ثقافة الاستهلاك والادخار:3
تنقسم عوائد الدخل القومي عادة الى قسمين:الاستهلاك والادخار...في حالة استبعاد تأثير المصادر الاخرى... القسم الاول هو غالبا اكبر من الثاني بكثير لان الحاجات الانسانية المتعددة هي تبتلع الكثير من مصادر الدخل الفردي الا ان بعض التقاليد المتوارثة التي تحث على الادخار مع قدرة انتاجية عالية وحرص على الاستثمار فقد تجاوزت بعض الدول في ادخارها على قسمها الاخر وهو الاستهلاك مثل سنغافورة والصين وكذلك بعض الدول النفطية الا ان حالة الدول النفطية اقل اهمية من الدول المتعددة المصادر للدخل القومي كسنغافورة والصين وتايوان وغيرها لان درجة الادخار المعتمدة على النفط او اي معدن اخر سوف تكون متذبذبة حسب سعر السلعة وظروف السياسة الدولية وبالتالي فأن الحالة تبقى غير دائمية وامينة وقد تتحول الدولة في فترة قصيرة جدا الى حالة الدول التي تستهلك اكثر مما تدخر بينما الحالة الثانية فأنها اكثر استقرارا ونموها طبيعي واكثر قدرة على التكيف مع الاحوال المضطربة او استيعاب التقدم! وللتوضيح اكثر كانت الدول النفطية العربية خلال الموجة الاولى من ارتفاع النفط بين عامي1974-1982 قد تراكمت لديها اموال ضخمة سرعان ما استنزفتها خلال الفترة بين عامي 1983-2003 عندما تراجعت الواردات.
وفي حالتي الاستهلاك والادخار فأن كل قسم منهما يتفرع الى نوعين:الاول ايجابي ويتمثل بالادخار المؤدي الى الاستثمار بعكس الادخار السلبي الغير منتج مثل سد الحاجات الاستهلاكية المستقبلية مثل الزواج او التخطيط لدفع تكاليف سفر وغيره،اما الاستهلاك فأن النوع الايجابي هو العقلاني الذي يكون بتخطيط ودراية بظروف الحاضر والمستقبل ويستهلك الانتاج المحلي على الاكثر...والاخر هو استهلاك غير عقلاني ولا يمت للواقع والمستقبل بصلة بل هو يمثل الحاضر وفوضوي لا يؤدي الى استهلاك المنتج الداخلي ولا تطويره بل استهلاك الواردات الخارجية او الانفاق على الملذات بدون حساب او تقييم مدروس!.
الاستهلاك الجنوني في العالم العربي!:
كلما تقدم الزمن بنا كلما ازداد جنون الاستهلاك في العالم اجمع ومنه بالتأكيد العالم العربي لانه يتأثر بالظروف الخارجية.
جنون الاستهلاك اصاب قطاعات واسعة ضمن شعوب العالم العربي لم تكن في السابق بسبب شيوع البساطة والفقر، وهي ناتجة من عدة عوامل اهمها الجهل والتخلف وضعف الوازع الوطني والديني او تجاهل التخطيط العلمي المرتكز على العقل والمنطق وعدم وجود منافذ استثمارية قادرة على امتصاص الفوائض المالية المتوفرة بالاضافة الى ضعف الاستقرار بصورته الاجمالية... كذلك وجود حالة نفسية في الرغبة المحمومة في التعويض عن الحرمان الذي اصاب الاسلاف ولو بتجاوز المعقول! ولذلك نجد ظهور وقائع جنونية لا يمكن وصف اصحابها الا بالسفاهة والحماقة والجهالة المرضية مثل شراء ارقام تلفونات معينة بمبالغ خيالية او شراء آثار وسلع تذكارية من المزادات العالمية بمبالغ تفوق القيمة الحقيقية بكثير او نقل السيارة الشخصية ذات المواصفات العالية بالطائرة! الخ من السفاهات المتداولة على اوسع نطاق ونقلتها وسائل الاعلام المختلفة...كما ويمكن اضافة عامل مهم ومختلف وهو ان التقدم التكنولوجي الحديث يضيف الينا سلعا جديدة بعضها موجود ولكن بصيغ متنوعة كأن تكون اسرع في الاداء واكثر دقة من السابق او اخف حجما او مصنوع من مادة معينة! مثل قطع جهاز الكومبيوتر واجهزة الموبايل وغيرها التي تتبدل خلال فترة قصيرة جدا هذا بالاضافة الى المستحدث من السلع،وكل ذلك يضيف اعباء استهلاكية جديدة على الدخل الاسري واكيد ضمن القوائم الاستهلاكية يدخل البذخ والتبذير من خلال استخدام سلعا وخدمات ليست فقط بلا اهمية بل وايضا عدم استخدامها! وهذا ناتج من الكثافة السلعية افقيا وعموديا والتي تضعف التركيز على الاستهلاك الامثل الذي يكون بعيد المنال وبخاصة امام تيسر الكثير من السلع والخدمات للجميع باسعار متيسرة!.
