تحت العناوين الرئيسية لما اصطُلح على أنها محتويات ومكونات الثقافة, أو من الثقافة, لا نجد إلا نادرا الإشارة لثقافة قانونية أو قضائية. وكانّ فروع الثقافة تكاد تنحصر, عند العامة والمثقفين, في الفلسفة, والأدب بأنواعه: شعر, ونثر من قصة ورواية ومسرحيات, وأنواع الفنون.
ولا غرابة ــ عند إهمال, أو بأحسن الأحوال تهميش المعرفة القانونية وعدم إدخالها ضمن مفهوم الثقافة ــ أن يختلط لدى المواطن مفهوم الحق والقانون. وأنواع الحقوق وفروع القانون. والفوارق بين القانون العام بفروعه , والقانون الخاص بمواده. بين المفهوم القانوني للدولة, وبين السلطة. بين القيام بمهام مفوضة من الشعب للحاكم المنتخب, انتخابا صحيحا لإدارة شؤون الدولة, وبين تجاوز هذا التفويض و إخضاع الدولة بمكوناتها, والتصرف بها كالتصرف بملكية خاصة.
وكثيرا ما نرى نقصا, حتى لا نقول جهلا كاملا, في معرفة, على سبيل المثال, الدور التشريعي للمجالس النيابية, والقوانين الصادرة عنها, وبين المراسيم والقرارات الوزارية, و معنى مبدأ تدرجية القواعد القانونية, hiérarchie. بين القواعد القانونية والقواعد الأخلاقية .. زيادة على جهل كبير باختصاصات المحاكم وأنواعها ودرجاتها .. بين قضاة الحكم, وقضاة النيابة , وأعوان القضاء...بين المحاكم العادية ومحاكم الاستثناء, بين أن يحاكم المتقاضين أمام قاضيهم الطبيعي, وبين أن يقفوا أمام محاكم الاستثناء بتهم لا علاقة لها بهذا القضاء, إذا ما تم التسليم سلفا بمشروعيته. بين أن تعيش الدولة حياة عادية في ظل القانون, وبين أن تخضع لعقود طويلة لحالة الطوارئ والأحكام العرفية ...
لا يعتبر المثقف, أو من اصطُلح على تسميته مثقف, هذا النقص في معارفه معيبا, كما لا يعيبه عليه احد, إنما العيب كل العيب, إن خانته الذاكرة في تذكر اسم فيلسوف, حتى ولو لم يقرأ له سطرا من فلسفته. أو اسم حاكم وألقابه ومنجزاته, أو أن سكت على جواب عن سؤال متعلق بعلم من العلوم, أو أن ينسب أغنية لغير صاحبها. أو يخلط بين المسلسلات التلفزيونية وأسماء أبطالها والتقصير في روايتها وتفسيرها. أو ن لا ينطق مصطلح أجنبي بالمخارج التي تتطلبها أصول النطق باللغات الأجنبية ومخارجها.. هنا فقط تُمس الثقافة الشاملة (تيمنا بالشمولية) وتهتز مصداقية صاحبها في عيون الخاصة والعامة.
ليس المطلوب من فيلسوف أو شاعر أو كاتب, أن يعرف أصول المحاكمات, ويكتب تجليات فلسفية, أو أشعارا أو روايات فيها. ولكن لا تضر الفيلسوف أو الأديب, المعرفة بفلسفة القانون, وبعضا من الفكر القانوني ماضيه وحاضره وتطوره, وأغراضه وأهدافه, وتأثيره في واقعنا وفي مجتمعاتنا في حالة حضوره أو تحريفه أو غيابه.
