انهى الامين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" الجزء الاول من مسلسل التشويق والاثارة البوليسي الذي عرضه على جميع شاشات التلفزة اللبنانية، في الفترة الممتدة ما بين 16تموز و9آب2010، وقد تضمن 5 حلقات كانت اشبه بمرافعات قانونية مليئة بالتخبطات والسقطات والعثرات ممن وضع نفسه مختارا في قفص الاتهام، محاولا بذلك اقناع اللبنانيين بوجهة نظر بدا واضحا انه شخصيا غير مقتنع بها!
ففي 9آب 2010، كان اللبنانيون والمعنيون في العالمين العربي والاسلامي على موعد مع مؤتمر صحافي اشعرت الهالة الاعلامية والاعلانية التي سبقت وواكبت انعقاده، انه سيشكل ذروة الخطة التي اتبعها نصر الله في حملته الهجومية والتصاعدية على القرار الظني للمحكمة الخاصة بلبنان. وجرى الترويج للمؤتمر الصحافي من قبل أوساط قوى 8 آذار على انه "سيكشف معطيات كفيلة بقلب مجريات التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولن يكون ممكنا بعد كشفها تجاهل القرائن التي سيكشفها، مما سيضع جميع المعنيين امام واقع جديد".
غير ان المؤتمر الذي استأثر باهتمام اعلامي وسياسي واسع انعقد في موعده المنتظر، وبدا دون المستوى الذي اعلن عنه والاهمية التي رُوّج لها، حتى صح فيه المثل العربي القائل: "تمخض الجبل فولد فأرا"!
فقد اطلق الأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" قنبلة صوتية دخانية لا قيمة لها ولا تأثير على الصعيد الهجومي ولا حتى الدفاعي، تمثلت بمجموعة حوادث وافلام واعترافات حمّلها اكثر مما تحتمل وبنى بينها رابطا وهميا مفترضا للتأثير في قناعة الجماهير، الا انها مع ذلك ظلت معطيات لا ترقى لأن تشكل مضبطة اتهامية لاسرائيل التي يتمنى الجميع ان تكون وحدها الضالعة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تبعها من اغتيالات طالت خيرة قادة ثورة الارز، لا اي جهة داخلية او عربية شقيقة. وعلى كل حال، حسنا فعل نصر الله عندما سارع الى استخلاص ما قدمه في المؤتمر بقوله: "انا لا ادعي انني اقدم دليلاً قطعياً، بل قرائن ومعطيات تفتح آفاقاً جديدة للتحقيق للمرة الاولى مع اسرائيل".
هذا، ويمكننا تجزئة مؤتمر نصر الله الصحافي وآلية توجيهه الاتهام الى لاسرائيل، الى مقدمة واربعة اقسام اساسية:
1- في المقدمة، كشف ملف العميل احمد نصرالله الذي قال انه عمل عام 1993 على اقناع الرئيس رفيق الحريري بأن الحزب يخطط لاغتياله، والذي ظهر في شريط مصوّر يدلي باعترافاته لدى توقيفه عام 1996. وهذه القصة التي اختار نصر الله ان يجعلها في مقدمة مؤتمره، لا تشكل دليلا على اتهام اسرائيل، فالجميع متفق على انها العدو ومن مصلحتها الايقاع بين اللبنانيين، وهو ما اشار اليه نصر الله صراحة بقوله: " لم أعتبر أن ما قام به أحمد نصر الله دليلاً، فضلاً أن يكون دليلاً جرمياً". ومع ذلك، استغلّت هذه القصة المرفقة بفيلم مصوّر، لكي تشكل محفزا يبهر المشاهدين ويشد انتباههم ويهيئهم ليتقبلوا المعلومات التالية.
