ثقافة الصدام المنقرضة
كمال غبريال
الحوار المتمدن - العدد: 2948 - 2010 / 3 / 18
الشعوب المسجونة في كهوف الماضي، أسيرة ثوابتها وأفكارها الجامدة والمتكلسة، تفقد الإحساس بما يجري من تغيير في العالم من حولها. . تبقى تردد ذات المقولات، وتنتهج ذات الأساليب، حتى ما لم يعد منها صالحاً أو متوافقاً مع العصر. . هي شعوب تفتقد من الأساس الإحساس بالزمن، وترى الحياة تكراراً أبدياً ومملاً إلى مالانهاية، لتكون النتيجة أن تعيش عصراً غير العصر الذي يعيش فيه العالم كله من حولها، معتمدة على مفاهيم بادت، ولم تعد تعبر إلا عن تاريخ مضى ولن يعود، لتكون النتيجة أن تفشل تلك الشعوب في التواصل والتفاهم مع العالم، وتتدهور أحوالها باستمرار، وتتفاقم مشاكلها كلما سعت إلى حلها، ذلك لأنها تتحرك وفق مفاهيم لم يعد أحد يفهمها أو يرى الحياة وفقاً لها.
الأمثلة عديدة ومتنوعة على مثل تلك الحالة، ونكتفي هنا بتناول أمر واحد، هو بالتأكيد الأكثر إلحاحاً في أيامنا هذه، وهو مفهوم استخدام العنف، كحل أفضل -وربما وحيد- في حل الخلافات بين الأفراد والشعوب. . كان العنف بالفعل هو الحل الوحيد لفض وحسم أي نزاع في بداية مسيرة الإنسان الحضارية، حين كان يعيش متفرداً، يلتقط الثمار ولا يستقر في مكان، لكن مع تقدم مسيرته الحضارية، ومعيشته في تجمعات صارت مجتمعات، يحتاج أفرادها إلى بعضهم البعض، ليس لدواع أخلاقية، وإنما لاعتمادهم المتبادل في توفير مقومات حياتهم، كان لابد أن يتراجع استخدام العنف في حسم الخلافات إلى الدرجة الثانية، لتتقدم عليه محاولة التفاهم، سواء عن طريق الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، أو حل يستند إلى التهديد باستعمال العنف، ما لم يأت التفاهم بالنتيجة المرجوة.
هكذا استمر التراجع في استخدام الأفراد للعنف في حل ما ينشأ بينهم من منازعات، نتيجة لتطور التجمعات البشرية إلى شعوب تحكمها حكومات، تقوم هي بتولي مهمة القضاء وتحديد الحقوق والواجبات، كما تقوم باستخدام العنف ضد الطرف الذي لابد وأن يجبر بالعنف على الانصياع لما هو متفق عليه من قواعد ونظم ومعايير. . لكن على المستوى الأكبر، أي على مستوى العلاقات بين الشعوب، فقد ظل الأمر طويلاً مشابهاً لحال الأفراد في المرحلة البدائية من تاريخ الإنسان، قبل أن ينخرط في تجمعات، مرتبطة مكانياً ومصلحياً. . لكن تدريجياً، ومع تنامي الاعتماد المتبادل بين الشعوب، ومع تطور وسائل المواصلات والاتصالات، والتي حجمت من تأثير الجغرافيا، أي قربت المسافات بين الشعوب، بدأت الشعوب ككيانات تطور علاقاتها، على نفس النهج الذي سار فيه تطور علاقات الأفراد، فتنخرط في مجموعات أو تكتلات كبيرة، تعتمد التفاهم لحل مشكلاتها البينية، وكانت تنجح في ذلك لبعض الوقت، وتفشل فيه في أوقات عديدة، تخوض خلالها غمار الحروب ما شاء لها الهوى، لكي تعود بعد ذلك باحثة عن السلم وعلاقات السلام والتفاهم.
يمكننا أن نقول بقدر كبير من الثقة، أن مؤشر تعاظم الحضارة الإنسانية وتطورها، هو تراجع استخدام العنف، سواء على مستوى الأفراد أو الشعوب، ولا نقول هذا من منظور أخلاقي طوباوي، وإنما لأن العنف يتضمن هدماً لبعض ما سبق وأن أنجزه وشيده الإنسان، بالإضافة بالطبع إلى فقد القليل أو الكثير من البشر لحياتهم، نقول ذلك رغم أن الإنسان خلال تقدمه العلمي، كان يطور على الدوام من أسلحة التدمير والقتل، التي بدأت باستخدام قطع الأحجار في الاقتتال، لتصل إلى الأسلحة الذرية والكيماوية والبيولوجية.