كما لا تحد أو تعيق شاعرية الشاعر أو تتناقض مع خصوبتها معرفة معمقة للنظام القانوني والسياسي لدولته, ومعنى التعدي على حرية التعبير, وغلق فضاءات واسعة أمام مخيلته المفترض أنها طليقة, وأمام كلماته التي تفقد حينها كل مصداقية, لتصبح موجهة عكس الاتجاه الصحيح , وتدخل اللغو من أوسع أبوابه, وتكذب على نفسها وعلى متلقيها, باحثة عن مبرر فتسمي نفسها التزام !!. والجميع يعلم, بمن فيهم هو نفسه, ملتزم ما لا يلزم, أن الالتزام, في الدولة الشمولية, ليس إلا إلزاما وإكراها خارجيا بفكر سائد ومفروض وأحادي غير قابل للالتزام بقبول غيره من الأفكار. إلزام يصبح مع الزمن, وبالتواتر, إلزاما ذاتيا, ورقابة داخلية على النفس, الخروج عنه, ولو ببت شعر, معاقب عليه بأشد العقوبات. ( الالتزام الحقيقي هو التزام حر إرادي غير مفروض, وخيار طوعي من بين خيارات متعددة. التزام في إطار القانون وبحمايته. يعززه القانون بحماية الحق في: التفكير, والتعبير, والتنوع الثقافي والإبداع. أي الحماية القانونية لجميع المثقفين والمبدعين, ولقواعد وأسس وأصول الثقافة الجديرة باسمها. الثقافة التي لا تكتمل و لا تبلغ مداها في غياب الثقافة القانونية وعدم الوعي بها).
لا احد يستهجن كون الغالبية العظمى من القراء في مجتمعاتنا تتذوق الشعر, وتقرأ القصص والروايات, وان تحضر أعداد لا بأس بها من المواطنين المسرحيات. وتتابع أعداد اكبر منهم, بما لا يقاس, المسلسلات التلفزيونية بأنواعها على مدار الساعة. ولا يستغرب أحد عدم وجود هاو واحد يتذوق نصا قانونيا, أو حكما قضائيا, أو يطرب له مهما كانت طريقة صياغته (عدا بعض مرافعات المحامين الأكفاء وبعض قضاة النيابة العامة التي تترك إعجابا كبيرا وتقديرا عند مستمعيها).
ليست الثقافة القانونية ثقافة روحية أو ثقافة متعة. القواعد القانونية لا تصلح للتلحين, أو الغناء ودغدغة العواطف, أو الرقص عليها أو حولها, فهي جادة صارمة جافة بلا نغم أو قافية.
استنباط وخلق هذه القواعد التي تعبر, أو يجب أن تعبر, عن إرادة الأمة, عملية خلق دائم منذ بداية البشرية والى يومنا هذا. وستستمر مع تطور الزمن والزمن القادم, لان لكل زمن قواعده, ولكل قاعدة موجباتها, ولو أنكر ذلك من يعتقد أن باستطاعته إعاقة مسيرة التاريخ وحرف مجراه, وصياغة قواعده حسب مشيئته وعلى هواه. التاريخ, كما تبين دروسه, يكنس من يعارضه وله, كما يقال, مزبلة.
بعض المطلوب, أو أقله, أن يجري الاهتمام بنشر الثقافة القانونية, أو الإعلام بها, في المدارس بأنواعها وفي كل مرحلة بما يتلاءم معها, فواقع الحال اليوم إننا لا نجد في أية مرحلة من مراحل التعليم, من الابتدائي إلى التخرج الجامعي, مواد تذهب في هذا الاتجاه,عدا , بطبيعة الحال, ما تدرسه كليات ومعاهد القانون.
لسنا هنا بصدد نقاش طبيعة ومحتويات مناهجنا التعليمية في الوطن العربي, بما فيها مناهج الدراسات القانونية, فتكفي الإشارة إلى أن جامعاتنا مصنفة عالميا في أواخر قوائم التصنيف, وإنما للتذكير فقط بأن الوعي القانوني, والحس القانوني, والثقافة القانونية في أس تكوين المواطن وتوازنه وبناء شخصيته, وخلق الشعور بالمواطنية, ومعرفة الأسس القائمة عليها والحامية لها, وتعميق قيمها.
