حركة التتريك
انتشرت داخل الإمبراطورية العثمانية العديد من الجمعيات السرية التي تدعو إلى إحياء القومية التركية على الرغم من الثعلب الأحمر ( السلطان عبد الحميد) استطاع أن يتبدع نظام جاسوسية صارم، إلا أن الدعوة إلى التتريك وجدت قبولاً في أواسط الجيش العثماني وبالأخص غلاة العلمانيين من الضباط أمثال مصطفى أتاتورك ورفقائه الذين انضموا إلى الجمعيات السرية وأهمها جمعية "الوطن" وكان أعضاء هذه الجمعية ثائرين على السلطان وتدخل الدول الأجنبية في الشئون الداخلية لبلادهم. وقد اختار أعضاء الجمعية النضال لإقامة حكومة دستورية لينقذوا بلادهم وهاجموا الوعاظ والدعاة واعتبروهم دورايش يضللون الشعب ونادوا بوجوب إلغاء القوانين العتيقة (4)ولكن عيون السلطان نقلت أخبار الجمعية وتم إغلاقها واستمرت تعمل سراً.
مشروع التتريك الذي تبناه الجيش ( الثوار) جاء كردة فعل للظلم والهزائم المتتالية للجيوش العثمانية وإحساس الأتراك بأنهم يدافعون عن أمم وشعوب لا يجدون معها أي قاسم مشترك سوى الدين كالعرب، فهم نظر مخطط ومنفذ حركة التتريك(مصطفي كمال اتاتورك) ان العرب أمة والأتراك أمة وإن الفلاحين والعمال الأتراك يموتون من أجلهم وهم ينعمون بالأمن ويقودوا الثورات لأضعاف النفوذ العثماني، لذلك لا يمكن أن يكون هناك توافق وإنما على الأتراك أن ينظروا إلى واقع أمتهم دون الإهتمام بهذه الشعوب، لذلك لا يمكن أن يكون هناك توافق وإنما على الأتراك أن ينظروا إلى واقع أمتهم دون الإهتمام بهذه الشعوب، لذلك جاء مشروع الأتاتوركية تعبيراً عن تراث العلمنة والتغريب للإمبراطورية العثمانية والذي بدأ يتصاعد من عصر التنظيمات، وذلك بمحاولة يائسة للحاق بالغرب واسترداد الدور الطليعي للدولة التركية، وتعتبر الأتاتوركية تجسيد للنزعة القومية في الإمبراطورية العثمانية.(1)
وكانت بداية حركة التتريك منذ عصر التنظيمات ولكن يعتبر العام 1908م والذي ظهرت فيه " جمعية الاتحاد والترقي" هي البداية الحقيقية للصراع بين القومية والدعوة إلى فكرة الدولة الإسلامية والخلافة. وقد لعبت الجمعيات اليهودية والمحافل الماسونية الدور الأعظم في نفخ الروح العلمانية والدعوة إلى الإلتفات لقضايا الوطن وتناسى مسألة الخلافة، وذلك في إطار مشروع استهدف الدولة العثمانية وبالمقابل لحركة التتريك نمت حركات وانتفاضات أسهمت في إقناع الشارع العام التركي بأن يبحث عن مصالحة(2)
ونتيجة للصورة المتخيلة في الذهنية التركية عن العرب فإن الدعوة إلى التتريك وجدت أرضية صلبة في مقابل قوة السلطان الذي بدأ لا حول ولا قوة له إزاء الهزائم المتوالية لجنوده والثورات الداخلية(3) مع تنامي العثمانيون الجدد وهم النخبة المثقفة التي كانت تناقش جميع المسائل الفكرية والسياسية والاقتصادية، وكذلك وجود العلمانيين أخذ يتزايد وهم الذين أخذوا يروجون لفكر قيام الجمهورية على أنقاض دولة الخلافة العثمانية وحصر إهتمامات الدولة في داخل الأرض التركية وكان مصدر إعجاب هؤلاء العلمانيون الثوار هو الغرب الذي استطاع أن يفجر ثورة صناعية كبرة مكنته من أن يغر العديد من المفاهيم والأسس المتوارثة كما صاحبت عملية التطور انفتاح شديد على المجتمع الغربي واشتداد حركة المقاومة العربية للدولة العثمانية مع بروز المطامع الغربية في البلدان العربية، لذلك كانت الدعوة إلى القومية داخل تركيا محاولة للحفاظ على وحدة الدولة ودعوة إلى تغريب المجتمع التركي والتي ظهرت منذ عهد التنظيمات في عام 1839م(4) واهتم الأتراك بتتريك القوانين والتعليم ومحددات السياسة الخارجية للدولة.
