انقضت سنة 2012 لتفصِح بوضوح عن ارتباك خطير في خطوات المسار الانتقالي الذي تعيشه تونس منذ سنتين،وهي البلد العربي المرشح أكثر من غيره،في نظر جلّ الملاحظين، على ولادة نموذج ناجح من رحم ما سمّي ب"الربيع العربي" وبأسرع وقت،وبأقلّ ما يمكن من الهزات العنيفة ومن الانحرافات الكارثية التي تتهدّد الإقليم العربي اليوم بما فيه من دول لحق حكامها لعنة الإطاحة بهم أم لم تلحقها بمثل تلك المشاهد العنيفة والدامية في ليبيا وسوريا واليمن ومصر...
يمكن اختزال واقع الحال في تونس بأنه بقي مراوحا في ذات الوضع الذي عقب سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي منذ 14 جانفي 2011 ،وهو وضع ظلّ مفتوحا على كلّ الاحتمالات،عصيّا على فكّ رموز تشفيرته وبالتالي استشراف مآله في المستقبل المنظور الذي يكتنفه ضباب كثيف جرّاء غياب خارطة طريق متّفق عليها وملزمة لكلّ الفاعلين في المشهد السياسي على اختلاف مشاربهم وتنوّعاتهم،بصرف النظر عن المتحكّمين أكثر من غيرهم في مصير البلاد سواء أكانوا في موقع من يحتكر السلطة والنفوذ أو من هو في موقع المهادن والمتفرّج والمعارض أو تلك القوى الخفية التي تخلط الأوراق من خارج الوطن في غفلة من شعبه أو لضلوعها في صرفه عمّا يُعزّز تماسكه وتضامنه ...
للتذكير،فقط،لغاية تمثّل المشهد،نقف بالخصوص على ذلك الرّهان الموثّق(في شكل وديعة) الذي التزمت بموجبه القوى السياسية المسيطرة على ثورة الكادحين المهمّشين،دون قيادة من "صنم"،باستكمال مستحقات المرحلة الانتقالية الثانية في ظرف سنة واحدة بداية من 23 أكتوبر 2011 (تاريخ انتخاب المجلس التأسيسي) بما يعني أنّ أواخر سنة 2012 سيكون حصادها دستورا جديدا راقيا ومؤسسات دولة مدنية حديثة تضاهي مؤسسات الدول المتقدّمة القائمة على الحرية والعدالة والحظوظ المتكافئة للجميع ومنع الاستبداد والفساد،فضلا عن تهيئة المناخ الملائم لثقة الشعب في نخبه السياسية وفي مؤسسات دولته الجديدة الناشئة وبالتالي انصرافه للبذل والإبداع تنمية لثروةٍ تعود عليه بالنفع وتقلص من مواطن الخلل والحيف التي كان ضحيتها،وذلك بعد أن يكون قد دُعيَ لاستحقاق انتخابي غير انتقالي تتكرّس فيه بحقّ إرادة الشعب دون شكّ في تزييف إرادته عن طريق التجويع أو التخويف أو الابتزاز...
لم يحتفل التونسيون بالحصاد الموعود كما عاهدهم الساسة عليه...تعلل الحكام الجدد الذين فازوا بثقة الشعب في الانتخابات بسوء تقديرهم للفترة الزمنية التي تستوجبها المهامّ "الجسام" التي التزموا بإنجازها والتي استفاقوا على أنها تستوجب متّسعا من الوقت أكثر مما قدّروه بأنفسهم،فصبّوا جام غضبهم على المعارضة وأزلام النظام السابق الذين اتهموهم بعرقلة "جهودهم الخيّرة" وبـ"الصيد في الماء العكر" و"خيانة أهداف الثورة" "والعمالة" و..و.. من تلك المصطلحات التي كان "الأسلاف" في الحكم يجلدون بها معارضيهم قبل الثورة...الغريب أن الذين لم يلحقهم من غنيمة الحكم الجديد غير النزر القليل وبقايا "مائدة الطعام"،سواء تمّ تصنيفهم في صفّ "المطهّرين" من فساد النظام السابق أو من المعارضة الموالية أو المضادّة،لم يتجاوز ردّ فعلهم على ما آلت إليه الأوضاع من انسداد أفق مستوى تبرئة ساحتهم من القصور والتقصير وتصيّد فرص الاحتقان التي تدفع بالشارع اليقظ إلى الهيجان والميجان للتعاطف معها وركوبها دون التمكن من الاستفراد بهذا الركوب على حساب الماسكين بمقاليد السلطة...(لا أحد احتجّ بالتخلي عن مقعده الوثير في المجلس التأسيسي..)
