهدي خلق، وحتى ان قادة حزب توده قد ابدوا تبرمهم من تأکيد رجوي المستمر على الحرية و طالبوه بأن يکف عن التمسك بالحرية و يصرف همه للإهتمام بمقارعة (الامبريالية) التي(يتصدى لها الخميني)، بيد ان رجوي ظل متمسکا بالحرية وإعتبارها معيارا اساسيا في عملية النضال و الکفاح السياسي من أجل مستقبل أفضل للشعب الايراني. عليه، فإن الخميني کان يدرك و يعي جيدا و مسبقا مافي جعبة رجوي من مفاجئات غير متوقعة و منتظرة خصوصا من حيث إجراء تغييرات غير تلك التي هو قد قام بها على أساس ديني بحت، وهي قطعا تغييرات ستطال البنيان المتزمت و الاستبدادي الذي أقامه على أنقاض نظام الشاه، خصوصا وان رجوي کان يحلم بنظام سياسي حر ينعم فيه الشعب بالحرية ولم يکن يرغب بأن يتم تبديل"إستبداد الملکية"بأخرى مختلفة معها في الشکل لکنها متشابهة و متطابقة معها في المضمون وهو"الاستبداد الديني"، ولم يکن رجوي يمارس نوعا من المناورة و القفز على الحقائق عندما کان يرفض الاقرار بدستور ولاية الفقيه، ذلك أنه کان يعي جيدا ان إعترافه بذلك الدستور المبني على نظرية دينية إستبدادية، يعني أن يعلن أمام الملأ إلغاء المرتکز الاساسي الذي شيدت المنظمة بنيانها الفکري و الجهادي عليها و الانضواء ضمن بوتقة سياسية دفعت المنظمة دمائا و ضحايا لاتحصى من أجل إلغائها و مسحها من الخارطة السياسية الايرانية.
ان التمعن في المشهد الايراني الحالي و الازمة الخانقة التي يعيشها النظام الديني والتي تتعلق قبل کل شئ بنظرية ولاية الفقيه الاستبدادية التي باتت قطاعات عريضة جدا من الشارع الايراني تتبرم منها و تعلن بصراحة رفضها الصريح لها، وهو امر بدت أوضح معالمه و اجلاها عندما تم تمزيق صور للخميني ذاته(رمز و مؤسس نظام ولاية الفقيه) وصورا للخامنئي ناهيك عن کتابة شعارات تندد و بشکل صريح بولاية الفقيه و تطالب بإنهاء العمل بها، هذا المشهد، بکل تفاصيله و الوانه، يعيد مرة أخرى مسعود رجوي الى الصورة إذ أنه کما سبق وان أشرنا لأکثر من مرة کان من أشد المنتقدين الرافضين لهذه النظرية بل وانه دفع ثمنا باهضا من أجل ثباته على موقفه هذا، وعلى الرغم من کل ذلك الرکام الاعلامي"المفبرك"الذي صنعه النظام ضد رجوي و لاحقه بها حتى في الغرب، فإن هذا الرجل ظل متمسکا بموقفه المبدئي و سعى لتوعية و تنبيه الشعب الايراني من سوء و وخامة هذه النظرية وانها اساسا لاتختلف بشئ عن دکتاتورية النظام السابق ان لم تتفوق عليه.
الحق، ان مشکلة التيار الديني الذي کان يتزعمه الخميني مع منظمة مجاهدي خلق کانت أکثر من عويصة، إذ أنهم بالاضافة الى کونهم أصحاب الثورة و وقودها و شرارتها، إنهم کانوا بمثابة مدرسة فکرية ـ سياسية لها جذورها القوية في الواقع الايراني، وان زعيم المنظمة مسعود رجوي، کان هو الآخر منظرا فکريا يسعى لطرح مواقف و آراء ذات أبعاد فلسفية تداف فيها مختلف الشؤون الدينية و الدنيوية و کان"ومافتأ دونما کلل"يحلل و يفسر الاوضاع السياسية و الفکرية للتيار الديني بذهنية ثاقبة و يطرح وجهات نظر عميقة في معانيها و شاملة في مدلولاتها يتم خلالها الربط بصورة محکمة بين مجريات الاحداث و تداعياتها و خلفياتها التأريخية و الاحتمالات المستقبلية، ومن دون شك، فإن الخميني الذي کان قد وضع حجر اساس نظام ولاية الفقيه عندما تم التصويت على الدستور، لم يکن بحاجة أبدا الى خصم من نوع و حجم مجاهدي خلق و زعيمهم مسعود رجوي ولذلك فإن حذف الخميني لأسم مسعود رجوي مستخدما صلاحيته المطلقة وهو إجراء لم يتخذه سوى بحق شخص آخر هو نائبه آية الله المنتظري(الذي کان سبب إقصائه شجبه للتصفيات و الاعدامات الجماعية لأعضاء مجاهدي خلق)، مما له مدلولاته الخاصة و القوية من حيث منح إعتبار مميز لرجوي و معاملته على أساس خصم غير عادي وهو في حد ذاته کان تأکيدا من نوع خاص على خطورة هذا الرجل على النظام السياسي الذي شيده الخميني على أساس ديني يغلب عليه طابع الاستبداد و الدکتاتورية المطلقة، ويمکن تفهم تخوف و توجس الخميني و رجال الدين التابعين له من مسعود رجوي من زاوية مهمة أخرى تتحدد في انه يقوم بعملية ربط هادئة بين الفلسفة و الدين و السياسة و الاوضاع الايرانية وعلى أساس من التحليل و الاستنتاجات المترشحة من عملية الربط تلك يقوم بالتصدي للمشاکل و الازمات القائمة في الواقع السياسي ـ الفکري الايراني وللحديث صلة.
التعليقات (0)