في أول يوم من رمضان اكتظت المساجد بالمصلين حتى افترش الناس الأرصفة والطرقات حولها، وأقبلت الملائكة في فرح وسرور تخط أسماء الراكعين، الساجدين، التالين للقرآن، الذاكرين للرحمن في صحائف من نور، انتظارا لأخذ الأجر الجزيل، في آخر ليلة من الشهر الفضيل..
وفى آخر ليلة من رمضان هبطت الملائكة لتوزيع جوائز الرحمن، فلم تجد إلا بضعة شيوخ (كبار السن) يسجدون لله في خشوع واطمئنان.
آه من الانتظار، لقد مضت سحابة النهار ومالت شمسه إلى المغيب، وهو ينتظر أن يسمع أعذب صوت وأحبه إلى قلبه.. صوت المدفع ..لقد انتظر طويلا، والساعات تتحرك ببطء شديد، والجوع يضرب جدران بطنه، كأنما هو طرقات مطرقة ثقيلة تتوالى منتظمة على جسم رقيق؛ فتحدث صوتا وألما في آن واحد، والعطش يمسك بتلابيب جوفه، كشرطي يمسك بلص طال بحثه عنه فلا يستطيع منه فكاكا..
فماذا عساه أن يفعل في تلك السويعات الباقية؟! لقد فعل كل شيء، صلى الفجر في جماعة، وقرأ جزءا من القرآن، وصلى الظهر في جماعة، واستمع إلى درس الإمام بعد الصلاة وهو يبين فضائل الصيام، ويحث على التحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن رذائلها، ونام ساعة القيلولة، واستمع إلى آيات القرآن تخرج في سبحات جميلة من أعذب الأصوات وأنقاها في أجمل الفضائيات..
ها هو الوقت يقترب شيئا فشيئا، ولقد اشتاق إلى محبوبته شوقا عارما، وها هي لحظة اللقاء تقترب؛ فقد أخذت الشمس تلملم أشعتها الصفراء، وتذهب إلى مبيتها الذي ترقد فيه حتى الصباح..
لقد غربت الشمس، وها هو صوت المدفع يأتي من بعيد، هرول مسرعا إلى محبوبته، يلفها بين يديه، ويرتشف بنهم من رحيقها المفعم برائحة (البانجو) التي اشتاق إليها، وأخذ يغط في نوم عميق!!
وقف الناس طابورا طويلا بانتظار الموظف المسئول، وقد طال بهم الانتظار، حتى ورمت أقدامهم، وكلت نفوسهم، فقد اجتمع عليهم ضيق الانتظار، وتعب الجوع والعطش من الصيام..
وبعد طول انتظار، جاء الموظف المسئول يجر أقدامه، كالعائد فارا من معركة شرسة اضطرتهم للانسحاب من الميدان سيرا على الأقدام بين قذائف العدو تنهال عليهم من كل جانب، وقذائف الشمس الحارقة تلف أجسادهم من كل اتجاه..
جلس على كرسيه منهكا متعبا، قد انتفخت عيناه من السهر، وخارت قواه من التعب، كأنما هو بين النائم واليقظان، قد غفا على مكتبه، فلم يشعر بالضجيج من حوله، وهمهمة الناس تحيط به..
انتبه فجأة على صوت أحدهم وهو يوقظه، لينهى بعض الأوراق المحبوسة في درجه منذ شهور، إلا أنه انتفض كالأسد الجسور، قد هجم عدوه على عرينه، واستباح لبؤته، وقال له بصوت كأزير الأسد: ألا تعلم أيها الأحمق أننا في رمضان؟!
التعليقات (0)