رأت السياسة العربية الحكيمة أن لا تحتكر عاصمة عربية بعينها الثقافة. فجعلتها سنوية, دورية, تتنقل بين العواصم, كمؤتمرات القمم,( ديمقراطية عربية), لينال من مدائحها وفوائدها كل الحكام العرب دون نسيان احد, أو هضم بعض حقوقه المترتبة على الثقافة تجاهه. ولتتثقف بها كل الشعوب العربية في عين المكان , أصبح على الثقافة, بقرار, أن تأتيهم إلى عواصمهم دون عناء, بناء على ميعاد, كل بدوره, دون استثناء. تمكث بغناها ومحاسنها عاما كاملا في كل عاصمة, مودعة في نهايته باحتفالية مهيبة تتلاءم مع الحدث, وعلى وعد صادق منها بالعودة بعد 23 عاما, أي بعد إكمال زيارات ال 23 عاصمة عربية دون تحيز أو تأخير, فالموضوع ثقافي لا يحتمل المماحكة أو التأويل.
في الحديث عن هذه الثقافة العربية المنظمة في دوريات تجوب الوطن العربي, تقفز للأذهان فورا عناصرها, المنظمة بدورها والمجازة, المتعارف عليها:
الشعر بأنواعه, الموزون والمقفى, أو فاقد الوزن والقافية, المنفلت كليا من بحور الخليل, أو المتلاعب بتفعيلاتها والناثر لها نثرا يصعب إعادة تجميعه للوصول إلى مقاصد الشاعر ومعانيه الغائبة في جلها عن الشاعر نفسه. أو الأشعار الشعبية التي يلقيها ملايين الشعراء على طول الوطن وعرضه, ويراد بها تثقيف الملايين, فالعربي شاعر بالفطرة, أو متذوق للشعر, بالفطرة. ويتم اختيار الشعر والشعراء, بناء على توصيات, بدعوات رسمية, وإجازات أمنية,( وليس إجازات جامعية, فحملة الإجازات الأمنية وحدهم المؤهلون لتلك المهمات الثقافية وما يتصل بفروع وتشعّبات وملحقات الثقافة). ليست الإجراءات المرتبة لدوران الثقافة حول نفسها وحول العواصم, هي وحدها المعدة إعدادا حسنا, وإنما كذلك المواضيع الثقافية والتثقيفية. ففي الشعر مثلا يوحي للشعراء, المجازين, بأفضل المواضيع وبعناونين القصائد الراغب بسماعها المستمعون, آلا وهي البطولات قديمها وحديثها, والانجازات وسرعة انحازها, والحب بأنواعه, وأعذبه وابلغه حب الزعيم المفدى, والإشادة والتغني بانجازاته السابقة والحاضرة المُنّزلة على الشعوب بمنح و مكرمات. وتلك الموعود تقديمها, لبناء مستقبل أفضل, للأجيال القادمة , التي لو خُيّرت لما اختارت مثل هذا القدوم للعيش في ظل مثل هذه الانجازات .
يوازي الشعر بأنواعه النثر بأنواعه من قصص طويلة, ومتوسطة, وقصيرة, ومتناهية في القصر. وروايات بأطوال مختلفة, لا يعرف أي منها, قصة أكانت أم رواية, طريقا للنشر, مهما كانت درجة الموالاة, إلا بعد المرور بالطرق المعروفة, والحصول على الموافقات المطلوبة, وضمن الشروط المفروضة (ولا يمكننا هنا إلا التذكير بالثقافة الحقيقية, والمثقفين الحقيقيين الجادين في وطننا العربي الذين فرضوا ويفرضون احترامهم على الجميع, وان غابوا عن المشاركة في الثقافات الاحتفالية المتنقلة, فأمكنتهم لا يمكن لأحد أن يشغلها ولو ادعى), وبشكل خاص شروط الالتزام, وأي التزام, التزام بالحاكم وتوجهاته وتوجيهاته, ومفاهيمه, وفكره, في حالة وجود فكر لديه, الالتزام الذي يقف هنا فقط, دون أن يتعداه إلى التزام بالوطن والمواطن/ الإنسان ساكن هذا الوطن. دون الالتزام بقول كلمة الثقافة في الكرامات المهدورة والحريات المفقودة وضيق العيش وضنكه. ودون الجهر بالقول بان الإنسان المهدورة كرامته, والمسلوبة حريته لا يتذوق أدبا لا يعبر عنه وعن واقعه. الثقافة التي تزين للإنسان/المواطن القمع والظلم والطغيان, وتوصل له ذلك مجانا في لقاءات متلفزة, وندوات, ومهرجانات, ومسرحيات. ولتكون أكثر وصولا للجميع وفي بيوتهم وغرفهم, تقدم لهم بمسلسلات تلفزيونية لا تنتهي, تاريخية, رغم انف التاريخ وحقائقه. و"فانتازيا" اسقاطية, حسبما يسمونها, عند فقدان كل تصنيف لها. واجتماعية تشير وتعالج مآسي شعوبنا أيام الاستعمار قديمه وحديثه, ولا تتجرأ على ذكر هذه الماسي في وقتنا الحالي وفي ظل حكامنا الوطنيين الحاليين, وان تجرأت على بعض ذلك فبعد موافقة الجهات المختصة, وبأسلوب لسان حاله يقول إن الظلم كان أيضا وبشكل قاس في القديم. أو بفن الضحاك والإضحاك على ومن الإنسان/المواطن و مآسيه, والسخرية من كل القيم والفضائل. أو القول له بان كل شيء جائز ويمكن حصوله حتى عند من هم أفضل حالا منا. أو الضحك دون سبب , بناء على مقولة الضحك يطيل الأعمار التي لا يرغب الكثير من أصحابها في إطالتها. ليس كرها بالحياة وإنما كرها بمصادري الحق في الحياة. (لا يمكن للكثيرين من أبناء وطننا إلا الاعتراف بمواهب وعمق ثقافة الكثير من الفنانين العرب الجادين الذي رغم كل تقييد لنشاطهم ورقابة على إنتاجهم وأعمالهم, يجدون بكل مهارة وحرفية, منافذ للالتفاف على بعض هذه الرقابة الصارمة).
