قد يكون المشهد الأمريكي كما يتراءى للكثيرين يُخفي ما يُخفيه ليحول دون وضوح الرؤيا وبالتالي يقود إلى أحكام تستند إلى الظاهر وتفتقر إلى الأسس التي ينبني عليها التحليل الموضوعي بما يجعل تلكم الأحكام غير منصفة ومتسرعة وحمقاء.لكن،حتى في هذه الحالة،فإنّ الحجة تقوم على أمريكا ذاتها لأنها تعمدت التعتيم والمراوغة والإيقاع في الخطإ،وهو ما لا يليق بالدولة الأعظم المهيمنة على النظام الدولي منذ أن أعلنت منتشية انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي،وسعت إلى أن تحتكر هذا الانتصار لذاتها دون شريك وأن تمتلئ ثقة بالنفس أشبعتها غرورا وصلفا وكبرياء فأصبحت –على حدّ تعبير عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية- "المكلّفة إلهيّا..بتشكيل النظام الدولي الجديد.ويُعزّز ذلك أنّ عددا من مفكّري هذه القوّة العظمى اعتقد بأنّ الانتصار على الشيوعية.. يُمثّل نهاية التاريخ باعتبار أنّ النظام الرّأسمالي وديمقراطيته أثبتت بهذا الانتصار نجاعته القاطعة ومن ثمّ فمن صالح المجتمعات العالمية الأخرى أن تتبعه باعتبار أنه النظام الأفضل،وذلك حتى نهاية الحياة على الأرض."
الكثير من المفكرين والساسة بمن فيهم من كانوا يتخندقون في المعسكر الشرقي المنهار سلّموا بالنظرية التي تعطي الأفضلية للرأسمالية والديمقراطية وراهنوا على اكتساحها العالم وتحمّسوا لها وبشّروا بها جهرا وسرّا،وربما،حتى في صلواتهم.
إذن أين تكمن المشكلة ؟
المشكلة التي أثارت حفيظة العالم،كلّ العالم تقريبا،تكمن في التكتيك-ولا أقول الإستراتيجية- الذي اعتمدته أميركا وهي تنفرد،كقطب أوحد (كما خُيّل لها)، بقيادة العالم:
- تعاملتْ مع "الدب الروسي الجريح" بالكثير من الاستخفاف والاحتقار وعملت بكلّ شراسة على الإجهاز عليه وهو يشكو لها عيوبه فيما سمّي وقتها ب"الغلاسنوست"-الشفافية- ويتوسّل ب"البيريسترويكا"-إعادة بناء الذات-فإذا هي تستدرجه إلى تدمير الذات...ومع ذلك لم يتعاطف العالم مع الدبّ المتهالك بل تشيّع لأمريكا واعتبر أنها من حقها وهي المنتصرة أن تثأر لنفسها من المتاعب التي تسبب لها فيها عدوّها الألدّ "الشيطان الأكبر الأحمر" إبان الحرب الباردة...
- كانت دول العالم تتطلّع إلى الولايات المتحدة لتملأ الكون عدلا وحرية وأمنا ورفاها،ولتمدّ يدها المباركة إليها داعية إلى جهد مشترك لإصلاح ما أوهمت بأنّه ناتج عن طبيعة الحرب الباردة،بل ما اعتُبر نتيجة لدكتاتورية "معسكر الشرّ" الاتحاد السوفياتي...إلا أنّ سيّدة العالم الأولى فاجأت الجميع بالوعيد والويل والثبور لكلّ مارق عن طاعتها ثم تخيّرت ضحاياها من بين الأنظمة الحاكمة الأكثر تخلّفا وإرهاقا وحماقة لدول أنهكت شعوبها الحروب وأذلّها الاستبداد فضلا عن أنها لا تشكّل ثقلا في التوازن الدولي ،كما الحال في مثالي العراق وأفغانستان...إذ أنّ جريمتيهما-مهما ضُخّمتا-كان يُمكن أن تعالجا بقدر أوفر من الحكمة وبعد النظر،ودون الالتجاء إلى العصا الغليظة أو،على الأقلّ،دون تجاهلها للثمن الأخلاقي الذي تدفعه مقابل إفراطها في استعمال القوّة.ومهما كانت ذرائع أمريكا المعلنة-والتي ثبت عدم صحّة أغلبها-فإنّ الأرجح يجد تبريره في رغبة الانقضاض على خصم متهالك ضعيف من أجل تسجيل انتصار توهمت أنه مؤكّد لغاية إرهاب الدول التي تُشكّل عليها خطرا جدّيّا،أي تلك المرشحة لتشكيل عالم متعدّد الأقطاب...
