محمد سالم الطالبي
Instance.talbi@gmail.com
ثورة العرب وعورة الغرب
لم يكن يدر في خلد محمد البوعزيزي، ذو 37 ربيعا ، أن لهيب النار الذي لف جسده اليافع، تعبيرا عن غضب وحنق ضد الاهانة التي الحقت به تحت نظام ظالم، ستلهب مشاعر الملايين من بعده وتلهم امل التونسيين في معانقة الحرية، بعد انخراطهم في ثورة تاريخية احرقت ما تبقى من اوراق للديكتاتور زين العابدين بن على، وتجبره بعد ثلاث وعشرين يوما على الهروب ليلا، باحثا عن ملاذه الاخير.
صرخة الغضب التي اطلقها مفجر الانتفاضة التونسية والتي ذكرت العرب جميعا بان الوقت قد حان للتعبير عن ارادة الحياة، ستوقظ الضمير العربي المستتر خلف سور الخوف، لتتدفق الجماهير في الشوارع في موعد مع القدر الذي استجاب ، غير ابهة بالرصاص الحي الذي اخترق الصدور العارية ، مغرقة بذلك أمل الجنرال زين العابدين بن على في البقاء الأبدي في الحكم بعد ان قضى 23 عاما على كرسيه.
كلمات الفهم الكبير التي أتت مترددة على لسانه لم تجد لها اذانا صاغية لدى التونسيين و لم تكن في الحقيقة إلا رسالة احتضار عجلت بموته السياسي.
هكذا استطاع الشعب التونسي أن يحول بلدا رزح لعقود طويلة تحت قبضة الحزب الحاكم، عبر هَبَّة جماهيرية غير مسبوقة، إلى واحة ديمقراطية داخل صحراء التخلف و الاستبداد العربي ليتنفس التونسيون أخيرا هواء الديمقراطية السليم الذي يبشر نسيمه باقي الدول العربية.
إلا أن دليلا مُهِما قاد الى الاقتناع بأن هذا العالم العربي المترامي الأطراف هو في الحقيقة جسد واحد يتنفس هواء الوحدة رغم محاولات الانظمة العربية خنقه بحدود الجغرافيا . فبمجرد ان اشتكى العضو التونسي تداعت باقي الأعضاء بالسهر وحمى التظاهرات التي اجتاحت مساحات واسعة منه ولا تزال.
فما أن أذابت نار محمد البوعزيزي جليد الخوف المتراكم بتونس الخضراء حتى تدفقت سيول بشرية حاشدة إلى ارض الكنانة لتغرق بدورها آمل ديكتاتور آخر، محمد حسني مبارك، في الخلود على كرسي السلطة وتوريثه فيما بعد.
أيام قليلة على طي صفحة بن على السوداء، ستمتد شعلة الانتفاضة عبر شوارع القاهرة لتسقط برأس النظام ، بعد ان تبخرت أوراقه الاخيرة على نار الغضب الجماهيري ، في ثورة قال عنها نعوم تشومسكي، المفكر الأمريكي الشهير: " لم أرى في حياتي ثورة أكثر إبداعا مما فعله المصريين".
واذا كان التونسيين قد بنوا القاهرة سنة 969 م. فهاهم اليوم يعيدون كتابة التاريخ من جديد من خلال تصدير ثورتهم من المغرب العربي نحو عاصمة المُعز في بلاد مصر.
سيدخل محمد البوعزيزي ،إذن، التاريخ من بابه الواسع حين فتح باب التاريخ على مصراعيه أمام ثورات متلاحقة أعادت، في لحظة يأس، الكرامة والعزة الى القاموس العربي الذي عاف أفعال الأمر بالمنكر ومصادر الظلم وقواعد اللاشرعية مذ أن اعتلت أنظمة الجبروت كراسي الحكم وجعلت أعزة أهلنا أذلة ولم تكن يوما من الفالحين.
ثورات العرب الاخيرة ليست كتلك التي ولدت من رحم ايديولوجيات ترى غالبيتها في الجماهير وقودا لنار احتجاجاتها من اجل الوصول الى كرسي السلطة، ومن ثمة مصادرة حق الشعب في المشاركة في القرار وقيادته، على مضد ، وفق تصور فكري مستبد. فالثورات الشعبية العربية سطعت في سماء العالم كله لأن الشعب كان المحرك والوقود في الان نفسه، بحيث قاد باستقلالية عن أي تأثير ايديولوجي قاطرة التغيير وقلب في نهاية المطاف رأس النظام و رؤوس أخرى حاولت الركوب على موجة غضبه العارمة.