يفرح المستهلكون اذا شاهدوا انخفاض اسعار سلعا معينة فيقوموا على الفور بالشراء وتلك هي الحمى الاستهلاكية التي تصيب الغالبية(في الماضي كانت تقتصر على الفئات الثرية فقط) بحيث يصعب على دعاة الاستهلاك العقلاني الامثل ان يقفوا بوجهها!...الخطورة تكمن هنا في ان تعدد وكثرة السلع حتى لو صاحبها انخفاض في الاسعار فأن القائمة العددية سوف تزداد مما يعني ان المجموع سوف يكون اكبر وبالتالي فأن قوائم التكاليف تزداد بمرور الزمن حتى لو تم الاستغناء عن مجموعة جديدة لصالح اخرى اكثر حداثة منها،ومن مآسي التقدم هو الكثرة الهائلة في اعداد السلع المنتجة!.
لقد اتبعت الشركات والمؤسسات في العالم اجمع طرقا واساليب علمية وعملية واستفادت بقوة مهينة من علمي النفس والاجتماع بالخصوص في خلق وتهيئة بيئة تجعل الانسان مكبلا ولا يستطيع الفرار امام زحف المنتجات وتنوعها! بل وصلت الحالة الى استخدام النصوص الدينية للترويج التجاري وهذا يعني استغلال كافة نقاط ضعف الانسان وسلب معاني وجوده!...فقد ابتدعت المؤسسة الانتاجية الواحدة صناعة عدة اشكال والوان وبطرق متعددة للمادة الواحدة فكيف بعدد غير محدود منها فعلى سبيل المثال يمكن رؤية الحليب مصنوعا بعشرات الانواع التجارية الموجودة في مكان واحد والتي تهيئ المستهلك نفسيا لاستخدامها حتى لو كان مستخدما لنوعا واحدا وهذا يؤدي الى جعل زائر الاسواق التجارية في عصرنا الحالي حتى لو كان غرضه شراء سلعة معينة، فأنه يخرج منه مسلوب الارادة وفاقدا للوعي من خلال شراءه لسلع ليس في مخيلته ابدا سواء نيته شراءها بل وحتى استخدامها بعد ذلك! ويمكن لكل فرد استعادة جزء من ماضيه للتأمل.
الحديث بالتأكيد عن طرق التسويق طويل بل واصبح علما يدرس على نطاق واسع بغية الربح الكبير من بيع السلع والخدمات وهو يستخدم مختلف الوسائل لغرض الايقاع بالمستهلكين حتى ينفقوا من ميزانيتهم الخاصة التي كان من المفروض ان تذهب بأتجاه الادخار الاستثماري الذي تشعبت طرقه ايضا ولكن لم يقف بوجه حمى الاستهلاك الجنوني، حتى ظهرت متعة غريبة تضاف الى المتع الحسية المستحدثة تسمى:متعة التسوق!.
