كمال غبريال
قلنا مراراً وتكراراً أن ما نسميه "ثقافة المقاومة" و"خيار المقاومة" ما هو إلا ثقافة القتل والإجرام، يتم ترويجها في هذه المنطقة المنكوبة بمثقفيها وثقافتها، وأن قطعان المثقفين والإعلاميين العرب الرائج خطابهم التحريضي، يرتكبون أبشع جرائم التاريخ في حق شعوبهم بالدرجة الأولى، وفي حق الحضارة والإنسانية بالدرجة الثانية.
وقلنا أن ما يروجونه ليس ثقافة مقاومة لعدو سياسي أو ديني يتحتم علينا مواجهته، وإلا حسبنا في عداد الخونة والانبطاحيين والاستسلاميين، وإنما يروجون لنزعات بدائية متوحشة، تجرد الإنسان في هذه المنطقة من كل ميراث التحضر الإنساني، الذي تكون لديه عبر آلاف السنين من التفاعل مع مكونات الطبيعة، والتفاعل بين أفراد وعشائر القبيلة الإنسانية، والذي أثمر أخلاقيات ومبادئ، اختلفت في النوعية ودرجة التحضر باختلاف الشعوب، لكن تشارك الجميع في حد أدنى لا يتجاوزه أحد، إلا ووضع نفسه في موضع الإدانة الصريحة التي لا لبس فيها، ويتضمن ذلك الحد الأدنى ضمن ما يتضمن وصية "لا تقتل"، ورغم أن "القتل" قد ظل فعلاً متكرراً عبر مسيرة الإنسان وحتى يومنا هذا، إلا أنه لم يحظ يوماً بالاستحسان أو الافتتان بممارسته، وإنما بقي فعلاً بغيضاً، قد ينجرف إليه الإنسان في حالات استثنائية خاصة، ثم لا يلبث حين يسترد وعيه، أو تخف عليه وطأة الظروف الاستثنائية، أن يعود إلى سيرته الطبيعية، محافظاً على الحد الأدنى من التحضر البشري.
بقي السلام هو أمنية جميع الشعوب وهدفها الأسمى، والذي قد تضطر مرغمة على عبور أنفاق من الصراع لتصل إليه، دون أن يغيب عنها هدفها النهائي، والذي تسعى للوصول إليه بأسرع ما تستطيع، فتخوض الصراع وهي تنادي بالسلام وتهفو إليه، بل ويصح القول أن ثقافة السلام والاشتياق له تكون على أشدها في فترات الصراع بين الشعوب المتحضرة، ولولا هذا لامتدت الحروب والصراعات بين البشر بلا نهاية، ولكان التدمير هو العنصر الأساسي في مسيرة الإنسان، والتي كانت عندها ستصل سريعاً إلى الفناء والعدم، لتلك المخلوقات التي عجزت عن التآلف الذي توصلت إليه بالغريزة مملكة الحيوان!!
من الواضح لكل من يمتلك عقلاً وقلباً يتصف بالحد الأدنى من التحضر الإنساني، أن خطاب القتل الذي يتم الترويج له حالياً في منطقة الشرق الكبير، ينتمي إلى النزعات البدائية المتوحشة التي وجد عليها الإنسان قبل أن يعرف الحياة المشتركة في الأسرة ثم القرية والمدينة ثم الدولة، وأبسط دليل على ذلك أن كلمة السلام تغيب تماماً عن خطاب أبطال التحريض والكراهية، والذين يسيطرون الآن على جميع المنابر، بفاعلية تثير الدهشة، إن لم نشأ أن نقول الإعجاب، فهاهو السيد حسن نصر الله يعقد مؤتمراً جماهيرياً تحضره الآلاف المؤلفة، يتلاعب بمهارة بمشاعرهم، بخطاب يكاد يخلو تماماً من كلمة صادقة واحدة، والرجل يعرف ما يفعل ويتقنه، فيما أمواج الجماهير المبهورة تلوح بقبضاتها متوعدة، صارخة بالموت لشعب يبعد عنهم آلاف الأميال، رغم أن أفعال القتل الإجرامية التي اجتمعوا بصددها جرت بالقرب منهم، على أرض العراق في مرقد الإمامين على الهادي وحسن العسكري، ولم يرتكبها الشعب الذي يتنادون بموته، وإنما ارتكبناها نحن أبناء ثقافة القتل لمجرد شهوة القتل، والتي طردت من عقولنا وقلوبنا كل ما عداها من قيم.
