ثورة القصيدة
عبد الوهاب الملوح
’’يجب على الكاتب أن يكتب بدمِه ’’ ماكس جاكوب من مقدمة كوب الزار 1916
لكأن الشعر لم يكن يوما في صف النضال والمقاومة ؛ لكأن الشعر ينزل لأول مرة بين الناس ؛يصدر عن همومهم يقول الشارع يجلس في المحطات ويصغي لتنهدات المتعبين؛ ويخرج من غضب المقهورين ؛يرفع رايات المقاومة ويتقدم ضمن الخط الأول للمواجهة ويهتف بالحرية وينكتب بالدم !
لا يقف عند مفترق الطرق ؛ يذهب مباشرة للحياة ؛ الحياة مرفوعة الرأس الحياة دون مزية لأحد ..
لكأن الشعر يستفيق الآن فقط يضع قبعة جيفارا ولحية ماركس وسيف الخوارج ويخرج مقاتلا في الصالات العمومية التي فتحت أبوابها وأعدَّت ساحات الوغي فيها ليأتي شعراء ’’ما بعد الثورة ’’ يأتون أحزابا ويأتون كراسي ويأتون باعة كلام وتأتي القصائد معهم أشبه بتقارير الطب الجنائي الشرعي ؛ أشبه بلائحات اتهام أهملها القضاء ؛ أشبه ببكائيات جنائز مرت بلا مشيعين ؛ قصائد منضبطة تعرف كيف تفلت من قناصة الفراهيدي وهي تخوض بحورا بلا مد ولا جزر ماتت أسماكها وانتصبت أمواجها أوتادا وأعجازا خاوية .سوف يباشر كل شاعر مهامه كوصي على الثورة والحرية ويقرأ وصيته كشهيد أخطأته رصاصة قناص وهمي وسيتلو قصيدته بشكل درامي تراجيدي مستندا على عكازة صنعها من مفردات القاموس الثوري من قبيل :الدم والشهيد والحرية والنضال والكرامة والعدالة والرصاص والمظاهرات والشعارات فيخبط الهواء بذراعيه طورا وكأن العدو أمامه يصرخ يصعد ويهبط طورا أخر يضرب الأرض بقدميه وكأنه يستنهض من مات وتخلف عن حفل تخرجه من ورشة الاحتراف الثوري فالثورة حرفة وباب رزق وثراء أيضا ..يتوالى الشعراء على المنصة فيستعيد الأول ما ردده الأخير و في النهاية شكر الله مسعاكم وإلى اللقاء في الثورة القادمة هكذا لن يُسدل الستار على مسرحية هزلية تتكرر كل ما كان ثمة غنيمة وكان هناك دعوة مشبوهة إليها والوليمة هذه المرة الشعر الثوري الذي لا وجود له إلا بعد انتهاء الثورات طبعا حسب مزاعم الذين يتسلقون أكتاف من سقطوا في الشوارع ويقفزون على اللغة مستثمرين مهاراتهم في تشكيل استعارات بليت ومجازات هي في حقيقتها معابر لتعويض ما فاتهم ..
’’يجب أن نوفر لكل إنسان نصيبه من الخبز ونصيبه من الشعر’’ هذه عبارة قالها ذات يوم واحد من أهم الثوريين في تاريخ الكون انه تروتسكي الذي دفع حياته ثمن إيمانه... تروتسكي الذي نظّر للثورة وآمن بها كحقيقة كونية وليست موضة عابرة وهو هنا لا يفرق بين الخبز والشعر من حيث حاجة الإنسان لهما فالشعرولذا ليس ثمة وقت محدد يأتي فيه الشعرثم يغيب ..لايأتي وقت الشدة فقط ولا يأتي زمن الجوع الجمالي فهو هذا الوقود الحيوي الذي يحتاجه الكائن ليندفع بالحياة نحو ذراها الأعلى بما إنه هذا البحث المستمر عن الجمال وهو هذه المحاولات الدائمة من اجل أقامة أجمل في هذا الوجود ولن تكون هذه الإقامة لائقة إذا لم تكن تكفل للفرد حريته وكرامته وتكفل له إنسانيته...
