تهويل مغرض لوقعة الطنطورة
المراقب للأدبيات الفلسطينية والعربية التي تتحدث عن حرب 48 يلاحظ حجم التهويل والتضخيم الذي تقوم به هذه المصادر ربما لأستدرار عطف الجماهير العربية والعالمية، فتارة تراها تتحدث عن (مذابح فظيعة) ارتكبها الجيش الاسرائيلي، وتارة أخرى عن (التهجير الجماعي والقسري) لسكان القرى الفلسطينية، الأمر الذي يحتم علينا تسليط الضوء مرة أخرى على بعض جوانب هذه الحرب وما رافقها من أحداث. والحديث هنا يدور عن وقعة الطنطورة وما تلاها وما سبقها من أحداث.
بداية لا بد من لمحة عن الطنطورة قبل سنة 1948
كانت القرية تنتصب على تل صغير يرتفع قليلا عن الطريق العام الساحلي المؤدي الى حيفا. أنشئت القرية قرب آثار بلدة دور التاريخية. وقد ظهر اسم هذا المكان أولا في نقش يعود تاريخه الى القرن الثالث عشر قبل الميلاد, ويذكر فيه الفرعون المصري رعميسس الثاني, كما يظهر في نص كتبه وين- آمون أحد المسؤولين في المعبد المصري, ويعود تاريخه الى 1100 ق.م. ويذكر جماعة بشرية هاجرت الى ذلك الموقع في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وتقول المصادر الاسرائيلية إن هذه المجموعة قدمت من صقلية ابان الغزو الكبير الذي قامت به أقوام يونانية وإيجية على بلاد الشام. وتذكر التوراه ان يشوع فتح البلدة، في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد تقريبا, لكن الحفريات التي أشرفت عليها الجامعة العبرية في القدس تبين أن اليهود سكنوا مدينة دور في فترات لاحقة. احتل الإغريق قرية دور (الطنطورة) في القرن الرابع ق.م، وكانت آنذاك قرية يهودية، وقد حاربوا اليهود الحمشونيين, حكام المنطقة، وعندما حاول نابليون, في أواخر القرن الثامن عشر, بسط سيطرته على فلسطين, مر جنوده المنسحبون بالقرية وأحرقوها في آب 1799. زارها هيرولد, ج, بكنغام, في سنة 1821, يصفها بأنها قرية صغيرة ذات مرفأ صغير وخان. وقال إن الطنطورة وإن لم تكن مقفرة تماما, فإن ما بقي من ضئيل آثارها لا ينبئ بما كان من عظمتها الغابرة. وعندما قام محمد علي باشا بحملته على الشام سكنت في القرية عائلات مصرية قدمت اليها من مصر، وفي سنة 1855, ذكرت ماري روجرز, شقيقة القنصل البريطاني في حيفا, أن القرية كانت تشتمل على نحو 30 أو 40 منزلا مبنيا بالحجارة والطين أو الصلصال, وأن الأبقار والماعز كانت عماد ثروة الطنطورة. في أواخر القرن التاسع عشر وصفت الطنطورة بأنها قرية ساحلية، وكان فيها 1200 نسمة يعتمد اقتصادهم على الزراعة وصيد السمك. يشار الى ان السكان العرب الذين قدموا الى القرية في الفترة العثمانية أطلقوا عليها اسم (طنطورة) في اشارة الى اسمها القديم (دور) الذي حُرّف في الفترة الأغريقية الى (دورا) ثم (طنطورة).
وقعة الطنطورة عام 1948
بعد سيطرة الجنود الاسرائيليين على حيفا خلال حرب 48، تواصلت إمدادات السلاح من لبنان عبر مرفأ الطنطورة الى قرى إجزم وعين غزال وجبع، وكان سكان قرية الطنطورة الساحلية وبمشاركة سكان القرى المذكورة الواقعة على الطريق الرئيسي تل ابيب ـ حيفا، يشنون غارات على القرى اليهودية المجاورة، ويقطعون الطريق حائلين دون تحرك الجيش الاسرائيلي والمدنيين اليهود على هذه الطريق.
