لم يكن أحد يتوقع أن يتم اعتقال الصحافي رشيد نيني في هذه الظروف الدقيقة بالذات، التي يجتازها المغرب بخطوات حذرة و متثاقلة لتلمس طريق التغيير المنشود، إلا أن الرغبة في إسكات أحد الاصوات الجريئة في سماء الصحافة المستقلة كانت أسرع من أن يوقفها مسار الاصلاح الذي انطلق للتو.
فالدخان المنبعث من نار المسطرة التي تستهدف إحراق الصفحة الاخيرة من جريدة "المساء" و تستند على القانون الجنائي عوض قانون الصحافة لمتابعة مديرها، لا يُشتم من رائحته رغبة يتيمة في زعزعة الثقة في مشروع الاصلاح الذي انخرط فيه المغرب فحسب، بل هناك رغبة مضافة وهي تحييد أبرز الاقلام التي تُسطر خطا مستقلا عن تأثير الخطوط الرسمية و بات يرسم داخل مساحة ممتلئة بالألغام دائرة الخطر حول العديد من الرؤوس الكبيرة المتحصنة وراء أسوار سميكة ، والتي لم تكن لتتوقع أن تصل اليها أسهم الصحافة الحادة.
لقد اقتنع هؤلاء جميعا أن الكتابة الصحفية أصبحت اليوم تشكل خطرا فعليا عليهم، ولهذا فقد وجدوا انفسهم مجبرين على التحرك ووضع حاجز على عجل قبل أن يستمر هذا السيل الكبير من المقالات الهادفة في التدفق وينجح في الوصول إلى مواقعهم مهددا بإغراقها وجرفهم هُم نحو ردهات المحاكم.
وإذا كان البعض قد انزعج من دور الصحافة المستقلة، وعلى رأسها "المساء" ، في توجيه أسهم النقد نحو صدر المسؤولين، إلا أن هذا لا يجب أن يدفعهم إلى الصمت عقب أي محاولة يراد منها مصادرة الرأي، فالواجب الاخلاقي والمهني يملي على كل الضمائر الحية اتخاد موقف واضح ازاء هكذا خروقات والمسارعة إلى التضامن مع معتقلي الرأي والانخراط الى جانب كل الفئات في التنديد بالاعتقال التعسفي الذي كان آخر ضحاياه مدير جريدة "المساء".
لقد كان من الاولى أن يبادر الكثير من الصحفيين الى التنديد بهذا الخرق السافر الذي تعرض له زميلهم بشكل واضح لا يقبل التأويل، عوض التعبير عن التشفي في ثنايا رسائلهم المشفرة، فهامش الاختلاف، وإن ضاق في خضم الخلافات التي تطبع الآراء الصحفية اليومية، يجب أن يَحتفظ بما يكفي من مساحة موضوعية حتى يتسنى لأي كاتب رأي، له وجهة نظر مختلفة ، أن يستمتع بالحركة داخلها دون أن ينسى واجب الدفاع عنها والوقوف لحمايتها في وجه التهديدات أيا كان مصدرها حرصا على سلامة حدود الممارسة المشروعة.
لقد خاضت "المساء" معارك شرسة ضد رموز الفساد ودفعت مقابل ذلك ضريبة ثقيلة في هذه المواجهة الغير متكافئة، وقد كان من الممكن أن تنهار هي الأخرى تحت سلسلة من الضربات الموجعة والمُنهكة لولا اعتمادها على جيش من القراء استماتوا في الدفاع عن هذا المَعقل المتقدم للمنابر الحرة الذي يمثل بالنسبة اليهم موقعا هاما يطلون من خلاله كل مساء، و بعيون أمل وتفاؤل، على مغرب آخر يُبشر بأفول واقع شعب ما يزال يئن تحت قبضة الفساد الخانقة.
وإذا كانت سلطة القضاء، غير المستقلة أصلا، لم تستطع التحرك في اتجاه اولئك الذين ملَت الصحافة من ذكر اسمائهم، ملطخة بقضايا الفساد و نهب المال العام، على إثر تقارير المجلس الاعلى للحسابات، تحررت فجأة وحَركت معها مسطرة المتابعة ضد صحفي لمجرد ممارسته لسلطة لا تقل أهمية عن تلك التي يملكها القضاة، فلأن أيادي ذات نفوذ أكبر قررت فك قيودها ومنحها الضوء الاخضر للمرور باتجاه معاكس للمسار الذي تسير عليه قافلة الاصلاح بالمغرب اليوم.
ولعله من المثير للاستغراب أن يتم اللجوء إلى القانون الجنائي عوض قانون الصحافة لمتابعة رشيد نيني، بعد كتابته لمقالات في عموده اليومي، "شوف تشوف"، أماطت اللثام عن بعض من الوجوه التي لم تتعود على أن تكون أسماءها على صفحات الجرائد وهي مقرونة بفضائح الفساد وسوء التدبير.
أمام كل هذا، فمن المنطقي أن نستسلم إلى الاقتناع بأن هذه الخطوة، التي حاول البعض من خلالها محو خط المساء التحريري، عبر اعتقال أبرز اقلامه، لا تهدف الى اعاقة تقدم عجلة الاصلاح والتأثير سلبا على مصداقية الارادة المعلنة فحسب، بل إن الامر يذهب ابعد من ذلك الى محاولة تجميد هذا السيل المتدفق من المعلومات التي باتت تتوفر لدى "المساء" بالخصوص ، ولو مؤقتا ، في مسعى لترتيب أوراقهم و تثبيتها، قبل صفاء الاجواء السياسية التي بدأ تشكلها يلوح في الأفق، مخافة أن تهب عاصفة الصحافة المباغتة وتنفض الغبار عن ملفاتهم الثقيلة.
إن الذين يتوقعون أن تتغير ملامح المغرب المستقبلية عبر التعويل على هذه السحب السوداء المصطنعة، التي يدفعون بها، من حين لأخر، باتجاه معاكس لآمال المغاربة، هم مخطئون إلى أبعد الحدود، فالشعب الذي انخرط في ثورة أعطى الملك انطلاقتها يوم التاسع من مارس، هو نفسه الذي يقود حركة 20 فبراير التي تستميت في حماية مكاسب هذه الثورة وذلك من خلال الدعوة إلى تعبيد مسارها بمزيد من الإصلاحات التي ستُخيب حتما الكثير من توقعات رموز الفساد الخاسرة.
التعليقات (0)