منذ أن قرر الرئيسان السابقان، البريطاني توني بلير، والأمريكي جورج دبليو بوش، على تحرير العراق وأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حاول خصوم بلير في بريطانيا، وخاصة من اليساريين، وحتى من داخل حزبه (العمال)، تشويه صورته والإساءة إلى سمعته بتلفيق شتى الاتهامات ضده، والمطالبة بإجراء تحقيقات متتالية حول شرعية دخول بريطانيا مع أمريكا في الحرب التي أطاحت بنظام البعث الفاشي في العراق، للانتقام منه، وذلك لاعتقادهم الخاطئ أن صدام حسين كان يسارياً لكونه كان معادياً لأمريكا الإمبريالية "عدوة الشعوب" حسب اعتقادهم. فاتهموه بالكذب على البرلمان والشعب البريطاني وخدعهما بالإدعاء عن إمتلاك صدام حسين لسلاح الدمار الشامل. وكان آخر هذه المحاولات لجنة تشيلكوت التي روجوا لها كثيرا منذ مدة، والتي استجوبت العشرات من الشخصيات المتنفذة ذات العلاقة، السياسية والدبلوماسية والقانونية وغيرهم. وكان يوم 29/1/2010 هو اليوم التاريخي المشهود "الملحمة" حسب تعبير صحيفة الغاردين، والذي كان خصوم بلير ينتظرونه على أحر من الجمر، آملين في تصفيته معنوياً وأخلاقياً وسياسياً بالضربة القاضية، فجلبوا نحو مائتين من أعدائه في تظاهرة احتجاجية ضده أمام البناية التي أجري فيها الاستجواب، ولكن كالعادة، خيَّب بلير أملهم، فخرج من ذالك الاستجواب الذي دام ست ساعات، منتصراً، شامخاً وصامداً صمود الأبطال، باعتراف نقاده.
شيء عن فلسفة التاريخ
لو كان الفيلسوف الألماني العظيم، هيغل حياً في عصرنا الراهن، لاتخذ من توني بلير وجورج دبيلو بوش دليلاً قاطعاً على صحة نظريته حول وجود القوة الروحية المطلقة المحركة للتاريخ البشري. ففي كتابه القيم الموسوم: (محاضرات في فلسفة التاريخ) يعتقد هيغل أن القوة المحركة للتاريخ تتمثل في الفكر المطلق أو الروح المطلق. في حين يتفق ماركس مع هيغل أن التاريخ تقدمي ومتحرك إلى الأمام بشكل حتمي في مساره العام وعلى المدى الطويل، وعن القوة المحركة له خارجة عن وعي الناس، إلا إنه (ماركس) يختلف عن أستاذه في تحديد هذه القوة، إذ يعتقد أن القوة المحركة للتاريخ هي مادية تتمثل في وسائل الإنتاج ونمطه، أي العامل الاقتصادي.
ولذلك، فعندما غزا نابليون بونابرت ألمانيا، وشاهده هيغل يتفقد جنوده وهو على صهوة حصانه، علق بسرورر رغم احتالال مدينته قائلاً: (اليوم شاهدت روح التاريخ على ظهر حصان)، لأن هيغل كان يؤمن أن نابليون وأمثاله هم الذين يمثلون روح التاريخ البشري فيحركونه إلى الأمام. ومهما قيل عن دوافع نابليون من حروبه، إلا إنه كان مدركاً لمهمته، إذ كان هو نفسه من نتاج المرحلة ليقوم بالمهمة التاريخية المطلوبة، فقام بغزو أوربا ونقل إليها مبادئ الثورة الفرنسية (الاخاء والعدالة والمساواة)، وأشعل في شعوبها روح الثورة والتمرد على التخلف والاقطاع، اقتداءً بالثورة الفرنسية. وهكذا اشتعلت أوربا عن آخرها في ثورة عارمة، وحروب أهلية طاحنة ضد الانظمة الاقطاعية المتخلفة، والانتقال إلى مرحلة تقدمية ديمقراطية جديدة. ونابليون هذا هو نفسه الذي وقف مخاطباً جيوشه التي كانت تدك أسوار القاهرة في أول حملة على منطقة الشرق سنة 1798، قائلاً :«انتم اليوم أيها الجنود الأشاوس تقومون برسالة جليلة في قلب الشرق، فأنتم تجلبون أنوار الحضارة والتمدن للشرق الغارق في ظلمات الجهل والتخلف». لذلك فنابليون أراد فعلاً نشر أنوار الحضارة، فالحملة الفرنسية كان لها دور رئيسي مهم جداً في النهضة المصرية الحديثة.