الجديد ضمن ايضا خلق المزيد من الاجراءات التي تشجع على الاستهلاك وهو ابتكار حساب مدين للبنك يسمى(كريدت كارد او بطاقة الائتمان) تسهل اجراءات الشراء حتى لو كان المستهلك مفلسا! من خلال الدفع المؤجل بفوائد عالية...لا بل الحكومات ايضا اصابها داء الاستدانة الداخلية والخارجية والانفاق بدون حساب حتى ظهرت لدينا ظاهرة جديدة تتمثل بالدول المفلسة والتي يتنافس الجميع فيها على مساعدة المفلس لكونه يسبب خطرا على الاستقرار العالمي من خلال تشابك المصالح الدولية وتداخل الاقتصاديات الدولية مثل حالة اليونان وايرلندا وايسلندا ومن قبل المكسيك والارجنتين وغيرها،ومن هنا اصبح الدين الحكومي والشعبي مرتفعا الى درجة خطيرة جدا تجعل اعباء الديون مهلكة ومعوقة للانتاج والتطوير وتستهلك معظم قدرات الدخل القومي.
اغلب الاستهلاك الجنوني يرتكز في منطقة الخليج وبعض الفئات الثرية في الدول الاخرى،والغريب ان الحكومات لم تعمل ما يكفي لكبح جماح هذا التطرف بل العكس من ذلك قامت بسياسة غريبة اقرب للجنون منها للواقعية المثالية وتتمثل في انتاج كميات كبيرة من النفط الخام والغاز الطبيعي وتصديره الى الخارج بأسعار زهيدة دون مراعاة الحاجة الفعلية او حجم الاحتياطي المتبقي للاجيال اللاحقة من هذه المادة الناضبة!...ويكفي للمقارنة التوضيحية هي ان النرويج وهو بلد يتفوق متوسط دخل الفرد فيه على جميع بلدان الخليج...لم يستعن كالاخيرة بالعمالة الاجنبية واستغلال اغلبها في ظروف غير انسانية في بناء اقتصاده المتطور بل اعتمد على قواه العاملة الوطنية هذا مع العلم ان النرويج كانت اساسا بلدا متطورا قبل اكتشاف النفط بعكس دول الخليج وليبيا وهنا يمكن الفرق الرئيسي من خلال قدرته على تدبير امثل لاستغلال العائدات النفطية في مكانها الصحيح قبل اكتشاف النفط في بحر الشمال في بداية السبعينيات من القرن العشرين وكمية الاحتياطي النرويجي هي دون اغلب دول الخليج بفارق كبير لكن الانتاج كان مرتفعا الى حد ما مع ملاحظة وجود التكاليف العالية للانتاج تخفض بموجبها العوائد وبالرغم من ذلك ساعدت على بناء فوائض مالية متراكمة استخدمتها الدولة في احسن ظروف الاستغلال الامثل ثم احتفظت بالباقي في صندوق سيادي للاجيال اللاحقة بعيدا عن تشجيع الاستهلاك الجنوني بدون حساب وتحويل المواطن المحلي الى عاطل كلي او جزئي او مقنع دون الاهتمام بتطويره تقنيا وفكريا بصورة صحيحة تبعده عن الاتكالية والاعتماد على دخل مادة ناضبة! كذلك فأن النرويج لم تسير في سياسة الانفاق العالي على الامن والتسلح فهي بلدا ديمقراطيا مستقر ليس هنالك من تهديدات خارجية عليه او نزعة ديكتاتورية تهلك الحرث والنسل!.
التقاليد الاجتماعية في العالم العربي هي عامل مهم في رفع درجة الاستهلاك وتخفيض درجة الادخار،فمثلا الاستهلاك المفرط للمواد الغذائية عند اقامة الحفلات والمناسبات المختلفة والتقدير المبالغ في اضافة الضيف كذلك فأن التركيز على السلع الغير ضرورية ولو من باب تقليد الاخرين يؤدي الى نفس الطريق مثل باب الصرعات الغريبة المستوردة...صحيح ان بعض التقاليد الاجتماعية مفيدة التي تحد من الاسراف والاستهلاك الغير مجدي مثل قلة استهلاك الكحول ومرتادي الحفلات الليلية او الاعتماد على الطبخ المنزلي الا انه قد حلت محلها تقاليد اخرى مغايرة وكأنها تعويضا للايجابيات من التقاليد الاجتماعية! من قبيل عدم استغلال الاناث في تطوير الذات او افساح المجال لها في المساهمة في تنمية الدخل القومي وبالتالي تعطيل فعالية نسبة كبيرة من المجتمع لا تتسبب بتخفيض نسبة الدخل الفردي بل وايضا تضيف مستهلكين جدد همهم الوحيد التعويض عن حالة الفراغ من خلال الاستهلاك المفرط للسلع والخدمات ولذلك نرى ان متوسط دخل الفرد في جميع الدول العربية منخفض بالمقارنة مع الدول المتقدمة لان قطاعات نسوية واسعة لا تعمل مع وجود عمالة اجنبية كثيفة ومحرومة من الحقوق الاساسية التي تنص عليها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية واجورها دون المستوى المتوسط للمعيشة!.
