ثورة الفراشة "5" الجزائر فراشة معقّدة ومعادلة ثورية
طيلة تسعة أشهر خلت، ومنذ بدأ الشعب التونسي عزف سيمفونيته الثورية على إيقاع المايسترو البوعزيزي (المغفور له إن شاء الله) تابعتُ عن كثب كما تابع الكثيرون مثلي ترددات الثورة التي مازلت أصرّ على تسميتها بثورة الفراشة، وليس إصراري هذا نابعاً عن تزمت اصطلاحي، وإنما إيماناً بما لرفرفة فراشة هنا من نتائج إعصارية هناك.
ما حدث خلال هذه الأشهر القليلة من ثورات لشعوب عربية وتداعيات إقليمية وتطورات عالمية ناهيك عن النتائج القادمة يناهز عندي التراكم الثوري بمدلولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية لما يفوق القرنين من الزمن، أي منذ الثورة الفرنسية وإلى يومنا هذا.
هذا الزخم التفاعلي يستوجب محاولة إستيعاب اللحظة بجميع أبعادها اجتهاداً في إستشراف القادم من الأيام، وبعيداً عن تنظير جاف أو واقعية جارفة.
لقد تلكأت في متابعتي الكتابة عن ثورة الفراشة العربية شهوراً طوال، فأخّرت الكتابة عن البحرين مع حركتها، وعن الأردن مع غليانه، وعن المغرب مع تجاذباته، وعن الخليج مع مخططاته، وعن السودان مع ما يحاك ضده، وعن سوريا مع نزيفها وظلمة نفقها، جميع الدول المذكورة أعضاء أصيلة في جسد هويتي وأثر ديناميكية كل منها يفرض نفسه على واقع ومستقبل العضو الآخر، إلاّ أني قررت معاودة البدء من المكان الذي أقف عليه والموطن الذي أنتمي إليه فعن الجزائر الشامخة والمجروحة سأتحدث الآن.
تشترك الدول العربية في مقومات متشابهة وأحياناً كثيرة متطابقة تكفي لقيام الثورة فيها، لكن الحديث عن ثورات هذه الدول ومآلاتها يستوجب علينا مراعاة خصوصية كل واحدة منها، وخصوصية الحالة الجزائرية في العامل الأبرز لمعادلتها، وهو التاريخ الثوري لهذا البلد.
التاريخ الثوري:
لم تأتي الفراشة الثورية للجزائر محلِقة من إحدى الدول العربية الثائرة كما هو حال الدول التي رفرفت فيها فراشة الربيع العربي بعد تونس، فالفراشة الثورية لم تبتعد يوماً عن الأجواء الجزائرية أصلا، ولن أغوص في التاريخ الذي أجمع كاتبوه أن شعب هذه المنطقة لم يَخبُر في تاريخه أكثر من الثورة، ولن أبدأ سرداً ثورياً منذ استعمار الإمبراطورية الفرنسية، ثم استيطانها للجزائر لما يفوق القرن والثلاثين عاماً من الزمن تخللته عشرات الثورات المتتالية، ليكتمل عنقود ثورات التحرير بثورة أول نوفمبر من سنة 1954 التي ألهمت العالم، ودحرت المحتل إلى موقعه الخلفي على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، وليُعلن عن الإستقلال رسمياً بتاريخ الخامس من جويلية (يوليو) سنة 1962 وبتكلفةٍ باهظةٍ كان أغلى أثمانها مليون ونصف شهيد، إقتُرن إسم الجزائر بهم وبثورتهم الخالدة وإلى يوم الدين.
بُعيد الإستقلال ومع عظمة الثورة التي جاءت به، ثار جماعة من الثوار على هذه الثورة بحجة تصحيحها، وثارت جماعة أخرى ضد من ثار على الثورة، ليستتب الأمر في الأخير لثوار التصحيح، وبتواطؤ رغبة الجميع في بعض الأمن بعد أن أنهكتهم الثورة التحريرية، باشر التصحيحيون مشروعهم وأطلقوا الثورة الزراعية والثورة الصناعية وساندوا الثورات القومية العربية القائمة آنذاك، ومارس النظام الجزائري ثورات فكرية وميدانية طيلة سنوات طوال.
في ثمانينيات القرن الماضي وبعد عقدين تلت الإستقلال، إستيقظ الشعب على واقعه المرير، مدركاً أن أحلامه بالحاضر الكريم والغد المشرق لم يبقى منها إلاّ السراب، فكفر بكل الثورات التي أعقبت الإستقلال، وأعلن ثورة جديدة إندلعت من بلاد القبائل أوائل العقد الثامن من القرن الماضي، ولم ينته هذا العقد إلاّ بانفجار ثورة جديدة في العاصمة أعلنها الشعب ضد النظام الحاكم، فمارس النظام ثورته المضادة بإغراق البلد في ديمقراطية عارمة لم يعهدها الشعب أو يخبر آلياتها، فأُنشأ أكثر من ستين حزباً في أسبوع واحد، وأعلن أحد هذه الأحزاب الوليدة ثورة دينية السمة، كسحت المشهد بتبني الشعب لها ثائراً في وجه النظام.
لم يستسغ ثوار النظام ثورة الشعب، فثاروا ضده مرة أخرى وألغو نتائج انتخاباته، وفي هذه المرة حمل النظام السلاح ضد ثوار الشعب، ليحمل جزء من الشعب السلاح بدوره ضد النظام، وعند هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الجزائر، اختُرقت الثورة، واختُرق الثوار، واختُرق الشعب والنظام، فبدأت مرحلة الثورات في وجه الثورات، ثار النظام ضد الشعب والمسلحين، وثار المسلحون ضد النظام والشعب، وحاول الشعب أن يثور بدوره ضد النظام والمسلحين ببقائه على قيد الحياة.
نخرت الثورة الأخيرة المواطن الجزائري، فتعدت إدراكه المادي لكسر العظام إلى تخدير نخاع لا وعيه، وذلك بإرهاب كلّف الوطن مئات آلاف القتلى في عشرية سوداء لم تتضح تفاصيلها إلى اليوم، وكأننا غداة الإستقلال عندما نادى الشعب بصوت واحد: سبع سنين بركات (يكفينا) ثورة، فلا نتيجة أكيدة بعد هذه الثورة سوى حقيقة إتفاق جميع الثوار بأطيافهم على الإستراحة في أمان لإلتقاط الأنفاس، تحت عبائة المصالحة الوطنية التي لا يشذ عن تبنيها إلاّ القليل، مع تشكيك الكثيرين إن لم تكن الأغلبية في نجاعة تطبيقها، وقدرتها على أن تكون أساساً لبناء المستقبل المنشود.
من المؤكد أن يُجَادَل حول تعريف الأحداث المتوالية في الجزائر بين إنقلابات وثورات، إنتفاضات شعبية أو حركات إجتماعية، المهم عندي أن الثورة استنفذت أدواتها ومفرداتها في الواقع الجزائري، الإضرابات، الإعتصامات، المسيرات، العصيان المدني، العمل المسلح، الشهداء، بل تم ممارسة كل التفاصيل الثورية التي لا يعيها إلاّ من ناضل على هذا الدرب، السبب الوحيد الذي يبرر هذا النقاش هو عدم قطف الثمار بتغيير جذري للواقع كنتيجة تفرزها الثورة، ونفس السبب أي عدم تحقيق أهداف الثورات الجزائرية بعد الإستقلال مع تواليها، هو ما جعل التاريخ الثوري الجزائري ينتقل لحاضر هذا الوطن، وإن تجاهله الأغبياء لسذاجتهم والعملاء لمصالحهم.
التعليقات (0)