ثائر ضد الحريم : قصة قصيرة :
هو في هذا العالم وحيد فريد، وفقير، وضائع في أرقى درجات الضياع، أما الناس الآخرون الذين يعيشون حياتهم في سلاسة، وطبيعية، رغم المشاكل التي قد يكونون يعانون منها، لكنها لا تظهر له إلا مجرد تفاهات سرعان ما يمكن التغلب عليها حسب فهمه. أما حياته هو، فهي معنىً جديد للحياة التراجيدية التي يمكن أن يستغرق فيها أي امريء. لو كان يعلم أن حياته ستؤول في الأخير إلى هذا الضياع، لتوسل لأمه أن لا تنجبه وتخرجه إلى النور أبدا، ولأبقت عليه داخل أحشائها، على الأقل سيكون في راحة تامة، يأكل ويشرب، ويتسكع بحرية داخل رحم أمه، ويحس بدفء الحياة الذي أصبح يفتقده في كل الأوقات.
إن المسافة التي تربط بين مكان عيشه في "كراج" ، لا يبدو عليه أي شيء يوحي بالحياة، وبين أمكنة أخرى في ذات المدينة، قد ملت من افتراسه لها في كل وقت وحين وكرهت رؤيته في لحظات كانت تود أن تغير من الوجوه التي ترتادها وتقطعها. كانت تتمنى أن ينسى أو يتناسى في يوم من الأيام عادته القبيحة هذه. لكن دون جدوى. فعزاؤه الوحيد هو التنقل والحركة ورؤية الناس والأماكن والمرافق التي يراها في مخيلته أنها مجرد أشياء جامدة وميتة لا تسمن ولا تغني من جوع.
أما الزوار الذين يزورونه بين الفينة والأخرى، في النهار، لكي يقضوا معه ساعات الروتين القاتل أو لكي يسمعوا منه قصة حياته التي رواها لكل من يعرفه ومن لا يعرفه. المهم هو أن يجلس إليه المرء ويطرق معه موضوع النساء، أو تمر من أمامه فتاة أو امرأة متزوجة يظهر عليها عدم الحشمة في لباسها أو في مشيتها أو نظراتها، حتى يسترسل في سب النساء وقذفهن بأقذع النعوت والشتائم، ويهيم في قصة حياته مع زوجته التي جرجرته في المحاكم بالقضايا والدعوات والشكايات وأظهرت له الوجه البشع للمرأة وكيدها وكرهها للرجل، بل جعلته يعيش حياته الباقية على حكي قصتهما، فصار حكيم زمانه ينصح هذا بأن يحترس من النساء، ويتوعد ذاك بما سيؤول إليه لو هو وضع ثقته العمياء فيهن... فكان من زواره من يشاركه نفس الهموم فيذهب معه في نفس الاتجاه، ومن يحاول الدفاع عن المرأة ويغير من رؤيته التشاؤمية عنها. وكنت أنا من الصنف الثاني، كلما طرح قصة حياته للنقاش إلا وأحاول أن أثنيه عن أفكاره السوداوية وأبين له أن ليس كل النساء سواء كما أنه ليس كل الرجال سواء، وأنه لو حاول إصلاح ذات البين بينه وبين زوجته لنجح في ذلك. ولكن لا حياة لمن تنادي. فالرجل متشبع بفكر الكراهية لعموم النساء، وليس بمقدور أي أحد أن يغير اقتناعه ذاك.
لو كان باستطاعته فقط أن ينتقم من جميع النساء بلا رحمة وبدون متابعة أو محاكمة، ثم بعد ذلك يرتاح، ولا يطلب من الدنيا شيئا آخر، لفعلها وأراح ضميره منذ أن ذاق أول طعم للخيانة والمرارة من قبل زوجته. ولسوف تصبح هذه الحالة عنوان خروجه من الأسر الذي طوق نفسه به. لكن ريح الزمن جرت بما لا يشتهيه " نور الدين"، وبقدر قوة هذه الريح وطغيانها وجبروتها، والتي ما استمعت إلى توسلاته، كانت نهايته التي شارك في صنعها بيديه فأصبح يئن أنينا عظيما، ويعاني معاناة ما بعدها معاناة.. !
إنه تماما كالصدى يصدر من أعمق نقطة في جب الحياة الدفين ! بل كقطعة خشب تطفو فوق محيط عظيم !
في ذاك المكان الضيق في "كراج" بارد، كان عقله يحمل آلاف الأفكار السوداوية حول المرأة، ويملك ما لا يملكه أي شاعر في الدنيا من الأقوال والحكم التي تنزل المرأة من أعلى هرم في عقل وقلب أي عاشق، وغالبا ما كان يعلن بصفة الحقود أفكاره تلك ومواقفه المتطرفة أمام الجميع، وحتى أمام النساء أيضا، كي يثير حفيظتهن ويدخل معهن في نقاش حامٍ سرعان ما ينقشع بمجرد انسحابهن من أمامه.