فبناء الدولة, التي لم تبن بعد في وطننا العربي, لا يكون إلا ببناء الإنسان, الواثق بنفسه المعتز بشخصيته, الواعي لحقوقه وواجباته, المتمسك بها, المدافع عنها دون مهادنة أو تنازل, لأنها حقوق غير قابلة للتنازل عنها, إلا إذا ارتضى أن لا يتميز عن غيره من المخلوقات التي تعيش إلى جانبه, ويساق طوعا كما تساق.
لا نجد في كل ما ينشر على الهواء من قبل مئات المحطات الفضائية أو الأرضية العربية, أو الناطقة بالعربية, برامج, أو أجزاء من برامج, تهتم بنشر الثقافة القانونية والقضائية. عدا بعض محاولات المحاكاة بالتقليد, أو البرهنة بالادعاء على إنها مهنية, فيلجأ بعضها , حين اللزوم وفي المواسم, لخبراء في القانون, وأساتذة جامعات من هذا البلد أو ذاك لطلب خبرة قانونية , أو قراءة تحليل قانوني لحدث وتأصيله, فنسمع بدل ذلك تعليقات سياسية لموظفين, ولا نسمع خبرة قانونية لمهنيين. (مع التقدير الكبير للكثير الكثير من الأساتذة والخبراء المشهود لهم في وطننا العربي في هذا المجال, وممن لهم شهرة كبيرة خارجه )
من آلاف المقالات, (لا تعنينا هنا المقالات الناطقة باسم الأنظمة السياسية الرسمية القائمة, المنشورة في صحف مكتوبة أو على الانترنت) لا نرى إلا نزرا يسيرا من الجاد منها. ما نراه يتمحور حول الأديان والمذاهب والطوائف الدينية, وأكثرها تكفيرا أو ضغينة أو حقدا, أكثرها انتشارا و قراءة وتعليقا. أو المقالات السياسية, الموالية والمعارضة, التي لم تتعب من التحليل والتركيب وإعادة التحليل وإعادة التركيب, منذ عقود وعقود, ورغم كل الجهود والحبر المسفوح, لم يبرهن الواقع على صدق أي تحليل أو تركيب منها, أو إحداث أي تغيير مفيد. لذا تعمد في أيامنا هذه, ومن باب ا لتشويق, إلى الاستعانة بالشتائم والتخوين والعمالة, والقذف بأقذع العبارات, وعندها, وكلما حمي الوطيس, تكون القراءات شيقة والتعليقات لا تحصى. إضافة للمقالات المتعلقة بالجنس, وأعذبها في مجتمعات مكبوتة, أكثرها إباحية, وبالتالي أكثرها جاذبية للقراء والاهتمامات, ومنه تدخل في بعض أبواب الثقافة ومكوناتها.
في الدول الغربية, ونذكر منها فرنسا لمعرفتنا بها أكثر من غيرها, يدرس القانون, إضافة للاقتصاد في بعض فروع البكالوريا, وفي الجامعات لا تدرسه إلا كليات الحقوق , وبعضا منه كليات الاقتصاد, والسياسة, والتجارة, والإدارة. ولكن هناك العديد من جمعيات المجتمع المدني التي تنشر الثقافة القانونية, والأحزاب السياسية, (التي لا تربي منتسبيها, في المواضيع الثقافية على عبادة الفرد الزعيم والنظام الشمولي, وإقصاء الآخر, وإنما على قوانين الجمهورية, والمبادئ الرئيسية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية) وآلاف الكتب الموجهة لطلبة في هذه الاختصاصات, والى العامة, ومذكرات وانتقادات واقتراحات قضاة ومحامين ورجال إدارة. ومئات المواقع الالكترونية والمجلات المتخصصة. والندوات. والبرامج التلفزيونية التي تستضيف من وقت لآخر أساتذة وخبراء قانونيين يتكلمون قانونا وخبرة قانونية حقيقية, وبحرية مطلقة. ووجود محطة برلمانية تنقل جلسات البرلمان ومناقشاته, والآراء, والتعليقات والمطالعات القانونية والندوات.. . ولا تخلو مدرسة ابتدائية أو إعدادية أو ثانوية من ملصقات لإعلان حقوق الإنسان والمواطن, وحقوق الطفل, والمبادئ القانونية الأساسية. يضاف إلى ذلك أن أروقة المحاكم, بكل أنواعها, تضع تحت تصرف المتقاضين والمراجعين والزائرين, منشورات وكتيبات مجانية صادرة عن وزارة العدل, تهدف للمساعدة والتوجيه والتثقيف, وإطلاع كل على ما يهمه. وفي العديد من الأحياء الكبيرة هناك مراكز قضائية تساعد عن قرب المواطنين في معرفة حقوقهم, وتساهم في حل المسائل البسيطة...
