تنازع التعلم والاستعجال

لا مندوحة في أن الاستعجال يعتبر خاصة إنسانية، كما في قوله تعالى "وكان الإنسان عجولا"، وهذا المنطوق الدال على المضي يحيل إلى الديمومة والمطلق، أما التعلم فهو لازم للإنسان باعتباره الكائن الوحيد المثقف الذي باستطاعته أن ينطلق من ربقة الطبيعة إلى مجال الثقافة والاكتساب، وإن كان يشترك مع الحيوان في التعلم إلا أن التعلم الحيواني يكون لا محالة لاواعيا، أما التعلم الإنساني فيرتبط لزوما بالوعي، ما دام الإنسان عينه كائنا واعيا بأفعاله، ومنه فالاستعجال والتعلم متصلان من حيث كونهما خاصتين لازمتين للإنسان، غير أن هذا الاتصال لا يتعلق إلا بمنطوق الكلمتين، أما بالنظر إلى مفهومهما فهما منفصلتان ضرورة لأن الاستعجال قرين للسلب، بينما التعلم لازم للإيجاب، ومن تم فالجمع بينهما في أي تصور كيفما كان يعد من قبيل الوقوع في التناقض، إلا إذا كان المتناقضان المتخالفان وجهين لعملة واحدة، كأن نجمع بين المرأة والرجل لبناء مفهوم الإنسان مثالا، ومادام الاستعجال والتعلم ليسا كذلك بطل لفهما.

كل النظريات التربوية المتعاقبة، وكل الإبدالات النظرية التي كانت سندا لها ومرجعا تجمع أن التعلم والاكتساب غير يسيرين، ولعل اختلاف النظريات وتعدد أصولها الابستيمولوجية يبرر مدى تعقد هذه العملية الذهنية. إن النظرية السلوكية التي قامت على مفاهيم من قبيل التعزيز والإشراط والفعل ورد الفعل والإثارة والاستجابة، كانت تنظر إلى العمليات الذهنية المتعلقة بفعل التعلم بوصفها تدخل ضمن الغرفة السوداء التي استعصى على رائدها واطسون ولوجها، مادامت هذه العمليات ذهنية غير قابلة للمعاينة والتشخيص، لكن الذي يمكن معاينته هو آثار التعلم على الفرد.

 هذا الأنموذج السلوكي الذي يضع في صلب اهتمامه السلوكيات القابلة للمعاينة فحسب، بعدما فطن إلى أن المناطق اللاشعورية التي كان يدرسها في مراحله الأولى باعتماد منهج الاستبطان ضرب من التجوز، كان ذلك إيذانا بولادة براديم جديد يأخذ الذهن البشري موضوعا لدراسته، يتعلق الأمر بعلم النفس المعرفي الذي استثمرت نتائجه الدراسات التربوية الحديثة، خلص إلى أن معالجة المعلومات التي يستقيها الفرد من خلال تفاعله مع المحيط، تبين مدى تعقد العمليات الذهنية المتعلقة بالتعلم مما يجعل الحديث عن الاستعجال في التعلم محالا، ومنه نبطل علاقة الوصل بين الاستعجال والتعلم ونرجح الانفصال بينهما.