كان الروتين والوحدة عاملان إضافيان لتتجه قناعاته نحو التطرف والحقد والضغينة للجنس اللطيف، ظنا منه أن المرأة هي سبب تشرده وضياعه وروتينه القاتل هذا، فلولاها لما اضطر إلى الاغتراب عن أولاده لينتقل إلى مدينة أخرى من أجل العمل وتحقيقه لقمة العيش لها ولأولادها، إنها بالنسبة إليه، تلك اللعنة التي أصابته منذ أن عرفها وارتبط بها. ورغم ذلك الشعور الحاقد عليها وعلى الارتباط بها، فإنه مازال يتصلبالمرأة ويمارس معها الجنس، وغالبا ما يترك مقر عمله ليذهب إلى قريته بمدينة أخرى لقضاء ليال ملاح في حضن عشيقته هناك ليشبع رغباته الحيوانية ثم يعود بحمولة فكرية متطرفة أكثر حول المرأة، إنه يعيش انفصاما في الشخصية تجاه المرأة بصفة عامة.
يبدو في فكره الغامق، وكأنه مخلوق من عالم فريد وغريب عن باقي العوالم، كما لو أنه يسبح في فضاء عقيم لا يبين أي شعور أو حياة، والاقتراب منه أحيانا يولد عند المرء شيئا من السوداوية تجاه كل شيء. ليخرج قليلا من الحقيقة المتمثلة في الكون، والبادية لجميع الناس الذين عرفوا أننا مجرد عابرين في سكة الحياة هذه حتى ولو عمرنا عقودا من السنين. بينما كان الناس الآخرون يعيشون حياتهم كما هي بمحاسنها ومساوئها ثم يحمدون الله على كل شيء، لازال هو في مكانه يستغرق تفكيره في كيفية الوصول إلى الانتقام. كان ومازال يستمع لصوت واحد يحرضه على الضياع والبقاء خارج الظل، ألا وهو صوت الأمية والجهل.
- فلتنتقم لشرفك، إن النساء حبائل الشيطان، أفاعي، لا يليق بهن الحب والرحمة...
كان "نور الدين" رجلا بدينا وقصير القامة، ويبدو عليه الفقر وعدم القدرة على مواجهة الحياة الصعبة، فهو يريد الحياة السهلة، ولذلك قرر أن يتعاطى السمسرة في كراء الشقق في الصيف وغيرها من المهن التي تماثل السمسرة، إضافة إلى عمله القار الذي كلفه به صهره ليبيع له الشقق المتبقية من الإقامة السكنية.
إن الصوت الذي يدفع"نور الدين" إلى الانتقام، هو نفس الصوت الذي يدفع العديد من الناس إلى القتل المجاني للأبرياء، ويرمي بهم في عالم مليء بالظلام والسواد والضياع، وهو نفسه الصوت الذي يجعل بعض الذين يتحكمون في مصير هذا الكون بالمادة يقتولن ويحتلون ويذبحون باسم قيم لا نعرف عنها إلا أنها لا تمنح لأي كان الحق في التحكم في الناس باسم أي مبرر. فكان عليه أن يواجه هذا الصوت، على الأقل لأنه ليس لديه طموحات نفطية أو استعمارية أو غيرها من الطموحات التي تعطي لتلك القوى الأخرى لتفعل الأفاعيل.
من الأكيد، كان عليه أن يعيش حياة أخرى غير هذه الحياة العفنة، مثلما جميع الناس في بلادي من حقهم أن ينعموا بحياة سعيدة وهادئة، وعلى السياسيين الذين يتقدمون للانتخابات ببرامج غير ذات جدوى ولا منفعة أن يغيروا من رؤيتهم للناس على أنهم أغبياء وجهلة ومتخلفون ولا يعرفون غير منطق البيع والشراء في كل شيء. إنهم بهذا الفعل الشنيع يكرسون أمثال "نور الدين" ومن يسير في ركبه. كان عليهم أن يدرسوا حالة الناس قبل أن يقدموا برامجهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويحاولون الحفاظ على القدر الأدنى من الكرامة والشفافية التي يدعونها عند كل مدخل انتخابي. فالاستغلال ذميم ويجعل من البلاد فريسة لكل غريب ويجعل من أهلها لقمة سائغة لأي تيار ثقافي أو سياسي أو اجتماعي يقضي على قيمهم أبدا.
هل أصبح "نور الدين" خارج التاريخ بحمله لثقافة التطرف ضد ما هو أنثوي؟ أم أنه دخل التاريخ من أبوابه الواسعة بحكم التغير الحاصل في حقوق المرأة والدفاع عنها في كل مكان، وصار ورقة جديدة للضغط على المنادين بهذا التغير؟ من الضروري أن نضعه ومن هم في شاكلته في موقع المعارضة والوقوف ضد كل تغيير أو تقدم في هذه الأمور التي إذا تم التراجع عنها، فإننا سنكون قد فقدنا الكثير قبل الانطلاق من جديد. هذا ما يمكن لأي عاقل أن ينتهي إليه ويستخلصه من هذه الأفكار. !
عزيز العرباوي
كاتب
التعليقات (0)