مهمة بلير وبوش التاريخية
وعلى هذا الأساس أعتقد جازماً أن بلير وبوش هما من نتاج مرحلة العولمة التاريخية، فرضهما قانون (الضرورة والصدفة) لإنقاذ شعوب منطقة الشرق الأوسط من انظمتها الهمجية المستبدة المتخلفة، وإدخالها في عصر الحضارة الحديثة. وكان قيام منظمة القاعدة الإرهابية بأحداث 11 سبتمبر 2001 هو ضمن مفارقات التاريخ التي جعلت الدولة العظمى تعيد النظر في حساباتها، وتغير موقفها من دعمها للأنظمة المستبدة التي ترعى الإرهاب إلى شن الحرب عليها وإسقاطها والعمل على قيام أنظمة ديمقراطية مكانها. وهكذا فإن ما قام به بن لادن، زعيم القاعدة، كان وفق (ربَّ ضارة نافعة) وقانون (الضرورة والصدفة)، حيث فرضت الضرورة على الدولة العظمى في عصر العولمة، عدم ترك الشعوب الضعيفة المقهورة تحت رحمة الطغاة من أمثال الملاّ عمر وصدام حسين وغيرهما، بحجة أن معانات هذه الشعوب هي شؤون داخلية، وبأن عليها أن تحرر نفسها بنفسها كما يعتقد البعض، فجرائم هذه الأنظمة لا تؤذي شعوبها فحسب، بل وتؤذي أمريكا نفسها، بل والعالم كله، إذ كيف لهذه الشعوب أن تحرر نفسها بنفسها بعد أن جردها الطغاة من كل سلاح المقاومة، وجعلوها لا حول لها ولا قوة؟
وبعد إسقاط الفاشية في العراق، ثارت ثائرة القوى المعادية لبوش وبلير، من اليمين واليسار المتطرفين الذين أعتقدوا خاطئاً بأن صدام حسين هو يساري وإشتراكي، لا لشيء إلا لأنه كان معادياً لأمريكا، رغم أنه دمر القوى اليسارية في العراق بسراديب التعذيب المظلمة وأحواض الأسيد المذيبة للأجساد البشرية. ومن هنا تنطبق عليهم مقولة لينين: (إن اليسار المتطرف واليمين المتطرف يلتقيان في نهاية المطاف ولكن عند حوافر الفرس). وهكذا التقى اليساريون في أوربا مع أعتى القوى اليمينية الرجعية بما فيها التنظيمات الإسلامية المتطرفة، بل وحتى مع قوى الإرهاب البعثي- القاعدي في العراق، كرهاً لأمريكا، واعتبروا هذا الإرهاب "مقاومة وطنية شريفة" قاموا بدعمها مادياً وتمجيدها معنوياً.
بلير ولجنة الاستجواب والصحافة البريطانية
كان خصوم بلير يتوقعون له الهزيمة في هذا الاستجواب، وأن يعترف بـ"الخطأ" ويعتذر، ولكن كما ذكرنا آنفاً، خيّبَ أملهم، إذ أصر بكل قوة أن قراره في إسقاط صدام كان صحيحاً، والشعب العراقي والعالم اليوم أفضل بدون صدام، وأن الشيء الوحيد الذي لم يتوقعه هو دور إيران والقاعدة التخريبي في زعزعة العراق بعد التحرير. وأنه غير نادم على ما قام به، ولو أتيحت له الفرصة مجدداً لعمل الشيء نفسه.