بعد الحرب العالمية الأولى ومآسيها، حاولت الدول انشاء منظمة تقوم مقام حكومة عالمية، تتولى البت في النزاعات بين الدول، على نمط ما تقوم به الحكومات للأفراد، فكان ما عرف بعصبة الأمم، التي لم يكن لها من الصلاحية والقدرات، ما يوقف النازية عن توحشها، وانخرطت القوى العالمية الكبرى، وبصحبتها العشرات من الشعوب الصغيرة، في حرب ضروس، هي ما نعرفه بالحرب العالمية الثانية، والتي بعدها كان تأسيس هيئة الأمم المتحدة.
رغم الاعتراضات الكثيرة والمحقة على أداء الأمم المتحدة وفاعليتها، إلا أننا ينبغي أن نعترف بأنها لعبت دوراً كبيراً في وقاية العالم من حرب عالمية ثالثة، وذلك طوال ستة عقود مضت منذ إنشائها. . رغم أنها لم تنجح في منع المئات من الحروب الصغيرة حجماً والكبيرة ضرراً طوال تلك الفترة. . لكن الجدير بالملاحظة هنا، أن الكبار (قوة وإمكانيات) قد توقفوا بالفعل عن الاقتتال فيما بينهم، واستداروا ليلعبوا بأوراق الصغار المتقاتلين. . يعني هذا أن الأقل تحضراً وقوة، هم من بقيوا حتى الآن تستهويهم لعبة العنف، ولا يرون غيرها طريقاً لتحقيق مطالبهم. . الارتباط واضح إذن بين استخدام العنف والتحضر.
إذا تركنا حديث العموميات والرؤيا الشاملة للعالم، ونزلنا إلى الساحة المصرية، نرصد تصاعد العنف في المعاملات، سواء اتخذ العنف شكلاً دموياً، أو بقي في صورة عنف لفظي ومهاترات وتهديدات، ورغم أننا لا نمتلك إحصائيات تؤكد ما زعمناه من تفاقم العنف في مجتمعنا، إلا أن الصورة العامة على الأقل تشي بذلك. . لكن بالطبع من المؤكد أن العنف الطائفي ضد الأقباط قد تفاقم بصورة غير مسبوقة، ربما من قرون طويلة، ويعني هذا بالطبع أننا ننحدر في سلم الحضارة إلى أسفل، رغم العمارات الضخمة والكباري والأنفاق، وكلها علامات حضارية مستوردة، يتطور عن طريقها الشكل، لكن المضمون الذي هو الإنسان، يتجه نحو الخلف، إلى حيث سادت شريعة الغاب.
نستطيع أن نعزو هذا التفاقم للعنف في المجتمع المصري إلى ثلاثة عوامل:
أولها الظروف الاقتصادية والمعيشية الضيقة الخانقة للشعب المصري، والتي تجعل الجميع في حالة توتر وضيق دائم، مما يترتب عليها كبت يتحين الفرصة المناسبة للانفجار، وليس من فرصة أكثر مناسبة، من خطيب ينادي في الناس بالزود عن الدين، ويحرضهم للتوجه بالعداء والتدمير لأناس مسالمين، يعرف المحرض والمستجيبون له، أنهم لن يجدوا من هؤلاء المسالمين شراً مقابل شر، أي أنهم سيقومون بنزهة مجانية تماماً، يفرغون بها عما بداخل صدرهم من كبت، ويعودون بعدها هانئين سالمين.
العامل الثاني هو غياب الردع للعنف، نتيجة تخاذل أو غياب السلطة، التي كانت العامل الأساسي في انتظام الحياة الاجتماعية بدون عنف، فالسلطة المصرية تفرغت منذ عقود لحراسة الحكام وكراسيهم، أما ما عدا ذلك فيخرج عن دائرة اهتمامها، وربما تعتبره أيضاً خارج دائرة تخصصها. . وهذا واضح بالطبع في لجوئها إلى الجلسات العرفية أو جلسات العرب، لمعالجة إشكاليات وانتهاكات إجرامية، هي من صميم ما وضع لأجله القانون الجنائي. . وبسياسة كهذه يصبح الضعفاء والأقليات كالحائط الواطئ، يغري الجميع بالقفز فوقه، ولو من قبيل التريض والترفيه.
العامل الثالث في رواج العنف، ونظنه العامل الأخطر من نواح عديدة، هو شيوع ثقافة الصدام في المجتمع، الأمر الذي تعد معالجته من أصعب وأطول المهمات، فتغيير ثقافة شعب إلى الأفضل عملية صعبة ومعقدة، رغم أن التغيير نحو الأسوأ يكون عادة أيسر، لأنه يعود بالإنسان إلى طبيعته البدائية الأولى، حين كان في ذات مستوى حيوانات الغابة.
يحتاج بحث أسباب رواج ثقافة العنف في مصر الآن إلى معالجة خاصة، لكن إلى حينها نستطيع أن نقول بثقة، أن الثقافة الواردة إلينا مع القادمين من السعودية ودول الخليج، متشبعين بالفكر الوهابي البدوي، المختلف تماماً عن روح الأمة المصرية زراعية البيئة والثقافة، له اليد الطولى في سيادة العنف والعنف المضاد في المجتمع المصري.
التعليقات (0)