تونس الثورة وفرنسا المستعمر القديم
عبدالكريم صالح المحسن
باحث في الشؤون الإستراتيجية والدولية
almohsum@gmail.com
لنبدأ من ثورة الياسمين كما أطلق عليها في تونس وكما عرفت بها عالمياَ،ومثلما توقعت فقد تهافت المتطرفين الى السلطة تماما مثلما حدث في ثورة ايران عام 1979م حين اسقط شاه ايران في المقابل نجد ان اغلب حالات التحول السريعة الى الديمقراطية تفتقر الى الطابع الدرامي أي الحبكة المتسلسلة فنجد على سبيل المثال اسبانيا أعقاب وفاة فرانكو وتشيلي بعد استقالة بينوشيه وكذلك بولندا التي تفاوضت حول سبل الخروج من الشيوعية كل تلك التحركات الانتقالية مرت بهدوء وبطء دون ان تخلف كثير من الصور التي نراها اليوم وقد أثمرت في النهاية الى نظم سياسية مستقره والسبب هو وجود قادة استبداديين أدركوا ان اللعبة انتهت واستسلموا او انتهوا بالموت لكن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي افتقر الى البصيرة النافذة فبدلاَ من ذلك قام بخلق أحزاب معارضه وبرلمان زائفين وأسس نظاماَ استبدادياَ يبث الخوف والرعب في نفوس الجميع وقد اخبرني صديق فرنسي قبل أيام من خلال محادثه معه انه كان في تونس منذ أسابيع قبل وخلال الاحتجاجات ضد بن علي وقد وجد ان الصحف طرحت صوراَ شديدة الايجابية عن الرئيس كما لو ان مقالاتها كتبت بيد والدته!!
الحقيقة ان موجات الغضب التي تفجرت مؤخراَ في تونس كانت متوقعه لكنها لم تكن متوقعه بهذه السرعة وبهذا الشكل ان الناس في تونس ومناقشاتهم التي تجري في منتديات ومواقع الانترنيت تتحدث عن الأعداد الهائلة من الشباب المتعلم العاطل عن العمل والبعض يتحدث عن موجات المهاجرين من هؤلاء المتعلمين وقد ساور البعض القلق من انجذاب بعض هؤلاء الى الحركات الراديكالية الإسلامية ،ان ماحدث في تونس من ثورة هي في الحقيقة ليست ثورة ديمقراطية وإنما مانشاهده الآن هو ثورة ديموغرافية يقودها شباب محبط ضد قادة فاسدين وبصراحة ان الإحباط والبطالة لدى الشباب التونسي من أهم المحركات التي حركت موجات الاحتجاجات وليس حادثة البوعزيزي وحرق نفسه الا شمعة القدح التي أشعلت الشرارة لتدير محرك الاحتجاجات في سرعات متفاوتة ،من غير المشكوك فيه ان ابن علي وأسرته كانوا على درجة مفرطة من الشعور بالارتياح والثراء والطمأنينة غير عابهين بما يعاني منه الشباب والمجتمع التونسي بالإضافة الى ان بن علي لم يكن في قارة من الأنظمة الديمقراطية القديمة التي أصبحت الديمقراطية سلوكاَ فيها وليس مقوله يتقول بها الإعلام والمحللين السياسيين وهو دائماَ مايبرر استبداده ودكتاتوريته بالعذر المشروخ وهو الحرب على الإرهاب وقد نجح بن علي من التملص من الضغوط الأمريكية والدولية بهذا العذر وباعتباره حليف في الحرب ضد الإسلام الراديكالي .
ان فرنسا القوة الاستعمارية السابقة لتونس والمستثمر الأكبر فيها التي دللت ودعمت بن علي لعقود مادياَ وايدلوجياَ بالرغم من أنها في القرن الثامن عشر تعتبر من الدول التي طورت فكرة الديمقراطية نلاحظ اليوم كتابها والمعلقين والنخب المثقفة فيها قد طورو فلسفة نستطيع ان نصفها بأنها مناهضة للديمقراطية وأعطيكم بعض الأمثلة لذلك فقد رفض معلق في صحيفة "لوفيغارو" الإيمان الساذج ب "الترويج للديمقراطية"وكتب يقول ان جميع الأمم "لها حق في تأريخها"أهم من "حقها في الديمقراطية" وكذلك فقد صرح الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يوما قائلاَ"أهم من حقوق الإنسان هو المأكل والخدمة الصحية والتعليم والسكن"وقد انهى قوله بان تونس يعتبر بلداَ (متقدماَ للغاية)طبعا وفق هذا المعيار فلاشك من ان ابن علي كان يؤمن بذلك حتماَ وقد تشدق كثيراَ بخطابه الزائف عن الإصلاح في ذات الوقت فهو يخلق بطانة وحاشية فاسدة خلفت مجتمعاَ راكداَ متبلداَ حيث لايوجد للشباب المتعلم والشابات المرتديات الجينز فرص للنجاح ولم يجد مواطني تونس في ظل جمهورية بن علي أي سبل للعيش الكريم .