دام الاستجواب ست ساعات، وخرج منها بلير منتصراً باعتراف العديد من خصومه في الصحافة البريطانية، (أدناه مقتطفات منها) وأنه كان يعمل وفق قناعاته وضميره دون أن يتأثر بابتزاز الشارع له، خاصة عندما يكون المرء في موقع المسؤولية الخطيرة كرئيس دولة كبرى مثل بريطانيا، يرى أمن بلاده مهدداً من قبل حكومة مارقة تخطط لامتلاك سلاح الدمار الشامل. فكما علقت صحيفة الاندبندنت المناهضة لتحرير العراق وبلير وبوش، كتبت على لسان بلير مانشيتاً يقول: "لا اعتذار.. لا ندم .. واذا عاد الامر لي، فان ايران ستكون الخطوة القادمة". وهنا تكمن عظمة بلير وشجاعته وصراحته وإلتزامه بالواقعية، وما تتطلبه سلامة الحضارة البشرية من إجراءات شجاعة لحمايتها من تهديدات بلطجية الدول المارقة من أمثال صدام حسين بالأمس، والرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، اليوم.
وترى صحيفة التايمز في افتتاحيتها التي حملت عنوان "قضية 2010 " :"انه اتضح بعد ست ساعات من الاستجواب ان توني بلير مازال مع قرار حرب العراق وانه يعتقد ان الحرب كانت شرعية وان السلام لم يتحقق كما يأمل تماما. كما انه ذكر بقدراته الكبيرة، اذ لم يكن فصيحا ودقيقا وعميق التفكير حسب، بل اظهر رغبة تثير الاعجاب في تحمل مسؤولية قراره."
وفي تقريرها الرئيسي على صفحتها الاولى، تشير الغارديان الى أن بلير خرج من ما أسمته "ملحمة" الساعات الست من التحقيق امام لجنة تشيلكوت بأصراره على انه "غير نادم" على الاطاحة بصدام حسين، قائلا ان العالم بات اكثر أمنا وأن العراق قد استبدل "يقينية القمع" بـ "لا يقينية السياسة الديمقراطية".
موقف أعداء العراق من التحرير
المشكلة أن أعداء التغيير في العراق يتحججون بما يجري فيه من إرهاب ومشاكل وعقبات أمام نمو الديمقراطية، فيلقون اللوم في كل هذا على بلير وبوش، بل وحتى أولئك الذين كانوا مع تحرير العراق، ينتقدونهما على عدم التخطيط الكافي لما بعد التحرير. فيرد عليهم بلير، أنه لم يكن هناك شح في التخطيط، ولكن البعض من التخطيط كان خاطئاً، إذ لم يتوقعوا التحرك الإيراني والقاعدة بهذه الضراوة لتخريب العراق الجديد. لا شك أن القيام بعمل هائل كتحرير العراق من أعتى نظام طاغوتي، لا بد وأن تبرز أمامه مشاكل غير متوقعة.
وسبب آخر للتذمر من بوش وبلير، أن البعض، وحتى من بعض الناس المؤيدين لإسقاط البعث، كانوا يتصورون أن العراق سيقفز مباشرة بعد تحريره، من استبداد البعث الفاشي إلى ديمقراطية الدول الغربية العريقة. وهذا مستحيل ومخالف لقوانين التطور الاجتماعي. وبما أن هذا التحول السريع لم يحصل مباشرة بعد سقوط حكم البعث، راح هؤلاء ومعهم البعثيون وأنصارهم، يروِّجون أن الشعب العراقي غير مهيأ للديمقراطية، وأن أمريكا فشلت في العراق. وهذا طبعاً مجرد تمنيات ورغبات، فالمشروع الأمريكي في تحرير العراق وبناء دولة ديمقراطية حقق نجاحاً كبيراً، حيث تحقق العديد من الإنجازات الكبرى في هذا المضمار، مثل: الدستور الدائم، والانتخابات العديدة، والبرلمان، وهناك عشرات الأحزاب ومئات الكيانات السياسية، ومئات الصحف، وعشرات الإذاعات والمحطات التلفزيونية الفضائية، معظمها تابعة للقطاع الخاص، وليس للحكومة أية وصاية عليها أو على حرية التعبير والتفكير. كما وهناك المئات من منظمات المجتمع المدني، والشعب مازال يتعلم قواعد الديمقراطية، والإرهاب في تراجع. وهذا انتصار للشعب العراقي كما هو انتصار لبير وبوش.