لقد جرى في وقت ما جدال كبير حول الأدب الملتزم وكان الفيلسوف سارتر من فجر هذا الجدال من خلال تقديمه للمجموعة الشعرية ليوبولد سيدار سنغور وتحدث عن ان الأدب الملتزم هو الأدب الذي يعالج قضايا الإنسانية الحقيقة وفعلا هو كذلك مع إجراء تعديل بسيط إن الأدب هو دائما أدب ملتزم إذا كان أدبا جادا وهو سيكون ملتزما أيضا حين يُطور أدواته الفنية ويثور على أساليبه البالية بحثا عن مصادر جديدة تغذي الجمالية الفنية وتروّيها بمياه ملونة وذلك بالتجريب والبحث عن تقنيات مختلفة للقول الأدبي الفني ولا يركن لما توارثه عن القدامى تلك هي ثورية القصيدة فالأمر متعلق هنا بثورة القصيدة وليست قصيدة الثورة فكل قصيدة هي قصيدة ثائرة إذا ما انشغلت بتثوير أدواتها من الداخل وعملت على الانقلاب على السياقات التي وُضعت فيها وتمردت على القوانين التي فرضت عليها متطلعة للبحث عن موتيفات جمالية متجاوزة منحازة لما يسميه محمود درويش الجمال العمومي هذا الانحياز الذي سيجعل منها دائما في صف الجماهير وبين الناس العاديين تتكلم لغتهم وتقول هواجسهم وتلبي نداءاتهم ولكن بأسلوب شعري يحقق مرقى إبداعي ..
ليس الشعر ما يُلغط به في المنابر للتحريض والتعبئة وتسويق الإيديولوجيات أنه كون ؛ كون ينهض على رؤيا للوجود وكون ينهض على حقيقة جمالية قائمة غير إنها خفية في داخل كل كائن وهي متبعثرة هنا وهناك .. لم يخلِّد التاريخ من الشعر ألا ما كان وفيا لمهمته الأصلية فالقصيدة التي لا تكتب الراهن وتنحاز إلى الجهة المهمَّشة فيه التي يتم إقصاؤها واستبعادها بشتى الوسائل هي قصيدة ضد القصيدة وهي إن لم تبحث عن الجمال في هذا المُهمَّش ؛ تجليه وتتغنى به وترسخه كقيمة أساسية ضمن سلم القيم الإنسانية هي قصيدة ضد الكتابة وهذا لن يكفي فلا بد لهذه القصيدة إن تبحث أيضا في أساليب قولها وأن تغير من طرائق كتابتها انسجاما مع تغيرات هذا الراهن هي قصيدة فاشلة مهما كان تغنيها بالنضالات وأشكال المقاومة أن لم تنقلب على مكوناتها من الداخل وتغامر من اجل أن تكتشف جماليات مختلفة في فنون القول ..
فالتكثيف بما يقتضيه من تقشف في توظيف الاستعارات الموغلة في الإغماض واقتصاد في تكرير اللغة و تنقيتها من الزوائد والشوائب وما يفترضه من أنساق إيقاعية متغايرة في هرمونيتها تتنكب الجرسية الخارجية بما هي نتاج انفعالية زائدة ..
والانسيابية بما تستدعيه من مرونة في معالجة الصور وتحميضها بين مخبر المعرفة وشرفة الحدس لتخلع الفكرة ايهابها الفلسفي وتكشف عن وجهها البراني الذي يراه الكل دونما حاجة لملقط التشريح التحليلي..
الانسيابية والتكثيف من رهانات ثورية الشعرية وهو أيضا ما لن يكفي فالثورية تتطلب الانقلاب المستمر بما هو بحث عن المتجدد والخلاق.
التعليقات (0)