لقد بدأت الاحتجاجات والتظاهرات بانتحار درامي لشاب جامعي عمره 26 سنة لم يستطيع ان يجني رزقه من خلال عمله كبائع خضروات متجول أضرم النار بنفسه في 17 ديسمبر 2010 بعد ان صادرت البلدية عربته وصفعته الشرطية التونسية "فادية حمدي" وأهانت كرامته لم يجد بداَ الا ان يترك الحياة ملهباَ أفئدة الملايين للثورة ضد الظلم والطغيان وغياب العدالة الاجتماعية والفساد الذي انتشر في كل اوصال تونس والنهب المستمر للمال العام من عائلة الرئيس وأصهاره .
لنحو أربعة أسابيع متواصلة ظل الشعب التونسي يواجه آلة الموت التي لم يتردد بن علي من استخدامها بقسوة بالغة على سمع وبصر العالم ولم نسمع أي من المسؤولين الفرنسيين أي كلمة إدانة لهذا القمع المنصب على المواطنين العزل يطالبون بالحرية التي فقدوها ل23 سنة ظل خلالها جلادهم يتلقى آيات الثناء وشهادات التميز ممن اسموا نفسهم العالم الحر المختص دون سائر العالمين بالسهر على حريات وحماية حقوق الإنسان أما فرنسا التي تفترض نوعاَ من الوصاية الأبوية على مستعمراتها السابقة وتونس من بينها ليس بالجديد أن تساند حكومتها الأنظمة الدكتاتورية والدكتاتوريين في العالم الثالث, وان تتدخل لإنقاذهم من أزماتهم , في كل مرة تقتضي مصالحها الآنية أو المستقبلية ذلك , ولكن الجديد في سياسة تدعي أنها تفهم أكثر من غيرها شؤون مستعمراتها السابقة أن ترتكب أخطاء سياسية وأخلاقية لا تضر فقط بالنخب الحاكمة الحالية, وإنما كذلك بفرنسا التي تدعي أنها تحافظ على ميراث عريق في مساندة حقوق الإنسان والمواطن والدفاع عنها.
لم تجد فرنسا الا أن تعرض وزير خارجيتها "ميشال اليو ماريMichele Alliot Marie " إرسال قوات أمنية فرنسية لقمع الثورة التونسية وذلك قبل ثلاثة أيام على قيام المحتجين التونسيين بالاصاحة بزين العابدين بن علي وإجباره على الفرار من البلاد في 14كانون الثاني 2011والتي ضلت وزيرة الخارجية تواصل عرض النصائح على نظام بن علي حول كيفية تصفية الثورة التي وصفتها الوزيرة بأنها أوضاع أمنية تشهدها تونس ،ففي الوقت الذي كانت تنتشر الاحتجاجات في كل أرجاء تونس كانت "ميشال اليوماري" تقضي عطلة مابعد عيد الميلاد في تونس وقد استخدمت الوزيرة الفرنسية طائرة خاصة مملوكة لرجل أعمال تونسي قيل انه مرتبط بروابط وثيقة مع حكام تونس واشتدت ضدها الاحتجاجات بعد هروب بن علي مما اضطرت الى تقديم استقالتها فقد قالت صحيفة "لوفيجارو " الموالية للحكومة الفرنسية أن الرئيس ساركوزي أعطى الوزيرة "ميشال اليو ماري" في السادس من شهر شباط/فبراير مذكرة دعم خلال اجتماع لمجلس الوزراء الفرنسي تقول سطورها "اصمدي أصدقاؤك يقفون بجانبك" هذا هو الموقف الفرنسي ورئيسه ساركوزي الذي لم يفتح الله عليه الا مؤخراَ بتعليق أشبه مايكون بذر الرماد في العيون ماذا يمكن ان نسمي زيارة وزير الشؤون الأوروبية الفرنسي لوران فوكييه الذي زار تونس مع وزيرة الاقتصاد الفرنسية كريستين لاغارد في زيارة أولى لبحث المساعدات الثنائية الأوروبية للسلطات الانتقالية هل هم حقا جادون لمساعدات ثنائية أم هو الشباك بعد غلق الباب أما النخب المثقفة الفرنسية فقد كانت ربما مختلفه عن الموقف الحكومي فقد خاطب الكاتب الصحفي الفرنسي فرونسوا رينار القراء في بداية مقاله "انتبهوا.. سنتحدث عربي" ، مردفا : "Ana fhamtkom" أنا فهمتكم) وهي العبارة الشهيرة التي رددها الرئيس التونسي المخلوع في آخر خطاب ألقاه يوم 13 كانون الثاني 2011 وذلك قبيل ساعات من هروبه الي السعودية بتاريخ 14 كانون الثاني . وبعد تفسير العبارتين قال الكاتب أن الجميع في تونس يعرف على ماذا تحيل تلك العبارات مشيرا الى أن الرئيس المخلوع "لايفهم" ولكنه فهم أخيرا وترك البلاد بعد 23 من حكم متسلّط .