الاستهلاك المؤدي للانتاج هو السائد في الدول المتقدمة صناعيا وهو غير موجود في الدول العربية وبخاصة الاكثر استهلاكا منها،لانه مهما ارتفع الاستهلاك المحلي فأن اغلب المنتجات المستهلكة هي مستوردة مما يعني بقاء ضعف القدرة على سد النقص في السوق الداخلية من خلال اقامة مشاريع انتاجية تسد الاستهلاك وتستثمر الاموال والطاقات البشرية المحلية،وهذا يعني ان الاستهلاك هو استنزاف سلبي لا يفيد في الدورة الانتاجية وعليه فأن الخلل الرئيسي يقع على عاتق الحكومات لانها تقود الاقتصاديات العربية ولا تدعم القطاع الخاص المعروف بأنتهازيته المقيتة! من خلال تشريع قوانين متشددة تحدد سلوكياته المنحرفة وتقومها من جهة وتساعده في قبول التقاليد الحديثة في العمل وتطبيق المعارف التكنولوجية التي تضعه في واجهة المساهم الرئيسي في الدخل القومي وتحويله الى عنصر انتاجي يقوم بتشغيل العمالة المحلية المدربة بدلا من عنصر خدمي يستغل الثغرات لملء الفراغات!.
الخلاصة:
من الخطأ التصور بأن العالم العربي وحده غنيا بالثروات الطبيعية في هذا العالم!...فاذا وجدت على ارضه بعض الثروات الكبيرة مثل النفط فأن النقص موجود ايضا في موارد اخرى مثل ندرة المياه وبعض المعادن الاخرى ووجود الصحراء القاحلة والطقس السيء والتي لا تشجع على السكن والاستثمار!...اذا الحالة متوازية وليس لنا فضل على الاخرين الا بالعمل والتقوى! وهما كلمتان موجودتان نظريا ومفقودتان عمليا!.
من الضروري تشجيع الحكومات والشعوب على اتباع طريق الادخار الايجابي وتسهيل الاستثمار بغية امتصاص الفوائض المالية من خلال خلق قاعدة صناعية وزراعية متفرعة مع الانفتاح على الاقتصاد العالمي.
ضرورة العمل على فرض ضرائب تصاعدية ليس فقط على الاثرياء بل وعلى كافة السلع والخدمات الغير ضرورية وهذا يؤدي بدوره الى تخفيض الاستهلاك وتوجيهه نحو واجهة اخرى سواء استهلاك جديد او الادخار!...كما وتخفيض الضرائب على السلع الضرورية او الاستثمار.
فرض ضرائب تصاعدية على سوق الاعلان حتى يمكن تحجيمه والتقليل من حالة الاعلانات الفوضوية وبخاصة في الشاشة الصغيرة.
تشجيع الادخار بكافة الوسائل وبخاصة رفع اسعار الفائدة والاستفادة من تجارب الاخرين وتطبيقها محليا فأذا فشلت فالواجب اختيار طريق اخر،وما اكثر التجارب العالمية التي تصرخ علينا بضرورة تطبيقها!...لا يمكن الوثوق بصحة النتائج الا اذا كان هنالك تصحيح سياسي يواكب عملية التنمية ويصحح مسارتها بدلا من التغطية على اخطائها!.
فالحياة لا تسير بأتجاه واحد ابدا...سواء فكرا او عملا!.
التعليقات (0)