كلّ تغيير لاينبع من الأعماقِ مآله الخيبة والإنتكاسة .. وكلّ ثورة في غير سبيلِ إحقاق الحقِّ تصبح زوبعة هدّامة ، تنسف المُجتمع وتهوي به إلى الحضيض ، بدل النهوض به وتطويره !.. وكلّ أرواح الأموات والضحايا المبذولة حينها ، وكذا دماءَهم المُسالة ، تذهب هدرا ، رغم إرتفاع بعض الأصوات المُطالِبة بمعاقبة الجُناة والقتلة .. لأن جميع الأحياء مِن بعدهم مُشتركون في الجريمة ، وكلّهم جُناةٌ وقتلة ، لأنهم غرّروا ببعضهم البعض برفع شعاراتٍ أفلاطونية زائفة مِن مثال الحريّات الشخصية ، والتعايش السّلمي للديانات والمعتقدات ، وحقوق المُواطَنة ، والكرامة ، في وقتٍ لاتزال فيه نفوسهم ملآى بفوضى النُّبذ والبُغض والكراهية ، وبالكثير من النّزعات الطائفية !.. فهؤلاء لم يبدأوا التغيير مِن حيث كان يجب أن يبدأوه وعلى صعيدهم الذاتي الدّاخلي ، ومن الطبيعي أن يفشلوا في تغيير محيطهم الخارجي ، لأن الله لا يُغيّرُ ما بقوم من ذلٍّ ، وضعفٍ ، وهوانٍ ، وفُرقةٍ ، وشتاتٍ ، وظلمٍ ، وإضطهادٍ ، حتى يغيّروا ما بأنفسهم .. وحين لايكتمل مسار التغيير فلسان الحال يقول لأصحاب الثورات : ( إنكم غير صادقين في دعواتكم من الأساس ، وفشلكم نتيجة حتمية ومنطقية لذلك ) !..
فقبل يومين فقط ، عادت قوى القمع التونسية إلى عادتها القديمة ، وللمفارقة كان أولى ضحاياها في تونس الجديدة صحفيين وإعلاميين ، ممن كان بعضهم يُروّج في الأيام القليلة الماضية (لِنية) الجيش التونسي في الإنقلاب على الإرادة الشعبية ، فيما لو فازت حركة النهضة بالإنتخابات الرئاسية المُقبلة !.. ولم نفهم بعد علاقة ماتعرّض له أولئك الصحفيين من تنكيلٍ على أيدي قوى الأمن والجيش ، بالخبر الذي تناقلوه عبر وسائل الإعلام ؟!.. وهل كان ما إنهال على رؤوسهم وظهورهم وأجسادهم مِن هراواتٍ ، جزاءًا ونكالا بهم على تسريبات حقيقية من داخل جهاز العسكر، وإعتزام هذا الأخير الوقوف فعلا في وجه (أسلمة تونس) ، بالتالي فقمع مظاهرات الإعلاميين هو درس تطبيقي أوّلي ، ونبوءة مبكّرة ، أو لمحة خاطفة ـ لباقي فئات الشعب ـ عن مُستقبل تونس ؟!.. أم أن الأمر لم يكن منذ البدء أكثر من إشاعة وفبركة إعلامية لجسّ نبض الشارع التونسي ، ولمّا لم يكن لها أثر وتأثير أو وقع وصدى على المستمع والقارئ والمُشاهد ، إرتآى أصحاب المنابرالإعلامية إلى ترك منابرهم ، ورمي الأقلام والمايكروفونات والنزول إلى الشارع يستفزّون قوّات الأمن والجيش بألسنتهم السليطة ، وعباراتهم النابية التي تعج بها برامجهم المُتلفزة والإذاعية ، ومقالاتهم في الصّحف والجرائد والمواقع الإلكترونية ، ليجبروا الجنود وقادتهم على تصعيد الوضع وتأزيم الأمور ، لِجرّ تونس إلى حالة من الفوضى ، خدمةً لفئة تتخوّف مِن إحداث تغييراتٍ جوهرية في سياسة الدولة ، والتي عمل بن علي ـ ولعقودٍ طويلة ـ على سلخ قيم العروبة والإسلام عنها ، وتجريدها من قيم الأصالة والإلتزام ، بالتقليد الأعمى للغرب ، وبإلباسها ثوب اللادينية والعلمانية قسرا ؟!..
لتبقى السُّبل ـ في ظل تلك التجاذبات بين السّلطات ـ مُنقطعة بالمُواطن التونسي ، والذي لم يستطع إكمال مسيرة التغيير الحقيقي المُنبعثة من أريج رماد البوعزيزي ، لأن الأحياء بعد البوعزيزي ربما أقل صدقا منه وهو الذي لم يبخل بجسده الفاني من أجل إحياء الضمائر التونسية ، ومِن أجل إحياء تراث الأحرار القائل بأن الشعب إذا أراد الحياة بكرامةٍ يومًا فلا بدّ أن يستجيب القدَر .. أو لأنهم ـ أي الأحياء بعد البوعزيزي ـ حادوا عن مسار ومغزى رسالته التي أضرم النار في نفسه من أجل إيصالها ، وركنوا إلى الإستسلام للأهواء الدّونية ولسفاسف الأمور في ظلّ الإنفلات الأمني وانعدام الرّقابة ؟!..