وفي بحث أعد لنيل رسالة الماجستير قام به تيدي كاتس الطالب في جامعة حيفا الاسرائيلية، والمقدم للمحاضر في نفس الجامعة ايلان بابيه، بعنوان "مغادرة العرب قرى الكرمل الجنوبي عام 1948"، ذكر كاتس إن جنود كتيبة الكسندروني نفذوا مذبحة في قرية الطنطورة، الأمر الذي حدا بقدامى المحاربين في الكتيبة المذكورة الى تقديم دعوى تشهير ضد الطالب المذكور، وعلى أثر ذلك أجرت جامعة حيفا بحثا موازيا معتمدة على وثائق من أرشيف الدولة، قامت على أثره بسحب موافقتها على رسالة كاتس، وحصلت أزمة بين الجامعة وبين ايلان بابيه الذي وقف الى جانب تلميذه، ووافق بابيه على حذف جزء من البحث استنادا الى تقرير قدمه المحامي غيورا اردينست، بيّن من خلاله ان كاتس قام بتحريف شهادات المهجرين من قرية الطنطورة الذين قابلهم في وقت سابق، فعلى سبيل المثال قال الحاج علي عبد الرحمن (ابو فهمي) في شهادته التي قام المحامي المذكور بمراجعتها: "لم يحصل ان الجنود الاسرائيليين أطلقوا النار على من استسلم من شبان القرية"، فيما ذكر كاتس بعد ترجمة هذه الأقوال للعبرية "ان الجنود استمروا في إطلاق النار من رشاش كان بحوزتهم بعد استسلام أهل القرية كما قاموا بجمع السكان في مكان واحد...". وفي أعقاب ذلك رفضت المحكمة العليا استئناف كاتس، فيما اعتذر البروفيسور آسا كشير والمؤرخ مئير بعيل عن اساءتهم لكتيبة الكسندروني بعد ان نجح كاتس بتضليلهم. كما تبين بشكل قاطع ومن خلال مراجعته لأرشيف الجيش الاسرائيلي ان عدد القتلى العرب في معركة الطنطورة لم يتعدى العشرات، ويرفع البعض هذا الرقم الى 90 قتيل سقطوا خلال المعركة، ويقول المؤرخ بيني موريس إنه ليست ثمة قرائن قاطعة على حصول مجزرة خلال معركة الطنطورة، بينما يرتفع عدد القتلى العرب الى 230 قتيل! حسب المصادر العربية والفلسطينية.
وينوه تيدي كاتس في دراسته آنفة الذكر إلى أن موطي سوكلر حارس الحقول اليهودي في تلك الفترة كان قد كلف من الجيش برعاية دفن الموتى، موضحاً أنه كان قد عدّ الضحايا بعد قتلهم على شاطئ البحر وداخل المقبرة (ما يدحض المزاعم الباطلة وكأن الجيش الاسرائيلي أمر سكان الطنطورة بحفر قبورهم بأيديهم).
ويؤكد الحاج فوزي محمود أحمد طنجي( ابو خالد) أحد المشاركين في معركة الطنطورة أنه كان يعمل حارسا للقرية وكان يخبئ السلاح لتوزيعه على شبان القرية. ويضيف: "عندما كشف أمري اقتادني الجنود الاسرائيليون لجلب السلاح من منزلنا" (من الملاحظ ان الجنود الاسرائيليين لم يقتلوا الحارس بعد ان سلّم نفسه وكشف عن هويته بل طالبوه بالكشف عن السلاح فقط).