- ليس مفهوما-رغم الحرص على التأريخ للقرن الواحد والعشرين-بأحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية-أن تستنفر أميركا قوّها ومعها الحلفاء والأتباع ضدّ خطر مزعوم اسمه التطرّف الديني الإسلامي،يطارَد شبحا بالحديد والنار،فيتأذّى الملايين من المدنيين الأبرياء بين قتلى وجرحى ومشرّدين ومسجونين وجياع دون اعتماد وسائل أخرى أكثر تحضرا وإنسانية مثل نشر العدل والديمقراطية والرفاهية في العالم لقطع الطريق عن الحقد الأعمى...وإنه لمن الدفاع عن "محور الخير" رفض إتيانه لفعل "محور الشرّ"،كما أنه لمن الدفاع عن شرف عنفوان القوّة وهيبتها رفض استعمالها للبطش بضعفاء لا حول ولا قوّة لهم...
-ليست هذه البلدان الضعيفة المتخلّفة التي تحاربها أميركا أو تفرض عليها إرادتها هي التي تشكّل خطرا عليها،لا في الحاضر ولا في المستقبل المنظور،إنما-كما لا يُخفى وعلى أمريكا بالذات-هي تلك التي تملك وجاهة المواجهة كذلك المارد الأصفر-الصين- الذي بإيديولوجيته وقوّته الاقتصادية المتنامية وترسانته النووية ونسله الكثير يُعلن حضوره،دون ضجيج،كقطب جديد منافس لها ومهاب،بل إنّ دولَ ما تسمّى بحديقتها الخلفية هي اليوم أكثر جرأة وتمرّدا على وقارها وهيبتها من الدول الإسلامية مجتمعة-وإن كانت لا تُجمع على شيء...ويُمكن أن نسترسل في سرد القوى الفاعلة في العالم المرشّحة للمطالبة بحقّها في أن تكون من بين أقطابه رافضة انفراد أميركا بهذا الامتياز،يمكن أن نسترسل،دون أن نغفل حلفاءها في "القارّة العجوز" –كما أجاز بوش السماح لنفسه بنعتها- فأوروبا،ضمن اتحادها،تعمل من أجل أن تسترجع أمجاد عظمتها وصنعها للقرار العالمي،كما أنه لا يُمكن اعتبار روسيا قد لفّها النسيان وأقعدتها الهزيمة والهوان،فهي إذ تتحامل على نفسها وتجمع قواها الخائرة وتعيد بناءها من جديد فمن أجل الثأر لكرامتها المهدورة والإصرار على إسهامها في صياغة نظام عالمي ليس-حتما- كما تريده أمريكا...وقد يكون الشأن مماثلا لليابان التي تُدرك أنّ براكين جغرافيتها وزلازلها لا تختلف كثيرا عن براكين غضبها المكتوم وعقلية شعبها الانتحارية...بل إنّ إسرائيل تلك المدللة في عقر البيت الأمريكي لا تتردّد في النيل من شرف ذلك البيت الذي آواها وحصّنها ودلّلها.
تُرى هل النظام الدولي الجديد حمّام دماء؟..وإلا لماذا تستنفر أمريكا قواها وتستنزفها في معاداة العالم العربي والإسلامي وتزجّ به في صراع ديني من صنع مخابراتها،ليس مستعدّا له ولا راغبا فيه بحكم انشغاله بحروبه الداخلية وتخلفه وجهله؟..لماذا تتورّط أمريكا في مستنقع العراق وأفغانستان فتلطّخ وجهها بالوحل وتستميت في تقديم تضحيات "جهادية" بذات الإيديولوجية الراديكالية التي يعتمدها عدوّها "الشبح"؟...لماذا توقع بنفسها في مصيدة ثأر الدّم من سيفها المتوحّش؟..
"لماذا-والقول لميخائيل غورباتشوف-ترفض الولايات المتحدة الفرصة السانحة كما لو كانت لا تعرف أيّ وجه من خبزها يُدهن بالزبد؟"...
التعليقات (0)