ولعل مالم يخطر على بال هؤلاء الطغاة أن رفضهم القبول بقواعد اللعبة الديمقراطية التي يقاس من خلالها مستوى شعبيتهم عبر صناديق الاقتراع، ستقود الى اليوم الذي يجدون فيه انفسهم مجبرين على تجرع مرارة الثورة، حين تتدفق الملايين في استفتاء شعبي ينهي قسريا ولايتهم غير الشرعية. وهذا ما وقع بالفعل.
وإذا كان العالم قد انتظر يائسا أن يبادر الغرب إلى مباركة انتفاضة العرب ضد أنظمتهم المستبدة، انسجاما مع القيم التي ما فتئ يتبجح بها في السر والعلن، ويفتح ابواب النادي الديمقراطي الى وافدين جدد ،إلا أن شيئا من هذا لم يحدث حيث ظل يتابع ما يتوالى من أحداث دون أن تكون له مواقف واضحة تنحاز إلى جانب الشعوب المطالبة بالتحرير وتقرير المصير.
لقد فضحت الانتفاضات العربية نفاق الغرب الذي دعم الديكتاتوريات لعقود، وعمل على تكوين وتقوية اجهزتها الامنية لاقتناعه بكونها الخادم المطيع الذي يرعى مصالحه ومصالح حليفه في المنطقة: اسرائيل.
ولقد راينا كيف حاولت فرنسا والولايات المتحدة التسلل عبر تصريحاتها، الاقرب للتعاطف مع الانظمة المهددة بالسقوط، للتدخل في الشأن الداخلي للدول العربية، التي عرفت الاحتجاجات المطالبة بالتغيير، ليس لتقريع حكوماتها اللاشرعية ودعم الارادة الشعبية وإنما من أجل إخماد فورة الغضب وإنقاذ الانظمة العميلة..
فوزيرة الخارجية الفرنسية عبرت عن ارتياحها وترحيبها بالإجراءات التي اعلنها بن على، عقب التظاهرات المدوية المطالبة برحيله، حين تعهد بإدخال اصلاحات واسعة في محاولة لامتصاص الغضب، وحذت الولايات المتحدة حذوها حين صرحت هيلاري كلينتون، وزيرة خارجيتها ، في مؤتمر صحفي في 25 يناير الماضي، في بداية التظاهرات الشعبية في مصر، أنها " تعتبر أن الحكومة المصرية مستقرة رغم الاحتجاجات التي تدعو إلى تنحي الرئيس المصري حسني مبارك" ، وأنها " تدعم في نفس الوقت الحق الأساسي في التعبير عن النفس والتجمع لجميع الناس"، وحثت جميع الأطراف "على ممارسة ضبط النفس" عوض ان يعبر عن دعم واضح لحركة الشارع المطالب بتغيير نظام الحكم.
تصريحات ملتبسة ومفتوحة على كل التأويلات حيث أنها تصاغ بطريقة ماكرة قصد إرضاء الشارع والنظام على حد سواء.
لنكن واضحين ، فأمريكا يزعجها كثيرا أن ترى مبارك خارج تغطيتها ، لأنه ، وببساطة ،لاعب مهم على رقعتها، فهو من جهة حارس باب العالم العربي الرئيس، الذي تمر عبره سياستها نحو صياغة لشرق اوسط جديد على مقاسها، بمباركته الكاملة، ناهيك عن دوره الأكثر أهمية للغرب بشكل عام، حيث يسهر على حماية إسرائيل من خلال محاصرة غزة ومقاومة تيارات الممانعة.
إن انتفاضة الشعوب العربية لم تسقط انظمة ديكتاتورية فقط بل أسقطت في طريقها ورقة التوت عن عورة الغرب المتحامل والرافض لأي خطوات تغيير وتحرير مخافة أن تهدد هيمنته ونفوذه. لماذا؟ لأن أي حكومة ديمقراطية في العالم العربي لن تجد من طريق آخر سوى الرضوخ إلى مطالب الشارع المناهض أصلا لمشروع الغرب الذي يرى في وجود إسرائيل وتقوية حضورها على رأس اولوياته.