لكن أيّ سلطة نزعم قدرتها على امتصاص غضب الشارع والتعاطي مع الخصوم والفرقاء بما تفرضه خصوصية المرحلة الانتقالية من إدارة حوار يجمع ولا يُفرّق ومن استحضارٍ للضوابط الصارمة التي يستدعيها الطابع المؤقت لإدارة الشأن العام تهيئةً لمرحلة الاستقرار التي تحكمها مؤسسات عتيدة دائمة وتداولٌ سلميّ على السلطة لا يُمثّل فيها الأشخاص الماسكون بمتاعبها،مهما كانت عبقريتهم،غير أناس مؤتَمنين على ثقة الشعب ليست لهم من شرعية أخرى غير شرعية صناديق الانتخاب التي إن داومت على غلبة لون واحد وانفراده بالحكم آلت إلى تكريسٍ للديكتاتورية بواجهةٍ ديمقراطية،كما يحدث،مثلا،اليوم في روسيا أو إيران...
يبقى المشهد العام في تونس منقوصا إن لم نذكّر بما بلغه من تداخل وارتباك دافعيْن على الخوف من المجهول لعلّ من أهمّ تداعيات هذا الوضع الإصرار على امتلاك الحقيقة بطرح مشاريع مضللة لتختزل في مشروعيْن متضادّيْن لغاية فرض الاصطفاف إما على اليمين أو على اليساربإيديولوجيا دينية،شاهرا كلّ طرفٍ منهما سيفه في وجه الآخر بتلك المقولة المشهورة:"إن لم تكن معي فأنتَ مع الإرهاب..ا."...والحال أنّ الإرهاب بمفهومه الحقيقي غير المفتعل أصبح حقيقة ماثلة على أرض الواقع،إذ أنّ البلاد انفتحت على غير ما كان يُؤَمَّل أن تنفتح عليه فاتسعت لاحتضان الجماعات الارهابية المسلحة ولحضور ما يسمّى ب"تنظيم القاعدة في المغرب العربي" ولاستعمال الأسلحة النارية الأوتوماتيكية في مواجهة قوى الأمن والجيش سقط ضحايا من رجالاتها البواسل بعد أن استهدفتها عملية تهرئة ممنهجة داومت قرابة عمر سنتي الثورة كان آخر فصولها مواجهات مسلحة ما تزال لم تبح بكلّ فصولها في شتاء اليوم العنيد ببرده ووحشته،وهو ما يستوجب حالاّ يقظة مجتمع بكامله فضلا عن رفع معنويات رجال الأجهزة الأمنية والكفّ عن إيذائها بجرائم يقترفها الساسة ويدفع ثمنها الأبرياء...