ما حدث بالأمس من قتل متبادل بين السنة والشيعة في العراق، ليس بأي حال فتنة طائفية، كما أن ما يحدث اليوم بالصومال وأفغانستان وباكستان ليس خلافاً سياسياً بين جماعات ثائرة أو متمردة وبين النظام الحاكم في هذه الدولة أو تلك الدولة، وعلى ذات النهج ليست أعمال القتل التي تمارسها المنظمات الفلسطينية في تل أبيب وأنحاء إسرائيل أعمال مقاومة لإزالة الاحتلال، فكل ما يساق في هذا الصدد من مبررات هي في الحقيقة تبريرات، تحاول عبثاً ذر الرماد في العيون، عن الحقيقة التي يراها العالم كله من حولنا، ولا يفيد تعامينا عنها، سواء من قبيل التواطؤ أو الغفلة، الحقيقة أننا نجني الثمار الطبيعية لثقافة القتل التي أرضعناها لشبابنا، متصورين أنها ستوجه إلى أعداء محددين قد اخترعناهم، غير مدركين عاقبة تربية الذئاب، أو بالأصح عاقبة ضخ دماء ذئاب في شرايين أبنائنا.
عبثاً محاولة محاصرة القتل والتدمير في العراق بعقد اجتماعات واتفاقات بين قادة السنة والشيعة، مادام السبب الحقيقي لأعمال القتل هو تعرض الشعب العراقي البطل –صاحب أول حضارات العالم- لعمليات غسيل مخ إجرامية، تقوم بها جميع الدول المحيطة، والقنوات التليفزيونية المناضلة، ببث خطاب الكراهية والقتل، بدعوى مقاومة قوات تحرير العراق من نير التخلف والاستبداد. . والحل هو في مسيرة العراق الديموقراطية، الكفيلة بإعادة الوعي الحضاري والإنساني للعراقيين، وهو ما بدأت تظهر بشائره الآن.
وعبثاً محاولة السعودية تتبع بضع أفراد يقومون بأعمال التفجير، فيما جميع منابرها ومناهجها التعليمية تنفخ في كير الكراهية والقتل، ترضعه للأطفال مع حليب الأمهات، وتصدره للعالم دماراً وحقداً، يعبر الصحارى والمحيطات، يدمر ويجلب لنا الدمار الذي يتيح لنا نعود لنصرخ ونولول من تحالف العالم علينا، متعللين به لترويج المزيد والمزيد من خطاب الكراهية والقتل اللعين!!
يمكن لمن يشاء ألا يعتبر تلك السطور دعوة لكف الأذى عن شعوب العالم المتحضر، والتي تقدم لنا الخير، ولا تجد منا غير الشر والكراهية.
ويمكن لم يشاء أيضاً ألا يعتبر تلك السطور تحسراً على القيم الإنسانية التي يتم إهدارها في منطقتنا، وعلى قشرة الحضارة التي سمحت لنا إمكانياتنا الضئيلة على التحضر بامتلاكها.
يمكن اعتبارها مجرد دعوة لأن نرحم أنفسنا من أنفسنا، حتى لو كان سيترتب على ذلك حرمان العالم من أحزمتنا الناسفة وسياراتنا المفخخة، فمع شديد الأسف لا يمكننا أن نحظى بالسلام ونحن ندبر الموت والدمار للعالم، فإما أن نعد أولادنا ليكونوا حمائم، فيكونون كذلك في تعاملهم فيما بينهم، وتعاملهم مع العالم من حولهم، أو نعدهم ليكونوا ذئاباً، وعندها سيمارسون الخسة والقتل في جميع تعاملاتهم دون استثناء، فعلى حد علمي –وأعتذر مقدماً إذا ثبت ثمة نقص في معلوماتي- لا يوجد إكسير يمكن حقن الذئاب به، يعلمها التفرقة في ممارساتها، لتكون ذئاباً مع الآخر الغربي الكافر، وحمائم مع من ربوها على أن تصير ذئاباً، وعموماً وإلى أن نكتشف هذا الإكسير المعجزة، علينا إما أن نتحمل عضات ذئابنا ولدغات ثعابيننا، أو أن نكف عن تربية الذئاب!!
ولأنني سئمت من اعتباري عميلاً وعدواً للأمة فور كل مقال أكتبه، فإنني قررت في هذا المقال أن أقترح على أشاوس الأمة ومجاهديها وإعلامييها أن يتمسكوا ببث خطاب الكراهية ونهج تربية الذئاب، حرصاً على هوية شعوبنا المناضلة حتى الموت، وأن نحتمل ما يصيبنا من لدغات ثعابيننا، حتى نكتشف الإكسير المبارك، الذي يعلم الذئاب والثعابين بث السم في اتجاه واحد، هو اتجاه الأمم المتحضرة فقط، ففي هذا أمان تام لنا، مادمنا نعرف يقيناً بأننا لن يشملنا هذا التصنيف في يوم من الأيام!!
التعليقات (0)