تأثير مفهوم القومية على العلاقات العربية التركية: لا يكاد يتفق الباحثون على تعريف محدد للقومية إلا أن هنالك اتفاق حول محدداتها وهي ( الدين، اللغة، العرق، الثفافة والمصالح المشتركة) وقد أخذ التيار القومي العربي يتنامى منذ فترات النهضة العربية الحديثة، التي اخذت تتنامى بعد الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي والعربي وبدأت الإمبراطورية العثمانية في الإضمحلال, وقد تعززت فكرة القومية العربية بنشوء الأحزاب والأندية والجمعيات السرية العربية التي نادت بضرورة الوحدة العربية في أواخر الحكم العثماني إلى أن قامت الثورة العربية وافضت إلى حركة الاستقلال في بعض الأقطار العربية وقيام الحكم الوطني وتدرجت حركة القومية إلى قيام الجمهورية العربية المتحدة كاتحاد كونفدرالي بين مصر وسوريا. على الرغم من انها تعرضت إلى نكسة سياسية واجتماعية لم تتمكن من أن توحد العالم العربي بل حدثت تجزئة في الفكر القومي العربي. وبدخول العرب في صراع مع العدو الصهيوني وقيام دولة إسرائيل تماسكت الجبهة القومية العربية واستعدت للحرب مما عزز في الوجدان العربي الحاجة إلى التعاون فيما بينها، ولكن هناك جهات توالي العدو الصهيوني عملت على إضعاف مكانة العالم العربي وخلق نظم إقليمية للحكم موالية وتضمن له بقاءه وبقاء مصالحه ومصالح الحكم الإقليمية المتحالفة مع الاستعمار(1) مما زاد التناقض بين النظم العربية أوجد الفجوة بين الأتراك والعرب كان الفكر القومي التركي يتنامى ويضغط على سلاطين آل عثمان من عهد الإصلاحات ويطالبهم بالإلتفات إلى واقع المجتمع التركي فقط دون الإلتفات إلى بقية الشعوب التي يرونها سبب انهيار الإمبراطورية ومدعاة للحرب والعنف من دون أن يجني الأتراك منها شيئاً واحداًَ، بل يرون أن العرب هم السبب الأساسي وراء سقوط الإمبراطورية العثمانية، وقد اسهمت المؤسسات العلمية في نشر الوعي الجديد، وكان الأتراك قد أنشأوا جامعة إستنطبول وحذا التعليم الحذو الأوربي، أنشئت أكاديمية العلوم العثمانية وتخرجت صفوة متعلمة أو بالأصح متأوربة إلى جانب صفوة رجال الدين(2) فتنازعت في المجتمع التركي ثلاثة تيارات الأول يقوده المثقفون "المتأوربون" الذين دعوا إلى الأخذ بالأنموذج الغربي ودعوا إلى علمانية الدولة ثم دعا رجال الدين إلى تيار " العثمنة" والتيار الأخير الذي يدعوا إلى فكرة " الجامعة الإسلامية" وقاده بعض السلاطين، ولكن الصراع اشتد بين تيار الأسلمة والعلمنة، وبعد اتفاقية برلين عام 1878م تفجرت الحركة القومية الداعية إلى إستقلال الشعب التركي والتنازل عن مشروع الجامعة الإسلامية وكانت الدولة تتعرض إلى التمزق الحاد. لذلك وجد دعاة العثمنة الطريق مفتوحاً واتجهت أفكارهم إلى إقامة أمة عثمانية عن طريق منح غير المسلمين المساواة مع المسلمين وجعل جميع المواطنين متساوين في إطار دولة واحدة.
كان هناك تناقض حاد بين الفكرة الداعية إلى القومية العربية والقومية التركية ونتيجة لذلك وضع التاريخ الطويل المتصل بين العرب والأتراك في مفترق الطرق، فالعرب يطمحون نيل استقلالهم من الاستعمار التركي، والأتراك يرون أن العرب نعموا بالأمن والحماية على حساب دولتهم دون أن يسهموا في بناء هذه الدولة، فالعرب تآمروا مع الإنجليز والفرنسين ضد الدولة العثمانية لتقطيع أوصالها وأدى فعلهم هذا إلى وقوعهم تحت سيطرة القوى الإستعمارية وقد بدأت المؤمرات العربية ضد محمد علي باشا، ويرى الأتراك أن ثورة عام 1916م كانت ثورة بدو تعبر عن المصالح الضيقة وليست ثورة قومية ونسبوا إلى العرب قتل الجنود الأتراك ولم يستقد العرب بقيام دولة عربية موحدة وإنما تمت تجزئة المجتمع العربي إلى عدة أقطار ووقوع بعضها تحت الوصاية الإنجليزية والفرنسية(3)
وعلى الرغم أن ما يجمع العرب والأتراك كبيراً فالدين والتاريخ هما عنصران مشتركين وأنهما الآن أكبر من عوامل الفرقة بين العرب والأتراك لأن كل طرف ينظر إلى الآخر بأنه خطيئة فالعرب يرون الدولة العثمانية دولة استعمار والأتراك يرونه استغلال من قبل العرب للأتراك لتوفير الأمن للبلدان العربية. وقد تعاظمت المسافة حيث التحقت تركيا بحلف شمال الأطلسي أن تكشف نشاط مصطفى كامل في جمعية الوطن واقتيد إلى السجن الأحمر ثم أطلق سراحه ونقل إلى دمشق.
التعليقات (0)