2- ثم تولى نصرالله في القسم الاول بعد المقدمة تفنيد اسباب اتهامه اسرائيل بالاستناد الى ملف المتعاملين معها والعملاء الذين "تم اعتقال غالبيتهم في عامي 2009 و2010"، مبرزاً نماذج من اعترافات لستة عملاء كلفوا بمهام متنوعة، وهي موجودة لدى الاجهزة الامنية الرسمية وتم تحويلها الى النيابة العامة. الا ان المهام والاعترافات المعروضة لم تمت بصلة الى عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري من قريب او بعيد، وغاية ما فيها، الاشارة الى وجود مجموعات تمتلك اسلحة ومتفجرات وخطوط خلوية، تعمل لصالح اسرائيل في لبنان، وهو امر معروف وليس بجديد. الا ان نصر الله حاول ايهام الجمهور بوجود رابط وثيق بينها وبين جريمة العصر، قائلا: "أنا أدعو الى ان تقوم جهة ما بجمع كل هذه الاعترافات والقيام بدراسة عميقة، وعلى من يريد الحقيقة في اغتيال الرئيس الحريري وغيره من الاغتيالات أن يبدأ من هنا وليس من شهود الزور".
3- ثم تناول في القسم الثاني موضوع الاستطلاع الجوي الاسرائيلي الذي وصفه بأنه "حجر الزاوية في كل ما تقوم به اسرائيل على الساحة اللبنانية". وكشف ان "المقاومة تمكنت عام 1997 من التقاط بث طائرة "أم كا" وهي تقوم بالتصوير وترسله الى غرفة العمليات في فلسطين المحتلة وأصبح هناك امكان ان تصل الصور في اللحظة نفسها الى غرفة عمليات المقاومة". وروى وقائع "عملية انصارية"، وجرى بث شريط يظهر صور طائرة الاستطلاع المتعلقة بها. وعرضت بعد ذلك صور جوية للاستطلاع الاسرائيلي لكل من قصر قريطم والطرق التي كان يسلكها موكب الرئيس الحريري اليه، وتم التركيز على صور التقطت "من زوايا متعددة وفي أوقات مختلفة"، كما عرضت صور جوية لطريق موكب الحريري الى منتجعه في فقرا، وكذلك الى منزل شقيقه شفيق الحريري في صيدا. وأشار نصرالله الى ان "هذه الصور والأفلام لا يمكن أن تكون على سبيل المصادفة".
ومع ان صور الاستطلاع الجوي الاسرائيلي تعتبر الدليل الاقوى نظريا من بين المعطيات التي قدمها نصر الله في مؤتمره الصحافي، الا ان هذه الصور معرّضة للطعن والانتقاد من عدة اوجه:
اولا: الصور مجتزأة و"ممنتجة"، عمد فيها الحزب الى حذف كافة الاماكن التي استطلعها العدو الاسرائيلي في لبنان خلال طلعته الواحدة، وهو بالمناسبة لا يترك قيد انملة الا ويستطلعه، وابقى على الصور الاستطلاعية للطرق والاماكن التي يسلكها الحريري في تنقلاته لايهام المشاهدين انها طلعات استطلاعية مستقلة وخاصة، تمهد لتنفيذ عملية الاغتيال.
ثانيا: الصور خالية من اي تأريخ، مع العلم ان الطائرات الاستطلاعية توثق افلامها باليوم والشهر والسنة والساعة والدقيقة والثانية، وقد بدا واضحا انها صور قديمة العهد تعود الى اواخر التسعينات، وذلك لخلو الكورنيش البحري من بعض الابنية الفخمة التي كانت مكتملة البناء عام 2005 او حتى قبله ببضع سنوات، باستثناء "بناية الاحلام" التي ظهرت في االشريط المصور. فهي صور بعيدة زمنيا عن تاريخ الاغتيال بما يقارب 5 سنوات على اقل تقدير وبالتالي يستبعد ان تكون جزءا من التحضير لعملية الاغتيال.
ثالثا: ليس صحيحا ان جميع الصور المعروضة تعود الى ما قبل عملية اغتيال الحريري كما ادعى نصر الله، ففيما يتعلق بطريق فقرا ومنعطف يسوع الملك، اظهرت الصور ان طريق يسوع الملك مفصولة الى خطين، مع العلم انها كانت خطا واحدا منذ انشائها حتى اوائل العام 2010 او اواخر العام 2009، حين تم مشروع ترميمها...هذا ما افاد به بعض اهالي المنطقة ونقله النائب انطوان زهرا الى وسائل الاعلام.