وحتى بعد نجاح الثورة في تونس في إسقاط النظام، لم تبقى الأيادي مكتوفة، بل ظلت تنسج المؤامرات وتعمل في الخفاء على تشويه وجه الثورة المشرق، من خلال الإبقاء على خيوط الاتصال القديمة حتى تضمن مرور رسائل الغرب إلى أصحاب القرار في النظام الجديد؟
عبرة مهمة تلك التي يستشفها المرء وهو يتابع فصول الثورات المتلاحقة، التي تعصف تباعا بالزعماء العرب، فهم لم يروا حرجا في التخلص والتضحية بخدام أنظمتهم، بمجرد استشعارهم للخطر المحذق بمواقعهم، هكذا تحركت مسطرة التوقيفات والاعتقالات وتجميد الارصدة للعديد من مسؤولي الحزب الحاكم.
فبن على ادعى أن مسؤوليه يخفون عنه الحقائق و أقدم على اقالة وزير داخليته . أما حسني مبارك فلم يستسغ الصورة السيئة التي رسمها له الشارع المصري على الهواء مباشرة، فلجأ، في محاولة يائسة لإخماد لهيب الغضب المتنامي، إلى إشعال نار الفتنة في جسد الشعب المصري لعلها تلتهم وحدته وإرادة التحرر والكرامة لديه، قصد إثارة فوضى خلاقة قد تسمح بظهور مطالب شعبية ترى في وجوده ضرورة للعمل على فرض الأمن والاستقرار. لكن القذافي كشف عن جبن لامثيل له، فالرجل اختار الطريق الاقصر للتملق للغرب وادعى انه يقود حربا مشروعة ضد الارهاب في مسعى لإسقاط ثورة شعبه بتهمة الانتماء للقاعدة.
أضف إلى ذلك أن الغرب يصيغ تصريحاته وفق مصالحه لا غير. فعندما كان الزعيم التونسي يقدم خدماته للفرنسيين ويجتهد في ولائه لها ، فكل ما قدمه زين العبدين بن على لفرنسا واجتهاده في الولاء لها على حساب مصالح شعبه وكرامته، رأينا كيف أدارت فرنسا ظهرها وتنكرت له سياسيا و حتى انسانيا فيما بعد حين عبر المتحدث بحكومتها عن رفض فرنسا منحه اللجوء وأن لا أحد من عائلته مرحب به على تراب فرنسا.
وماذا عن ثورة المغرب؟
لقد استطاع المغرب أن يشق منعطفا مهما أعفاه من الانجرار والانسياق وراء تيار التصعيد الثوري الذي ضربت شدته العديد من الانظمة العربية. فبعد أن اتسعت مساحة التعبير بشكل أفضل بكثير من باقي دول المنطقة، بدأ الاعلام يأخذ بزمام المبادرة ويلح في استعمال سلطته الرابعة. وهو الوضع الذي أنقذ المغرب من احتباس سياسي كان بإمكانه أن يقود الى طريق أسوء، و فوت الفرصة على الحالمين بالعنف الثوري من أن يروا اليوم الذي يدخل المغرب فيه لائحة المرشحين لثورة دموية.
ومن يعتقد أن انتفاضة الملك الشجاعة، للتخلص من عبء المخزن الثقيل، عبر اطلاقه للإصلاحات الدستورية الكفيلة بضمان حركة جديد وفعالة باتجاه مستقبل افضل للمغاربة جميعا، كافية للدفع بالعجلة على طريق الاصلاح فهو مخطئ الى ابعد حدود الخيال. فالطريق اكثر تعقيدا مما يبدو، اذ لا يكفي مجرد تعبيده بنوايا الاحزاب السياسية الحسنة، التي لا تتذكر مسالة الاصلاح الدستوري الا عندما ترغب في امتطاء قاطرة الحكومة ولو بدون حقيبة، فالأخيرة مطالبة بان تتحلى بالقدر نفسه من الشجاعة التي أبداها الملك ، وتترجم خطابها الممل الى ثورة حقيقية لإسقاط قيادات لم تعد تناسب المشهد السياسي الحالي، و تبادر الى تصحيح صورتها، قبل ان تسلط اضواء الاصلاح الجديد على رقعة اللعبة السياسية القادمة، فتبدو بذلك عورتها بادية للعيان.
التعليقات (0)