ومن المفيد هنا أن نذكِّر القراء الكرام بما قاله الرئيس بوش بهذا الخصوص: "لقد مرت فترة كان العديد يقولون أن الثقافتين اليابانية والألمانية ليستا قادرتين على استدامة القيم الديموقراطية، لقد كانوا على خطأ والبعض يقول الشيء ذاته عن العراق، وهؤلاء أيضا مخطئون". ويؤكد "أننا لم نخلف وراءنا جيوش احتلال وإنما تركنا دساتير وهيئات برلمانية ولم نخلف أعداء دائمين بل وجدنا أصدقاء وحلفاء جدد". كما وقال في مكان آخر: "ان الديموقراطيات الناجحة تحتاج الى وقت كي تنمو كما فعلنا نحن. لقد استغرقت رحلتنا نحو الاندماج والعدالة 200 سنة".
المهم هنا أن نجح الشعب العراقي، وبدعم من أصدقائه، في أزاحة العقبة الكبرى (حكم البعث) عن طريق الديمقراطية والحداثة، وراح يحث الخطى لبناء دولته العصرية الديمقراطية كتحدياً الصعاب. هذا الكلام من الصعب أن يفهمه ويقبله الذين تبرمجت عقولهم بالآيديولوجيات الشمولية التي أكل الدهر عليها وشرب، فهم سجناء كهوفهم المظلمة، ولا يستطيعون التفكير خارج صناديقهم المقفلة، ومصابون بعمى الألوان، فلا يفرقون بين التحرير والاحتلال.
أجل، بلير المنتصر دائماً، لقد انتصر في تبوئ قيادة أعرق حزب ديمقراطي بريطاني يهتم بالعدالة الإجتماعية والحرية، وحقق الكثير من الانجازات للشعب البريطاني خلال رئاسته للحكومة لعشر سنوات، ولأول مرة أستطاع أن يفوز حزبه بقيادته لثلاث دورات برلمانية متتالية، وانتصر مع بوش في إسقاط أشرس وأعتى الأنظمة الرجعية الفاشية في العالم، حكم طالبان في أفغانستان والبعث الفاشي الصدامي في العراق. وحتى في استقالته من قيادة الحزب والحكومة في حزيران 2007، كان منتصراً حيث خرج مرفوع الرأس، ولأول مرة في تاريخ بريطانيا يصفق النواب ويقومون له احتراماً عندما غادر البرلمان بعد إلقاء خطبة الوداع. وآخر نصر حققه هو في يوم "ملحمة الساعات الست" في 29/1/2010، التي أفحم فيها لجنة تشيلكوت بكل رباطة جأش وصمود وصراحة وشجاعة وإصرار على صحة قراره في إسقاط الفاشية في العراق، وخرج منها منتصراً مرفوع الرأس باعتراف خصوصمه "لا اعتذار.. لا ندم .. واذا عاد الامر لي، فإن ايران ستكون الخطوة القادمة".
وكعراقي، اقتلعني البعث مع خمسة ملايين عراقيين آخرين، من وطني، أشعر بعظيم الامتنان إلى الرئيسين، بلير وبوش على إسقاطهما للنظام الفاشي العاهر، وتحرير العراق، ومنح شعبه الأمل في مستقبل مشرق بالديمقراطية والاستقرار والازدهار.
فألف تحية للسيد توني بلير، متمنياً له المزيد من الانتصارات.
د.عبد الخالق حسين
نقلا عن الموقع الشخصي للكاتب
التعليقات (0)