ويقول الحاج أحمد عبد المعطي (أبو فايز) من سكان قرية الطنطورة، في معرض حديثه عن ثورة 1936 خلال إدلاءه بشهادته التي تم نشرها على عدة مواقع الكترونية، "إنه في الوقت الذي شارك عدد من رجال قرية الطنطورة الى جانب الثوار العرب، كان عدد كبير من شبان القرية من عائلات منافسة يخدمون في الشرطة البريطانية". وأضاف "أن نهاية الثورة كشفت عن مؤامرات كانت تحاك (من قبل الأشقاء العرب طبعا) لإخمادها تمهيداً لتسليم فلسطين مجاناً للصهاينة". وفي حديثه عن أحداث الطنطورة قال الحاج أبو فايز: "قبل الهجوم على الطنطورة بأيام اقتحم اليهود قرية كفر لام المجاورة لنا واحتلوها بعد أن غادرها سكانها الى قرى إجزم وجبع وعين غزال. بعدها أنذرونا عن طريق مختار زُمرين بتسليم القرية دون مقاومة" (أي ان اليهود أنذروا أهل القرية مسبقا ولم تكن لديهم اي نوايا مبيتة). ويسترسل الحاج ابو فايز: "نقلنا الجنود الاسرائيليون الى معتقل ام خالد ثم الى معسكر اعتقال على شاطئ البحر وبقينا فيه مدة سنة وبعد خروجنا من المعتقل ذهبنا إلى نابلس ثم إلى طولكرم ومن ثم انتقلنا إلى الخليل و أقمنا في دير مسيحي مدة 6 أشهر وبعدها اتصل بنا أهل الطنطورة الذين فروا إلى سورية ووافق الملك عبد الله حينها على انتقالنا إلى سورية و نقلنا بالشاحنات من الخليل إلى مدينة درعا السورية" (بمعنى ان السلطات الاسرائيلية لم ترغم العائلات المذكورة على مغادرة البلاد بل خرجوا طواعية بعد بقاءهم في اسرائيل لفترة طويلة بعد قيام الدولة).
ويروي الحاج رسلان حسن أيوب أعمر أن يهود زخرون يعقوب المجاورة لقرية الطنطورة قاموا بحمايته بعد ان وقع في الأسر خوفا على سلامته، فاقتيد من ساحة المعركة وتم سجنه فيما بعد ثم أطلق سراحه وغادر البلاد.
ويشير الطبيب د. عدنان يحيى المقيم اليوم في ألمانيا وهو شقيق وزير الداخلية الفلسطيني عبد الرزاق يحيى، الى تدخّل يهود زخرون يعقوب خلال المعركة حيث سحبوا مجموعة من الشبان العرب من ارض المعركة واقتادوهم بشاحنات الى سجن زمرين ثم الى سجن ام خالد فنجوا بحياتهم.
يشار الى ان ثمة قرى عربية مجاورة للطنطورة لم تشارك في العمليات القتالية، مثل الفريديس وجسر الزرقاء، وقد سلمت تماما وهي قائمة حتى اليوم، ولم يطلق الجنود الاسرائيليون رصاصة واحدة باتجاهها، بل غضوا الطرف عن إيوائها للفارين من قرية الطنطورة، حيث ما زالت عشرات العائلات التي غادرت قرية الطنطورة تعيش في قرية الفريديس حتى اليوم.
يُلفت الى ان الدول العربية ممثلة بالجيوش النظامية ووحدات من المتطوعين من الدول العربية سميت جيش الأنقاذ، ساندها أهالي قرى فلسطين، شنوا حرب إبادة عام 1948 ضد الوجود اليهودي في اسرائيل، وأصدرت الهيئة العربية العليا هي والمستويات الفلسطينية الوسطى سلسلة أوامر لإخراج الاطفال والنساء والشيوخ من القرى ريثما تهدأ الأوضاع. وهكذا، فان قسما كبيرا من عمليات ترك القرى تمت بتعليمات من القيادة الفلسطينية ذاتها.
التعليقات (0)