عندما يصاب مجتمع من المجتمعات بداء التعصب ترتبك كافة حواسه الظاهرية والباطنية وتكف عن العمل بصورة سليمة، فعلى القلوب أكنة وفي الآذان وقر وعلى الأبصار غشاوة بحسب التعبير القرآني. التعصب يغلق على الفرد وعلى المجتمع نوافذ رؤية غير ذاته المتضخمة، ويوصد باب (لِتَعَارَفُوا) المؤدي إلى ألف باب من الانفتاح والتواصل والتثاقف.
والنضال في مجتمع متعصب يبقى من أصعب النضالات وأنكدها، وكلما ارتفعت درجة التعصب اشتدت الحاجة لمزيد من النضال مع ارتفاع في المخاطر المتوقعة وانخفاض في الفرص المحتملة للنجاح. ومع هذه المعطيات يكتسب المستعدون لمواصلة الطريق حتى النهاية رمزية خاصة ويتحولون إلى أيقونات مكتنزة الدلالات.
مدغار إيفرز يعتبر بحق أيقونة في طريق نضال السود لإلغاء التمييز العنصري، حيث كرس حياته القصيرة (37 عاما) للعمل الدائب من أجل مجتمع ينعم فيه السود بالمواطنة الكاملة. في البداية برز كأحد الناشطين الأكثر فعالية في المجلس الإقليمي للقادة الزنوج في المسيسيبي، وكان في نفس الوقت ينظم الفروع المحلية للجمعية القومية لتقدم الملونين ويقود عمليات مقاطعة محطات البنزين التي تمنع استخدام السود دورات المياه بها.
" في عام 1954 تحدى إيفرز نظام التمييز العنصري من خلال تقديم طلب للالتحاق بكلية الحقوق في جامعة مسيسيبي التي كان جميع طلابها من البيض، والتي كانت تعرف باسم "أُولي ميس" – أو السيدة الجليلة وهو التعبير الذي كان يطلقه العبيد على زوجة مالكهم . رُفض طلب إيفرز ولكن نضاله حاز إعجاب صندوق الدفاع القانوني للجمعية القومية لتقدم الملونين وما لبث وأن عُيّن أول سكرتير ميداني للجمعية في مسيسيبي، وكانت هذه مهمة خطرة وموحشة."
وعندما تم قتل الصبي الأسود إيمت تيل (14 عاما) بدم بارد في العام 1955، ساعد في التحقيق في قضية القتل، إلا أنه أصيب بخيبة أمل كبيرة حين برأت هيئة المحلفين المكونة من البيض فقط المتهمين برغم وجود إثباتات قوية تؤكد إدانتهم. الأدهى والأمر أن الجلسة لم تستغرق أكثر من 67 دقيقة تناول خلالها أفراد الهيئة المرطبات في استراحة متعمدة للتمويه بأن وقت الجلسة كان أطول من ساعة ليبدو الحكم موضوعيا. ثم لم تستيقظ العدالة إلا متأخرا في العام 2004 حين أعادت وزارة العدل التحقيق في جريمة القتل واصفة محاكمة الخمسينيات بأنها إجهاض بشع للعدالة. طبعا مات من مات من الشهود وتبعثرت المستندات الثبوتية فلم يتم إدانة المتهم الأخير الذي بقي على قيد الحياة.
واصل مدغار نضاله، فقام بمساعدة السود في جهودهم للتسجيل في جامعة مسيسيبي متحديا مقاومة البيض الذين شكلوا ما سمي بمجالس المواطنين لإجهاض قرار إلغاء الفصل العنصري في التعليم ومنع تطبيقه. واستمر بتنظيم سلسلة من المقاطعات والاعتصامات الاحتجاجية وطالب بتعيين رجال شرطة من السود وتشكيل لجنة مشتركة من البيض والسود وإلغاء الفصل العنصري في المطاعم، واستعمال الألقاب الدالة على الاحترام (سيد، سيدة، آنسة) من البيض في المتاجر عند تعاملهم مع المتسوقين السود.
وبرغم ما قام به المتعصبون من عمل عدة مناطق مسيجة تتسع لاحتجاز الآلاف لمنع التظاهرات المطالبة بإلغاء التمييز، فإنه شارك في قيادة المسيرات الحاشدة ومقاطعة المتاجر والانضمام إلى صفوف المضربين. ثم كانت النقطة الحاسمة عندما ظهر على شاشة التلفزيون المحلي ليشرح أهداف حركته، وهو أمر لم يحتمله المتطرفون البيض إذ لم يتعودوا على مشاهدة أسود على شاشتهم الفضية، فجَرَت محاولات لقتله نجحت آخرها في إصابة الهدف واغتياله.
اغتياله لم يكن النهاية لقضيته، بل فتح فصلا جديدا مختلفا، حيث أصبح السود ينادون " لا خوف بعد مدغار". هكذا أسقط قتله الخوف وسجل تاريخا حاسما يختلف ما بعده عما قبله. " ففي السنة التي قُتل فيها، تمكن 28 ألف مواطن أسود من ولاية مسيسيبي من تسجيل أسمائهم في قوائم الناخبين. لكن بحلول عام 1971، ارتفع هذا الرقم إلى أكثر من ربع مليون فرد. بحلول عام 1980، وصل هذا الرقم إلى نصف مليون. بحلول عام 2005 كان في ولاية مسيسيبي أكبر عدد من المسؤولين المنتخبين السود في البلاد، حيث شملوا حوالي ربع وفد الولاية إلى مجلس النواب الأميركي وحوالي 27 بالمئة من مجموع أعضاء المجلس التشريعي في الولاية."
أما الحكم في قضية قتله فلم يكن أحسن حظا من الحكم في قضية الصبي تيل، حيث استدعت المحكمة المكونة من البيض قاتله مرتين وبرأته في كلتيهما. وأخيرا وبعد 31 عاما، تم في العام 1994 إدانة قاتله، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
لقد رحل مدغار بعد أن شارك في غرس المسامير الأخيرة في نعش التمييز. بقي مدغار وانتهى المتعصبون إلى لعنة التاريخ.
التعليقات (0)