كما أن التوجه الحثيث من رجال القضاء والمحامين ورجال القانون لتعميق ثقافتهم العامة بالإطلاع على مختلف فروع الثقافة, بقصد معرفة آثار ما هو اجتماعي على القضايا المطروحة أمام المحاكم, يقابله توجه غير القانونيين من أدباء ومفكرين وفلاسفة للثقافة القانونية والقضائية.
غياب التثقيف القانوني والقضائي في منطقتنا العربية (بين غيابات أخرى لأنواع أخرى من الثقافات والمعارف), يظهر أثره في ضعف الحس القانوني والوعي به, وبعدم تأصيل المفاهيم القانونية في الضمير والسلوك الفردي والجمعي. ويتركنا مجتمعات بلا ثقافة قانونية وبلا حس بالمسؤولية وبلا إدراك لمعنى المواطنية.
توجه ثقافات اليوم, الذي تعكسها الكتابة و القراءة والتعبير, بأشكاله ووسائله المتنوعة, والحركة "الفكرية", أو الحراك, دون وضوح الرؤى والإحساس بالواقع والمستقبل, يعتبر, باعتقادنا, مؤشرا على توجهات اجتماعية ممكن أن توحي للمراقب بان مجتمعاتنا في حالة تحول, بطيء, لكنه تحول من طبيعة لا تقود لمستقبل واعد, على المدى المنظور على الأقل, ولا تبشر بالخير.
ليس ما نراه بوادر الحركة التي تدفع إلى تغيير باتجاه بناء مجتمع عصري متماسك, تقوم عليه دولة الحق والقانون والمؤسسات, وتسود فيها قيم المواطنية التي تعلو على كل الاعتبارات, وتفرض نفسها على الأنظمة الحاكمة. فالتيارات غير الحاكمة, (غير المنظمة, أو بالأصح التي لم تزل في طور تنظيم بدائي, و التي تأبى إلا أن تعطي لنفسها اسما تبدو ضئيلة تحته, المعارضة ) والتي من المفترض, حسب طبيعة الأشياء, أنها ستقود إلى بديل أفضل, تتبنى نفس ثقافة وعقلية السلطة ومفاهيمها وممارساتها, واهتماماتها, حتى وهي خارج السلطة ومفسدتها.
وبعيدا عما يُقيّم على انه تشاؤم أو تفاؤل, يتبين أن ما نراه ليست مؤشرات التوجه لوضع أرجلنا بعد, ونحن في القرن 21, على بداية الطريق الصحيح, رغم كل الصراخ القادم من كل الاتجاهات, وبكل اللهجات. القانون ودولة القانون وثقافة القانون ليست في أولويات احد.
في غياب الثقافة القانونية والقضائية لا تترسخ القيم الحضارية, الناظمة للمجتمعات المتحضرة و لسلوك وتصرف المواطن, ولن تدخل بصفتها هذه وعيه الفردي, والوعي الجمعي. وفي غيابها يبقى الخوف من العقاب, الذي يصل غالبا إلى درجة الرعب, هو الدافع الوحيد لاحترام جبان للقانون والنزول على أحكامه. وهو ما لا يتلاءم مع طبيعة الإنسان المتحضر, إنسان القرن الحالي.
ومن هنا ضرورة التطلع إلى "دمج" الثقافة القانونية والقضائية بالثقافة بمعناها السائد عندنا, وإعطائها ما تستحقه, و"الاعتراف" لها بما هو لها.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)