لاح لها الكوخ على تلة جبلية بارزة، يتنفس الهواء الرطب المنبعث من المحيط، وغمائم تلهو في سمائه يكسوها البياض في طرف ظل الشمس وفي طرف آخر تتمدد كمن جلس من النوم لتوه؛ لاح لها الكوخ كزهرة شقت صخرة فكشفت عن احمرار وجناتها يكسوها الندى الصافي؛ هذه اللوحة بعثت في ( نبع ) قشعريرة لم تستطع تحديد كنهها.
كان ( رواية ) ممسكا بيدها اليسرى وهو يقود السيارة وقد وضعت ( نبع ) يدها اليمنى على يده فبدت داخل صدفة بحر تضم شيئا ثمينا خوف الافلات منها وهي لا تكف عن النظر إليه، والشمس ترغب في إعادة لعبة الاختباء اليومية، ومذياع السيارة يصدح بعزف على العود هدية منها بالبريد الإلكتروني بعد أشهر من التعارف عبر أحد مواقع المحادثة، وقبيل إحدى الحوارات الطويلة التي تبادلاها؛ سألته:
نبع: هل سبق وأن صرّحتَ بحبك لأحدهم؟
رواية: .. لا أظن ذلك.
نبع: وكيف يمكنك إشعار أحدهم بحبك؟
رواية: آه .. وهل يمكنني أن أسأل السؤال ذاته؟
نبع: صورة انفعال
رواية: ؟
نبع: !!!
رواية: دعيني أقول لك شيئا.
نبع: تفضل ( صورة ابتسامة )
رواية: في إحدى سفراتي وكانت إلى بريطانيا لدراسة اللغة الإنجليزية سألتني إحدى المعلمات أثناء رحلة ذات السؤال.
نبع: هل فاجأك الأمر؟
رواية: أبدا .. بل لم أعره أيَّ اهتمام.
نبع: لماذا؟
رواية: لا أدري .. ربما لأنني لم أفهم السؤال حينها؟
نبع: والآن .. ما الذي تفهمه من سؤالي؟
رواية: ما أفهمه شيء .. وأثره شيء آخر ..
نبع: هل بالإمكان البدء بأحدهم؟
رواية: بل الاثنين معا وفي وقت واحد.
نبع: وكيف ذلك؟!
رواية: أعزف لك ..
كان الصوت المنبعث من السيارة عزفه ، إذ قامت بحفظه وأرسلته كملف على بريده الإلكتروني مما دعاه لحفظه في ذاكرة خاصة تخرجه عبر مذياع السيارة. أعادت ( نبع ) النظر في وجهه مرة أخرى .. فعرتها هزة مما حدا بها أن تخلل أصابعها بين خصلات شعره الذي عاد كما كان مصطحبا ابتسامة منه ونظرة منها.
رواية: لِمَ تصطحبين معك هذه الحقيبة الجلدية؟
نبع: وهل سألتك عمّا تقوم به الآن؟
رواية: يبدو أنكِ لم تفعلي.
فتحت يده حركت أصبعها داخل راحة يده وكأنها تكتب شيئا، ثم أغلقتها إلا أنه لم يستطع تخمينه لانشغاله بقيادة السيارة في شارع متعرج ..
رواية: هل دخلت صومعة من قبل؟
نبع: أظن أنني دخلت أماكن عبادة متعددة .. ولكن لماذا تسأل؟
رواية: لأننا ذاهبون إلى صومعة..
نبع: صومعة!! .. إلا أن رنين جوالها قطع كلامها .. كانت عبارة عن عزف العود، رمقت جوالها فوضعته على الوضع الصامت ..
رواية: لماذا لا تجيبين على الهاتف؟
نبع: لا أعتقد أنني أملك الوقت لأحد ..
رواية: ربما يكون اتصالا هاما .. وبارتباك أجابت
نبع: وما أنا فيه أهم .. فعرت وجنتيها حمرة سرعان ما انتقلت إليه عندما نظر إليها مما اضطره لفتح شبابيك السيارة كلها، انتفضا في لحظة واحدة .. ونافس صوت الهواء صوت العزف الصادح من مذياع السيارة فمدت يدها لتعلي الصوت ثم أمالت كرسيها للخلف مغمضة العينين.
وقف بسيارته المنهكة أمام الكوخ مباشرة، وكأنه بروز طبيعي في الأرض لولا بوابته وشباكه الكبير، كوخ جزمت من أول وهلة أنه بُنِيَ في قرون سلفت، تبرز منه مدخنة يصطف بجانبه خشب مقطع، وترى ستارة بيضاء خلف الشباك الكبير ومظلة أمام البوابة يجلس تحتها أصايص ورد بين أحمر وأصفر وأبيض. الهواء يحن على الكوخ والشمس كانت تلعب لعبتها بالاختباء خلفه ولا يرى سوى ضياء وردي منبعث بخجل من الشباك .
ترك مقعد السيارة وانطلق نحو بابها وفتحه منحنيا مادا يده اليسرى ..
رواية: تفضلي يا أميرتي.
نبع: هذا كثير أيها الأمير.
رواية: دعكِ من ذلك .. تفضلي إنها صومعة ( رواية ).
نبع: على اسمك؟
رواية: سابقا..
نبع: ماذا تعني؟
رواية: ما إن تدخلينها يصبح اسمها ( نبع ).
انتفضت..
رواية: يبدو أن الهواء مال للبرودة.
نبع: ليس من برودة الهواء وإن كان.
أعطاها علبة مخملية مطوقة بشريط أصفر .. فتحتها فرأت مفتاحا متعرجا نقش عليه بشكل زخرفي يوحي بقرون سالفة.
نبع: هل هذا مفتاح صومعتك!
رواية: بإمكانكِ أن تبدئي مراسم النساك.
نبع: أحتاج لمرشد..
أشار لها بأن تتقدم، ثم طلب منها الوقوف أمام باب الكوخ، ذو المظلة الخشبية المفرغة وتتدلى منها عناقيد العنب من خلاله. أهداها وردة حمراء، ثم وضعتها في علبة المفتاح، ولم تجد مكانا مناسبا لها إلا ( روزنة ) – تجويفا مربعا – بجانب الباب .. يدها لا تسكن لتضع المفتاح مكانه .. أخذت نفسا عميقا .. ركزت .. تمالكت نفسها .. فتحت الباب..
التعليقات (0)