حين تجاوزت الأحداث التصريحات الفرنسية المرتبكة, أعلنت خارجيتها " أن ليست مهمة فرنسا أن تقول أن على بن علي أن يرحل, نحن أردنا أن نساعد تونس على حل مشاكلها .. أردنا مساعدة السلطة للتقدم في مجال الديمقراطية. لقد حاولنا فعل ذلك". نعم حاولوا فعل ذلك حاولوا اقتناص فرصة قد لا تتكرر بالوعود بالديمقراطية لتونس. فقد نضجت الظروف الآن لتحقيقها. نضجت الظروف وحان قطافها. نضجت على نار لم تكن دائما هادئة, كان لفرنسا نفسها شرف المشاركة والتواطؤ على إبقائها حامية متقدة يكتوي بها الشعب التونسي طيلة 23 عاما. نضجت الآن ويجب أن لا يرحل أحد. وان لا تقع القطيعة وخاصة أن التغيير غير مضمون العواقب, لأنه غير مؤسس على نصائح أو دعم الحلفاء التاريخيين و الشركاء الدائمين في تقرير مصير البلاد والعباد.
بعد السقوط والرحيل أعلن هنري كاينو المستشار الخاص لساركوزي في الاليزيه, سوء التقديرات "للأحداث التونسية" قبل السقوط والرحيل, محاولا تبرير ذلك بالعلاقات الوثيقة القائمة منذ القدم بين باريس وتونس إلى لحظة "ثورة الياسمين". " إذا كان علينا في هذا العالم عدم التحدث إلا إلى الحكومات التي تتجاوب مع معاييرنا في الديمقراطية, فعندها لا يمكننا التحدث إلا إلى عدد قليل منها". مستشهدا بقول ديغول " فرنسا تعترف بالدول وليس بحكوماتها". معتبرا, في محاولة تلطيف تصريحات وزيرة خارجية بلده, مجرد تقديرات بعد تحليل توصلت إليه بدون سوء نية.
لم يستطع المستشار المذكور بعد السقوط والرحيل إلاّ القول وكأنه يكتشف للمرة الأولى أن " تونس دولة بوليسية, لاشك في ذلك, صيغة من دكتاتورية علمانية. وفي نفس الوقت بأنها الدولة التي بذلت جهدا كبيرا في مواد ثقافة المرأة". وكأنه يريد القول: أليس هذا الجهد جهدا في حماية حقوق الإنسان؟. نكران هذا فيه تجن كبير على تونس وخاصة إذا ما صُنّفت منتهكة بالكامل لحقوق الإنسان !!! انه منطق المستشار. منطق ينسحب على من عين المستشار مستشارا.
لم تستطع النخب الحاكمة بعد السقوط والرحيل إلا لحس تصريحاتها ومواقفها الانتهازية المرتبكة, والادعاء بمساندة "ثورة الياسمين". معترفة بسوء تقديرها لغضب التونسيين من النظام الدكتاتوري لزين العابدين بن علي.في أطار هذه المدرسة الفكرية كان بن علي نموذجاَ للديكتاتور الواهم بأنه يمكن أن يخفي بغربال اشعة الشمس نعم صحيح كان مفاجئاَ للفرنسيين وللنخبة الفرنسية ولو إنهم لم يضللوا من قبل الفكر الذي يتحدث عن الديكتاتورية الكريمة والمتسامحة لكنا قد شهدنا انتقالاَ سلمياَ منظماَ للسلطة في تونس عوضاَ عما حدث من أعمال ذهب ضحيتها اكثر من مائتان وخمسون تونسياَ، في الوقت الذي تغمرني السعادة برحيل طاغية جاثم على صدر شعب طيب عربي أصيل لي الأمل أن تاتي حكومة لتونس مستقرة وغير انتقالية تجلب لهم الحرية والرخاء وكم تمنيت أن تكون عندي الثقة في أنها ستأتي وستفعل ذلك.
التعليقات (0)