ربما .. وربما .. وربما ؟!.. الكثير من التساؤلات تطرح نفسها حول الوضع الإجتماعي ، والسياسي ، وكذا الإقتصادي بتونس ، في ظل مخاوف بعض التونسيين من إنقطاع موارد قطاع السياحة عن الخزانة العمومية ـ على اعتباره المورد الأول للبلاد ـ في حال إزالة مساحيق التبرج العلماني عن وجه تونس العروبة والإحتشام ، وأولئك لايؤمنون بقدرة الرّزاق الذي كان يرزق المُستضعفين منهم في زمن (الحيتان والقروش الطرابلسية) التي لم تكن تدعُ شيئا ولا تذر ؟!.. وطبعا كل تلك المخاوف لايبرّرها سوى شيء واحد وهو تبدّل النوايا أو بعضها على الأقل ، في إحقاق الحق حتى ولو كان بإغضاب الغرب ، وعزوفهم عن السياحة إلى تونس وإنفاقهم لحفناتٍ من العملات في أسواقها ومُنتجعاتها !..
أمّا في مصر التي أفاقت بأبنائها البَرَرة ، من سبات الخنوع والرضوخ لرغبات المحتل الصهيوني وأطماعه وفجوره في المنطقة العربية ، فالحكاية أكبر من مجرّد الإستكانة ـ كما هو الحال في تونس ـ لأعداء التغيير الإيجابي على حساب العروبة والأصالة ، ليس لأن التركيبة البشرية في تونس تختلف عنها في مصر ، بدليل أن الشعبين كليهما إستطاعا إجتثاث أنظمتهما الدكتاتورية ، وكلاهما قطعا أشواطا كبيرة في رحلة التغيير ، بل لأن ما يوقف الرحلة في مصر أخطر مما يوقفها في تونس !..
ففي مصر يحتدم الصّراع العقائدي بين المسلمين والمسيحيين ، على إستحقاقات سياسوية عبثية لاتساوي شيئا أمام مكسب التخلّص من زبانية مبارك وجلاّديه ، والتحرّر من براثنهم وزنازينهم وأقبيتهم ومعتقلاتهم الشيطانية !.. هي نزاعاتٌ أكل عليها الدّهر وشرب (من خلال ثقافة التعايش بين مُختلف الطوائف التي تعج بها أفلام السينما ، والتي تصدّرها مصر إلى العالم على أنها الوجه الحقيقي للمواطَنة بمصر ، على الأقل) !..
في مصر ثورة 25 فبراير ، نصَب المسلم خيمته بجانب خيمة المسيحي في ميدان التحرير بالقاهرة ، وأقام كلّ منهما شعائره وصلواته على مرآى ومسمع من الآخر .. الآخر الذي لم يكن يراه كل واحدٍ منهما على أنه صاحب مُعتنَق ومُعتقد مُغايِر ومُختلف ، بل على أنه (مصري) وفقط !.. مصري له حق الإختلاف على أن يحترم الآخر المُختلف !.. واستحدثا معا رمزا مُوحّدا جمعا فيه بين الهلال والصّليب ، وقدّماه قربانا مُشتركا للسماء من أجل أن يحفضهم ربهم وربها من الفرقة ، ويحمي ثورتهم من الطائفية !..
وبدا أن الأمور تسير في وجهتها الصّحيحة ، إلى أن تفجّر بركان الطائفية الخامد بالأمس القريب ، إثر مواجهات دامية بين الفريقين على خلفية (حقيقة أو إشاعة) بأن كنيسة بحي أمبابة الشعبي ، تحتجز سيدة مسيحية لأنها إعتنقت الإسلام و تزوجت من مسلم .. ليتضح أن المسلمين كما المسيحيين وضعوا (عصبيّاتهم) خلال الثورة جانبا ، ولم يدفنوها حتى تحت الأرض الأولى فكيف بسابع أرض ؟!.. وأن صلواتهم في ميدان التحرير للوحدة لم تكن سوى مُكاءًا ، وأن نواياهم في التغيير لم تكن صادقة ، أو أنها ليست للصّالح العام ، لذلك إنتكسَت ثورتهم وغرق الشارع في الصراع والتقاتل والتناحر !..
والخلاصة هي نفسها إفتتاحية المقال : بأن التغيير الذي لاينبع من الأعماق مآله الخيبة ، وأن الله لايُغير ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم ، فليغير التونسيون كما المصريون أنفسهم أولا إذا ما أرادوا إستكمال مسيرة تغيير أوضاعهم ، والنهوض حقيقةً بأوطانهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاج الديــن | 08 . 05 . 2011
التعليقات (0)