أحسب أنه لم يعد من اليسير على التونسيين غلبة نظرتهم المتفائلة على تلك المتشائمة حول مآل الثورة التونسية،ومع ذلك يبقى التفاؤل قائما،ولعلّه من أهمّ مبرّراته ذلك التشاؤم الذي تلمسه من خلال إحساس عام بالتوجس والقلق وعدم الاطمئنان:إنه تشاؤم يجوز وصفه بـ"الإيجابي" لأنه يترجم وعيا بالانحرافات ويقظة للتّصدّي لها...
إننا إزاء وضع محكوم بحالة توتر ناتجة عن خشية من تشويه مقاصد الثورة،وعن انزعاج من الطبول التي تقرع لإفراغها من دلالاتها الحضارية عن طريق خطاب غوغائي ومضلل ومراوغ يسعى،عن قصد أو غير قصد،إلى الإيهام بأنه يختصر المسافة لبلوغ المنشود بتحريض الناس على الغوص في رموزهم الثقافية بتعلّة أنها تتيحه بناءٍ الذات "المُهشَّمَة،والحال أنّ تلك الرّموز،بما نالها من تحريف وتجريف وما تردّت فيه من جمود وقصور عن التطور،كانت سببا من الأسباب الرئيسية في إعاقة الإنسان العربي عن الانعتاق والانخراط في المدنية الحديثة بمعنى القدرة على إثرائها إنجازا ماديا وحَقْنا أخلاقيّا...الحقيقة أنه ليس ثمّة ما يُدلّل على حالة قطيعة بين العرب ورموزهم الثقافية،إنما الذي حصل هو إنهاك لتلك الرموز بالنهل منها تعويلاً على "بَرَكَاتِها" دون شحنها بما يجدّد الحياة فيها خصوبة وإبداعا ومُلاءَمَة مع المتغيّر كما تفرضه سنن التطور الكونية...
ودون الانسياق وراء ما يعدّ ترفا فكريا لا يغني من جوع "في الليالي العجاف" التي يتزايد ضغطها علينا راهنا ،فإنّه من قبيل مضيَعة الوقت وهدر الجهد والتجني على المجتمع التمادي في إلهائه بأنّ همّه الحارق ناتج عن إيهامه بتنكره لجذوره وانبتاته عن هويته الإسلامية بما يترتّب عنه شطر المجتمع بين مسلمين (على هوى أحزاب ادّعت احتكارها للإسلام فهما وتأويلا) وآخرين جاز تكفيرهم وربما استباحة دمائهم ،تماما كالسعي إلى شطر الشعب الواحد بين فقراء وأغنياء،وبين محرومين في جهات محرومة وآخرين محظوظين في جهات مرفّهة،وبين فائزين بنتائج الانتخابات وفاشلين في امتحانها،وبين دستوريين بورقيبيين وتجمعيين جازت لعنتهم وآخرين من أصول دستورية يوسفية(نسبة لصالح بن يوسف) ومنسلخين من تلك الأصول لفائدة حزب السلطة النهضوي الذي تتسع رحمته للجميع من أتباعه،وبين مناصرين لإعلام عمومي يوصف لدى مناهضيه بمعاداته للثورة وإعلام ثوري يتهمه الشق الآخر بانخراطه في أجندا مشبوهة تتزعمها فضائية الجزيرة القطرية....والقائمة تطول تحتاج إلى توصيف وتحليل.
وفي الوقت الذي تحصّن المتّهمون بالفساد الأكبر(الرئيس السابق وزوجته وأصهاره) بقلاع "أنصار الثورة" في البلاد الشقيقة التقليدية جدا والصديقة الديمقراطية المتحضرة،يعكف البعض من أهل الذكر الجدد على استدعاء الرموز الثقافية من دهاليز الماضي البعيد والقريب وحتى من اجتراح الحاضر الثوري لتكون جاهزة في كل هذا الجهد المحموم لافتعال انقسام المجتمع وتحريضه على التباغض والتخبّط في مصيدة الرموز والمصطلحات والعنتريات التي أنتجت خطابا ضبابيا يستهلك فضائل الثورة الشعبية ويمعن في تحويلها إلى أسطوانة مشروخة منفّرة ولغة خشبية محنّطة في محاولة لإطعام الشعب من الوهم بتشجيعه على الاكتفاء بلعنة استبداد الماضي وتمجيد عذرية الحكام الجدد وسنوات السجن والاضطهاد التي عاشوها ماضيا وكأنّ في ذلك حلاّ سحريا يعالج معضلات الحاضر ويفتح الأفق على مستقبل بلا مُنَغّصاتٍ لكل أبناء الوطن الواحد.