يتبادل منظمو الاحتفالات الثقافية الثقافة البينية, بنسخها ال 23 , فلكل دولة نسختها الثقافية الخاصة, المرسومة بعناية من جهاتها العليا. وقد تشترك مع غيرها في الخطوط العامة, ولكنها تصر على الإمعان في ابتكار الخصوصيات المتعلقة بابدعات الأنظمة الموهوب زعماؤها, وإلا لما تنوعت الثقافات, ولما كانت هناك ضرورة لتتنقّل بين العواصم وعبرها, لتغني وتغتني, كتنقل مؤتمرات الزعماء, تعميما للفائدة والعطاءات بطريقة التوزيع الديمقراطي, وان كان ذكر هذه الكلمة الأخيرة غير مرغوب فيه لأنها تحمل فيما تحمل ثقافة مستوردة.
ـ لا احد ضد تنظيم مهرجانات ثقافية واحتفالات تشجع على الثقافة ونشرها. فقد ظهر ذلك حتى في عصور الجاهلية.
ـ لا احد ضد تعريف شعوبنا العربية بالخصوصيات الثقافية لكل منها واحترامها.
ـ لا احد ضد التفاعل الثقافي والتنشيط الثقافي البيني وبذل كل الجهود بهذا الاتجاه. والانفتاح على الأبعاد العالمية والإنسانية للثقافة.
ـ ولكن لا أحد, باستثناء "مثقفي" السلطة يقبل بــ :
ــ تقليص الثقافة لتصبح تربية على قيم الأنظمة وقبولا بممارساتها .
ــ الثقافة التعبوية على الطريقة الستالينية و الطرق الشمولية بنسخها العربية.
ـ تسطيحها وإلحاقها بالدوائر الرسمية. والخلط بين المثقف والمخبر, ومذيع النشرات الإخبارية, والمعلقين عليها, وأصحاب البرامج, حتى ولو سمت نفسها الاتجاه الآخر, والرأي الآخر أو المعاكس, فهي ليست إلا ضمن سياسة ورأي صاحب الأمر والنهي.
ـ تحويلها لمواد دعائية وإعلانية لخدمة السائد في الأنظمة السياسية.
ـ أن يصبح من لا علاقة لهم بالثقافة, حتى ولو تغطوا بألقاب دكاترة ومفكرين وعلماء, ممثلين لها, ومتحدثين باسمها, و قيمون و أوصياء عليها.
ـ أن تصبح سلعا تجارية تباع في المعاهد والجامعات ودور النشر والمكتبات..
ـ أن تصبح مناسبات احتفالية يُشرب الراح على شرفها, وتزف إلى العواصم العربية بعراضات كزفة العريس ليلة عرسه.
ـ أن تدعي الأنظمة الشمولية بأنواعها تشجيع الثقافة, وفي الوقت نفسه تضطهد المثقفين الموالين للثقافة وحدها, وتزجهم في السجون أو تهددهم بزجهم بها, و تحاربهم في لقمة عيشهم, مما يجبر بعضهم على الهجرة وترك الأوطان.
ـ إحاطتها بخطوط حمراء وصفراء وغيرها من الألوان, في وقت تنتشر فيه وتزدهر ثقافات الآخرين مستفيدة من وسائل التقدم والتكنولوجيا المتطورة, وتنفتح على الإنسان أينما كان, وعلى همومه ومشاكله. وتجعل ازدهاره الفكري والمادي هدفها الأساسي.
ـ رفض التعددية الثقافية ومنع ثقافة الأقليات وقمعها في أوطانها, واضطهاد مثقفيها والمؤمنين بها.
ـ أن تبقى المنطقة العربية وحدها, في قرننا الحاضر, موطن ثقافة الاستبداد والعنصرية, والتعالي القائم على الوهم والخواء الفكري, وازدراء ثقافات الآخرين وقيمهم, في الوقت الذي تُستمد من دولها كل مقومات الحياة العصرية. فكيف من موقع الدونية الحقيقية, والأماكن في الصفوف الخلفية الخلفية, ننصب أنفسنا مرشدين للبشرية.
ليست الثقافة مسرحيات بهلوانية.
للثقافة تاريخ ومضمون وهوية.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)