رابعا: ان التركيز على المنعطفات الذي استشهد به نصر الله ليربطه بعملية اغتيال الحريري، امر طبيعي ومعلوم بالنسبة لاي جهة تتمتع بخبرة واحتراف في عمليات الاغتيال واستهداف المواكب، ولا يقتصر على العدو الاسرائيلي وحده، وهذا ما اشار اليه نصر الله نفسه بقوله: " لأنه عندما يكون هناك موكب وسيارات مصفحة بطبيعة الحال عندما تصل (عندي خبرة لأنني كنت أركب بهذه المواكب)، عندما تصل المنعطف حكماً السيارات سوف تبطئ الحركة وهذا يسمونه المقتل. وبالتالي لا يمكن حصر الشبهة باسرائيل وحدها استنادا لتك الصور، هذا فضلا عن استطاعة اي جهة الوصول الى تفاصيل ادق واحدث من تلك التي اظهرتها صور طائرة الاستطلاع القديمة نوعا ما، من خلال خدمة "الغوغل ايرث" على الانترنت.
4- وتحدث في القسم الثالث عن حركة الاستطلاع الجوي وحركة سلاح الجو الاسرائيلي يوم 14 شباط 2005 تحديداً، فأشار الى تواجد طائرة "أواكس" "المجهزة بالقدرة على التنصت وعلى السيطرة الفنية وعلى قيادة العمليات"، من الساعة 10 حتى الساعة 2,30 مقابل السواحل اللبنانية وصولاً إلى بيروت، رافقها نشاط آخر لطائرة "استخبارات إشارة وحرب إلكترونية مقابل السواحل اللبنانية وصولا الى بيروت". ولاشك انها معطيات مجرّدة من اية قيمة جرمية او حتى فرضية اتهامية، لان مطلقها لم يقدّم اي دليل يؤكد تواجد تلك الطائرات في ذلك اليوم، فضلا عن ان احتمال استهداف موكب الحريري بصاروخ جو-ارض قد اثير من قبل لجنة تحقيق "برامرتس"، وتبيّن عدم صحته.
5- وفي القسم الرابع، عرض نصر الله ما اعتبره "القرينة الأخيرة" فأشار الى تواجد "العميل التنفيذي غسان الجد الذي كانت له علاقة باغتيال غالب عوالي في منطقة عملية اغتيال الرئيس الحريري في السان جورج يوم 13 شباط، وقدمنا هذه المعلومات الى الاجهزة الأمنية، وقد فرّ غسان الجد من لبنان قبل التمكن من اعتقاله عام 2009". وهذه ايضا قرينة واهية لم يقدم اي دليل على صحتها، وعلى فرض صحتها لا تشكل دليلا جرميا، اذ كما تواجد العميل الاسرائيلي في ذلك اليوم في منطقة الجريمة، كذلك تواجد عناصر من "حزب ولاية الفقيه" الذين تمكنوا من رصده هناك.
وبذلك أنهى الامين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" مرافعته الاخيرة التي جمع فيها ثلاثة ادوار معا: المحقق والمدعي العام والقاضي، دون ان يتمكّن من اقناع من لا ينتمون الى شعبه بامكانية توجيه اتهام صريح لاسرائيل باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبقيت وثائقه وافلامه قاصرة عن تغيير مجرى التحقيق والحقيقة.
يبقى، ان معرفة الحقيقة امر مهم جدا لبقاء لبنان وتحقيق امنه واستقراره، لكن الاهم تهيئة الناس نفسيا لتقبلها مهما كانت، ولعل الشيء الايجابي الوحيد الذي فعله نصر الله من خلال مرافعاته الخمس، هو تهيئة الناس للقرار الظني المرتقب صدوره عن المحكمة تفاديا لأية صدمة. فلينتظر الجميع بصمت القرار الظني الذي ستصدره المحكمة، وما سيستند اليه من ادلة اتهامية وجرمية وقرائن ومعطيات، وعندها لكل حادث حديث.
عبدو شامي
التعليقات (0)