إننا إزاء أحداث جُلُّها ضاغط وغير مرغوب فيه شكّلت تداعياتها حالة نفسيّة غير مألوفة تماما كالراهن الاستثنائي غير المألوف قبل الثورة...
لكن كيف،والحال تلك،يجوز التفاؤل على ضوء ذات التوصيف المتشائم وفي أجواء سحب الضباب الكثيف المحلية والدولية التي تعتّم الرؤية ؟
ليس من اليسير اختزال إجابة ضافية وشافية في وصفة سريعة كما نروم،غير أنّ التركيز على ما نراه الأهم قد يفي بالحاجة كالآتي:
1/ خصوصيات تونس شعبا وجغرافيا ومناخا وتاريخا تُرجِّح القدرة على إبطال مفعول ألغام الشطط والتطرف والتباغض والحماقات لفائدة التعافي بالتوافق والتعايش والانصراف إلى إثراء الرصيد الحضاري في ظرف مفصليّ من التحولات التاريخية الكبرى...تونس،بحكم خصوصياتها الملهمة للتّميّز، تحُوز على قدر وافر من الحظ في تخطي الصّعاب من باقي الدول العربية وفي مقدّمتها تلك التي طالها "الربيع الثوري"...
2/ محيط إقليميّ وعالميّ يتّجه نحو تغييرات عميقة لا ترحم المغفَّلين بما يُحتّم الحذر والحيطة مما يحاك من تآمر على إرادة الشعوب في العلن والخفاء في إطار صراع القوى المهيمنة التقليدية منها والجديدة الصاعدة،وفي ظلّ الإدراك بأنّ العالم العربي ليس طرفا فاعلا في هذا الصراع بقدر ما هو مفعول به. وتونس بحكم وموقعها وتواضع ثرواتها الطبيعيّة وحيويّةِ شعبها واعتداله وتجانسه يجعلها غير معرّضة للأطماع العالمية الشرسة وأكثر قابليّة من غيرها على امتصاص وقع الهزّات.
3/ ثمة إجماع معلن من النخب السياسية الفاعلة في البلاد وخارجها على أنه لا سبيل لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة إلا باعتماد آليات الديمقراطية في التداول على السلطة وإدارة الشأن العام بما يعني التناغم مع إرادة الشعب في أن يكون هو السيد والحكَم ومصدر الشرعية التي لا تعلو عليها شرعية أخرى مهما صوّغت لنفسها من مبرّرات...
4/ ثقة الشعب التونسي في امتلاكه لسلطة القرار،حاضرا ومستقبلا،يجب أن نعُدّها من المبررات الرئيسية في منحه لثقته بأغلبية نسبية لفائدة فصيل سياسي مناضل بخلفية إسلامية (النهضة)،فضلا عمّا مثّلته التجربة التركية الإسلامية الرّاهنة من إغراء واستهواء لجمهور عريض من التونسيين.والإغراء ليس بسبب الخلفيّة الإسلاميّة،فحسب،بل بالأساس في اقتران هذه التجربة التركية بالديمقراطية والتنمية المتطوّرة... الثقة التي حصدتها "النهضة"،كحزب سياسي، يجب أن تُفهَم على أنها سلاحٌ ذو حدَّيْن،إذ هي،من ناحية،رسالة تأكيد من الشعب على تشبّثه بهويّته الإسلامية المستنيرة واعترافه بالجميل لنخبه المناضلة،ومن ناحية أخرى،هي اختبار للتوجّه السياسي الإسلامي الذي لم تُتَحْ له،سابقا،تجربة مردوده وجدارته بالقيادة إلاّ من خلال "النوايا الحسنة"...وعليه فالامتحان جدّيّ وعسير يجتازه حزب النهضة الذي،رغم ما بدا عليه من ارتباك في الأداء وازدواجية في الخطاب،ما يزال بإمكانه التدارك متى عدّلت قياداته في الحكم وقواعده أوتارها على نبض الشارع وتناغمت مع قضاياه المُلحّة...