قد يرى البعض فسحة من الأمل تدفع على التفاؤل مع حلول سنة 2013 من خلال الترويج لتحويرٍ وزاريٍّ منتظر تعتزم حركة "النهضة" الإسلامية وشركاؤها الحاليين أوالقادمين إجراءه،وهو تحوير لم يعد من قبيل التخمين في ظل مشاورات مكثفة بين بارونات السياسية منه المعلن ومنه غير المعلن في غرف مغلقة...الحقيقة إنّ الذين يعلّقون الآمال على تحوير وزاري قادم لا يختلفون كثيرا عن أولائك الذين كانوا يؤمِّلون خيرا من تلك الحلول الترقيعيّة التي كانت تُروِّج لها أنظمة الحكم السابقة كلّما أحست باحتقان شعبيٍّ أو انسداد في الأفق فتطيح بوجوهٍ استُهلِكت مقابل الدّفع إلى الواجهة بوجوهٍ جديدة لها قدْرٌ من المصداقيّة،مدّعيةً المصالحة مع المعارضين وخصومها بما تقدم عليه من احتواء لبعضهم والاستفراد بتأديب البقية شرّ تأديب...بقي القول بعدم جواز المقارنة على مستوى النتائج بين أنظمة تسلّطيّة متمكّنة في فنون التسلّط وبين أخرى من المفروض أن تكون انتقالية مؤقتة غير متمرّسة بفنون إرساء حكم الاستبداد وإن كانت خبيرة بأثر الاستبداد...
الحلّ،كما لا يختلف عليه عاقلان، في إرساء خارطة طريق واضحة تتفق عليها الأغلبية من شتى المشارب السياسية المؤمنة بالانتقال الديمقراطي وفقا لضوابطه المتَّفق عليها في الدول التي أفضت تجاربها إلى نجاحات فعلية وبأقلّ ما يُمكن من تكلفة وفي أقصر وقت ممكن،ذلك أنّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني والسياسي وصل إلى آخر النّفق ولم يعدْ يحتمل الإرجاء والتردّد إذ فاض الكأس أو كاد....
ومع أنه لا يُمكن إعدام الأمل في حيوية الشعب التونسي بنسائه وشبابه وحكمائه وبالتالي قدرته على تجاوز المأزق الذي تردّى فيه،فإنه ليس من الإنصاف بأيّة حال ألاّ نقف على العبرة من توقّف خفقان قلبِ معارضٍ من أشرس معارضي نظام الرّئيس السابق بن علي وهو الرّاحل "طارق المكّي بتاريخ اليوم 31 /12 /2012 ...العبرة الأولى يعلمها الجميع ويغفلون عنها وهي أنّ الموت تباغت الجميع..أما العبرة الثانية فخلاصتها أنّ المتعاطين للسياسة في أوج توهّج أحلام الشعوب وخذلان النخب منهم مَنْ لا تقوى قلوبهم على تحمّل الرّداءة حين تبلغ من الدرجات أدناها..أما من هم المهدّدون بالسكتة القلبية "السياسية" فلا يُمكن بأيّة حالٍ أن يكونوا من بليدي الإحساس.ا..
لقد نسبوا للمغفور له طارق المكي رئيس حزب الجمهورية الثانية أنه كتب يوم 29 /12 /2012 على صفحته الاجتماعية الخاصة به بالفرنسية ما معناه:غدا أو بعد غد سأضع على الخطّ شريطا لأتمنى لكم سنة 2015 طيبة وسعيدة...إني لا أجد مطلقا الرغبة بلعب مهزلة تمنيات طيبة بسنة 2013 ولا بسنة 2014 التي أراها أسوأ...ثمّة قرائن قوية تدعو إلى الصلاة من أجل أن ننسى السنتيْن القادمتيْن إن لم أقل شيئا آخر....
هل تحوّل المناضل السياسي الراحل طارق المكي إلى قارئ للكفّ قبل موته بيومين؟...لا أحد يدري المآل الذي تنقاد إليه أقدار تونس خصوصا أولائك الذين لا يقبلون بقراءة متشائمة تبدو أكثر انسجاما مع ما تفصح عنه الأحداث غير السّارّة وما أكثرها..
مَنْ يدري لماذا لا نصرّ على ركوب الأمل.ا...
التعليقات (0)