5/ مؤسسات الدولة لا يجب أن تكون فوق حرّية المواطن وكرامته وحاجاته الحياتية الضرورية،بل هي تستمدّ منها هيبتها وشرعيتها،وعليه فإنّ صمّام الأمان للحيلولة دون الالتفاف على الثورة وإجهاض مسارها الانتقالي هو الشعب التونسي الذي أثبت حيويته ويقظته وثباته على التصدّي لتَغوُّل السلطة وانحرافها وعلى خذلان المراهنين على حالة الاحتقان والهيجان الشعبي لجرّه إلى الفتنة والحرب الأهلية وبالتالي إلى ذهاب ريحه..
6/ تشكُّلُ وعيٍ شعبيّ لافت ومطمئن مفادُهُ أنّ المطلوب من النخب السياسية في السلطة وفي المعارضة ليس أن تغازل الشعب برحابة صدرها في التعامل مع ضغوطاته وتعداد مناقبها وكراماتها عليه بما يُنمّي لديها العقلية الاستعلائية،إنما المطلوب منها أن تشتغل على معالجة ما لم يتحقق ولا بتمجيد ما تحقق ، وأنّ مهمّتها الأساسية ليست،فقط،أن تبرهن على قدر وافر من التسامح،بقدر ما هي مطالبة بالنجاح في إجادة إدارة الاختلاف في المجتمع وإشاعة مناخ التعايش والتوافق بين كلّ أبناء الشعب،دون استثناء أو اقصاء أو إهمال لأيّ طرف...ذلك أنّ الإشتغال على خطاب من هذا القبيل هو شرط جوهري لإرساء مجتمع الحرّيّة وتكريس مفهوم المواطنة القائم على المساواة،بما يُفضي إلى انخراط الجميع في شراكة حقيقية لخدمة الوطن وتنمية ثرواته والذود عن حماه بكل حماسة واندفاع وإخلاص...
7/ تأكّد عدم الاستعداد التونسيين للتنازل عن استقلال القرار الوطني في أكثر من مناسبة بعد الثورة ومهما كانت المبرّرات المسوَّقة مثل التّعلّل بالحاجة إلى دعمِ شقيقٍ عربيّ بعينه على حساب غيره في إطار ترتيبات مشبوهة تهدّد بارتهان السيادة الوطنية وبالتالي الزّجّ بالبلاد في قلب رحى الصراعات الإقليمية التي يُمكن تجنّبها باعتماد سياسة الحياد الإيجابي.
8/ بروز مؤشرات إيجابية لتَشكّلِ توازنٍ في القوى السياسية يعكس الاختلاف الحقيقي في المشارب والرّؤى التي هي ماثلة فعلا في المجتمع،بما يخفّف العبء على حالة الاستنفار الشعبي والتوجّس ويُقلص من مساوئها وانفلاتاتها،وهي حالة استمرّت منذ اندلاع الثورة إلى اليوم،وقد تتحوّل إلى ظاهرة مرَضيّة إن ظلّ المشهد السياسي على ما هو عليه من تشتت حزبي فاق المائة دون أن يتجمّع وينتظم في أهمّ الحساسيات التي تعكس الواقع...ولعلّ ما سُمّيَ بمبادرة الوزير الأول السابق،كان لها فضل المساهمة في بلورة هذا التوجه الذي كانت من نتائجه،إلى حدّ الآن،بروز "الحزب الجمهوري" و"المسار الديموقراطي الاجتماعي" و"المنبر" والتحاق عدد من الأحزاب بحزب "المبادرة"...فضلا عما ستفصح عنه الأسابيع القادمة من سير على منهج تشكيل الأقطاب السياسية لصالح تقلّص التشتت وذوبان أحزاب ثبت عدم وجاهة بعثها...
لكلّ ذلك وغيره،فالتفاؤل بمستقبل الثورة التونسية يبدو واعدا ومبرَّرا رغم كلّ الزّبد الذي يطفو على السطح وما نعيش من اهتزازات عنيفة وما يلوح في الأفق من تحديات جدية ومربكة...ولعله ليس من المبالغة في شيء ترجيح أنّ الثورة التونسية،كما انطلقت رائدة في انطلاقة شرارتها،ملهمة للثورات العربية بذلك الإخراج المبهر المتحضّر،فهي مرَشَّحة لتبهر،من جديد،بتخطيها المعوقات،على خطورتها،وبرسمها للطريق السالكة إلى التحصين من الاستبداد والإذلال والسيطرة على شروط ولوج نادي الدول الديمقراطية المُرفّهة...
التعليقات (0)